مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 04/02/2000

حجاج.. لكنهم يعودون بالوزر لا بالأجر

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

تعلمون أن الحج ركنٌ من أركان الإسلام، وكلكم قرأ أو سمع قول الله سبحانه وتعالى: )وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا[. ومن رحمة الله عز وجل بعباده أن قرن هذا الركن بشرط هو الاستطاعة، وللاستطاعة وجوه ومعان وأنواع كثيرة، