مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 11/02/2000

ولا تنسوا الفضل بينكم - مبدأ عظيم

ولا تنسوا الفضل بينكم - مبدأ عظيم


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 11/02/2000


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد، فيا عباد الله‏:‏


جزء من آية من كتاب الله سبحانه وتعالى، وقفت عندها مطولاً، ورأيت كيف أنها تحوي معنىً عظيماً وجليلاً جداً، كم وكم يجدر بالمسلمين أن يقفوا على هذا المعنى، وأن يصبغوا أنفسهم بمضمونه، وأن يقيموا حياتهم على أساسه، ذلك هو قول الله عز وجل‏:‏ ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِير﴾ [البقرة‏:‏ 237]‏.‏


ولا تنسوا الفضل بينكم‏:‏ كم يجدر بالإنسان أن يقف أمام هذه الكلمة التي حشيت بمبدأ عظيم، لا يكاد الإنسان يستطيع أن يشرحه بمجلدات، ونبـين خلاصةً لهذا المعنى الباهر الذي يأخذنا كتاب الله عز وجل به، ﴿وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ شاء الله سبحانه وتعالى، أنه تمتد بين الناس فوق هذه الأرض وشيجة الأُخوة، وشيجة التعاون والتآلف، فكيف يمكن أن تتم هذه الوشيجة، وأن تسري فيما بينهم هذه العلاقة؛ كانت الحكمة التي شاء الله عز وجل، لقيام هذا المعنى بين الناس‏.‏


أولاً‏:‏ أن لا يكون الناس معصومين ـ ماعدا الرسل والأنبياء ـ قضى الله عز وجل من أجل هذا المبدأ، أن يكون الناس جميعاً ماعدا الرسل والأنبياء معرضين للأخطاء، معرضين للآثام وللانحرافات‏.‏


ثانياً‏:‏ قضى الله سبحانه وتعالى أن يوزع بين عباده هؤلاء المحاسن والمزايا الأخلاقية الحميدة، وقضى أيضاً أن يوزع فيما بينهم المساوئ والجوانب الذميمة ،وهكذا ينظر الإنسان إلى نفسه ويقارن بينه وبين من يعلم من إخوانه الأباعد والأقارب، ينظر فيجد في نفسه مزايا قد لا توجد لدى إخوانه الأقربين من حوله، ولكنه يتأمل في أولئك الناس فيجد فيهم من المزايا ومن المحاسن التي تقربهم إلى الله مالا يوجد لديه هو، يعود إلى نفسه فيجد في ذاته من الأخلاق الذميمة، ومن القبائح التي يبغضها الله، أموراً غير موجودة لدى من حوله، فكيف تكون النهاية وماذا تكون النتيجة، عندما يوزع الله سبحانه وتعالى بين عباده هؤلاء المزايا والمحاسن، ثم يوزع فيما بينهم أيضاً النقائص والرذائل، بحيث ينظر كل واحد منهم إلى نفسه، فيجد نفسه مبلىً بنقيصة من النقائص، ولكن أخاه قد عوفي منها، وفي الوقت ذاته يجد أن الله قد أكرمه بمزية من المزايا لم يمتع غيره بها، هذه الظاهرة تجعل الناس بعضهم يحترم بعضاً وتجعل الناس يقدر الواحد منهم فضل الثاني عليه‏.‏


فأنا عندما أنظر وأجد أن نقيصة قد رُكبت في كياني، وأنظر إلى من حولي ممن أعرفهم من الأصدقاء و الأقربين، فأجد أنهم قد عوفوا عن هذه النقيصة أعرف الفضل له، وعندما ينظر الواحد منهم بدوره إلى نفسه فيجد أنه يعاني من بعض النقائص، ولكنه ينظر إليّ وإلى أمثالي، فيجد فيه من المزايا مالا يوجد لديه، يعرف الفضل لي ويعرف الفضل للآخرين، وهكذا يتبادل الناس معرفة الفضل بعضهم لبعض‏.‏


من أين جاء هذا؟


أولاً‏:‏ من أن الله عز وجل شاء أن لا يكون الناس معصومين‏.‏


ثم جاء هذا، من توزيع الله سبحانه وتعالى المزايا الأخلاقية الحميدة بين الناس، بحيث وزع أيضاً فيما بينهم ابتلاءات النقائص‏.‏ هذا الوضع يجعلني أتطامن لك وأعترف بأن لك فضلاً علي، ويجعلك بدورك أيضاً ـ وأنت المطلع على نفسك والمتعرف إلى نقائصك ـ تتطامن وتعرف فضلي عليك، وأنا أضرب المثل بهذا‏.‏


هذا باختصار شديد هو المعنى الذي يتضمنه بيان الله عز وجل ﴿وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ أي إذا جاء من يتباهى بأنه يتمتع بمزية أخلاقية عظمى، يتمتع بالكرم، يتمتع بالذكاء، يتمتع بالإقبال على الله عز وجل بعبادات نادرة قلما يقبل الآخرون إلى مثلها إذا رأيت هذا من نفسي، ينبغي أن أتفحص كياني، فأكتشف في مقابل ذلك النقائص التي أعاني منها، ثم إذا قارنت بين المزية التي متعني الله بها ونقيصتي التي ابتلي بها جاري أو صديقي أو قريـبي، ينبغي أن أتابع ولا أقف عند تلك النقيصة التي اكتشفتها، ينبغي أن أتفحص مجموع ما قد هيأه الله في كياني ولسوف أجد لديه من المزايا مالا يوجد لدي، ومن ثمّ أعرف الفضل له، نعم أنا أمتاز بنعمة متعني الله بها ولكني أعاني في الوقت ذاته من نقيصة لا يعاني بها هذا القريب أو هذا الصديق أو هذا الزميل، وهو يشعر بالأمر ذاته، عندما يجد نفسه ممتعاً بمزية كبرى، يكتشف أنه بالمقابل يعاني من نقيصة ورذيلة ما ينبغي أن تكون موجودة‏.‏ وينظر فيجد الآخرين من حوله قد عوفوا منها، وهكذا تمتد عندئذ وشيجة التقدير والتآلف، ويعرف كل من هؤلاء الناس الفضل لصاحبه، حكمة عجيبة باهرة أقام الله سبحانه وتعالى المجتمع الإنساني عليها، ثم ذكرنا ولفت نظرنا إلى هذه الظاهرة، فهو يقول‏:‏ أيها الناس لا تغرنكم المزايا التي يتنبه كل واحد منكم إلى أنه يتمتع بها فهو إلى جانب المزية التي أو المزايا التي يتمتع بها، يعاني من عيوب ونقائص غرزتها في كيانه، ولسوف يعلم أن هذه العيوب والنقائص التي يعاني منها غير موجودة، لدى جيرانه أو أقاربه الذين يقارن بينهم وبينه، فإذا رأيت لنفسك مزية على أحدٍ من إخوانك فلا تنسَ أن لك نقيصة لا يعاني هو منها، لا تنسَ هذه الحقيقة ثم يأتي بعد ذلك دور حُسن الخلق‏.‏


ما هو حسن الخلق؟


حسن الخلق‏:‏ أن أنظر إلى الناس أبحث فيهم عن المزايا التي تنقصني ولا أبحث لديهم عن العيوب التي بُرأت منها‏.‏ باختصار هذا هو حُسن الخلق‏.‏


حسن الخلق‏:‏ إذا تعرفت على صديق أو إلى جار أو إلى قريب، قد أكتشف بسهولة بعض النقائص لديه، وربما رجعت إلى نفسي فقلت في نفسي أنا لا أعاني من هذه النقيصة، ولكن مهلاً تابع…‏.‏ تجاوز هذه النقيصة لدى جارك وانظر فلسوف تجد فيه مزايا لا تتمتع بها أنت‏.‏ وعندئذ ستطمئن له ولسوف تعرف الفضل له، وهو الآخر أيضاً ينبغي أن ينظر إلي النظرة ذاتها، ومن هنا يتحقق معنى قول الله عز وجل‏:‏ ﴿إِنَّما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات‏: 10]‏.‏


لاحظوا أيها الأخوة ، لو أن كلاً مناّ كان من دأبه أن يتلمس العيوب والعثرات لدى إخوانه وأصحابه وأقاربه ويسير في تعامله مع الناس على هذا المنوال إذاً لتقطعت وشيجة التآلف ووشيجة التراحم والتحابب والود مما بينهم، وإذاً لما برّ ولد أباه، ولما رحم والد أولاده، ولما سرت المحبة والمودة والتآلف بين أخوة وأصدقاء، ذلك لأن الناس كلهم غير معصومين، هكذا شاء الله عز وجل، ولكن الناس كلهم أيضاً إلا المستكبرون الذين طردهم الله في الدنيا من رحمته وهؤلاء أخفى الله عنا هوياتهم، كل الناس ماعدا هؤلاء قد أكرمهم الله عز وجل بمزايا، بمزايا نادرة‏.‏ والله ما رأيت إنساناً لاح لديّ منه في بادئ الأمر أنه رجل سوء له انحرافات وله أعمال سيئة؛ إلا واكتشفت بعد ذلك أن له مزايا لا توجد لدي، ونظرت فوجدت أن الله قد أهدى إليه من الأخلاق الفاضلة ما يجدر أن يوجد مثله لدى الآخرين، عندئذ تذكرت قول الله عز وجل‏:‏ ﴿وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾.‏


يدعوني هذا إلى أن أتطامن إلى هذا الإنسان، ما أدراني هذا الإنسان الذي يتمتع بمزية باهرة لا أتمتع بها أنا لعل الله عز وجل يكرمه غداً إذا قام الناس لرب العالمين بهذه المزية، ويجعل منها شفيعاً لكل السوء الذي اكتشفته في كيانه، وما أدراني لعل هذه النقيصة التي أعاني منها لعل هذا العيب الذي رُكب في كياني، لعله يودي بكل المزايا التي أتمتع بها، فيجعلني الله سبحانه وتعالى قريباً من رحمته بسبب هذه النقيصة التي أعاني منها ما أدراني؟


عندئذ يعلم كل إنسان الفضل لصاحبه وصدق أولئك الربانيون الذين قال قائلهم‏:‏ (كل من رأيت فالخضر اعتقد) ما معنى هذا الكلام أي إذا رأيت في الناس المنحرفين والتائهين والسيئين، فتلمس من وراء ذلك المزايا التي أغدقها الله عليك والتي وزعها فيما بينهم تجد من وراء ذلك مزايا أيضاً، فإذا رأيت هذه المزايا فيهم فسائل نفسك‏:‏ ما أدراني لعل هذا الذي أراه اليوم منحرفاً سيكون غداً من أقرب عباد الله إلى الله؟ ولذلك فلعله هو الخضر، أي كل من رأيت حسِّن الظن به، هذا هو الذي ينجيك من عقابيل عذاب الله سبحانه وتعالى غداً‏.‏


أيها الإخوة‏:‏ إذا مررتم وأنتم تقرؤون كتاب الله عز وجل على قوله ﴿وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِير﴾ قفوا أمام هذه الوصية الكبرى التي حشيت بمعانٍ كثيرة كثيرة وعظيمة، وهي جماع معنى حُسن الخلق، وهي الحكمة من أن الله لم يجعل الناس كلهم معصومين، بل الناس كلهم خطاؤون، ثم هي الحكمة من أن الله عز وجل كما ابتلى هؤلاء الأفراد بالنقائص لأنهم خطاؤون، وزع فيما بينهم المزايا أيضاً، فما تتمتع به من مزية لا أتمتع بها، وما أتمتع به أنا من مزية لا تتمتع بها، إذاً لابد أن يشيع فيما بيننا الفضل، أفضلك علي وتفضلني على ذاتك، وهكذا يكون حسن الخلق، وهذا من معنى قول الله عز وجل ﴿يا أَيُّها النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ﴾ [الحجرات‏:‏ 13] شعوب وقبائل لماذا يا رب؟ لماذا لم يكن الناس كلهم شعباً واحداً طبعوا بمزية واحدة، وبقدرات واحدة؟ إذاً لما شاع بينهم التعارف، كل شعب يمتاز بمزية، كل قوم ميزهم الله سبحانه وتعالى بنوع من القدرات أعطى أرضهم أنواعاً من الأطعمة والأغذية، أنا أحتاج إلى ما متع الله به ذلك الشعب وأولئك يحتاجون إلى مامتع الله سبحانه وتعالى به هذه الأرض، إذاً فلابد أن أمدَّ يد الاستعانة إليهم، ولابد أن يمدوا يد الاستعانة إلي، وهكذا يشيع التآلف والتعارف، ورحم الله من نبهنا دائماً إلى حُسن الخلق من خلال حسن الظن، عند قال قائلهم‏:‏ (كل من رأيت فالخضر اعتقد) ستحمل لنفسك من هذا رأس مال تفد به إلى الله عز وجل، حتى ولو كانت بضاعتك من الدين مزجاةً سيجعل الله لك من حسن ظنك هذا شفيعاً لسوء أعمالك‏.‏


وبعد أيها الإخوة‏:‏ إذا أردنا أن نفلسف حسن الخلق فهذه هي فلسفة حسن الخلق فصلت ثم جمعت ثم اختصرت في هذه الكلمة ﴿وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ ثم شرحها لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما قال فيما رواه الطبراني والبزار من حديث عبد الله بن مسعود وأبي هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ ﴿إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقاً، الموطؤون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إلي المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، المتلمسون للناس العيب﴾. لاحظتم كيف يفسر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا، أنا عندما أتلمس للناس العيب بسهولة أستطيع أن أكتشفه، لكن ليست هذه هي البطولة، البطولة أن تتلمس لنفسك العيب، أن تكتشف ما قد حشي فيك من العيوب، وأن تتلمس ما يوجد لدى الآخرين من الفضائل حتى تطبق من خلال ذلك معنى قول الله عز وجل‏:‏ ﴿وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾، ورحم الله الإمام الشافعي ـ ولسوف أستشهد به وإن كرّه بعض الناس الشعر في الخطب ـ إذ يقول‏:‏


لسانك لاتذكر به عورة امرئٍ      فكلك عورات وللناس أعين


أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم‏.

تحميل



تشغيل

صوتي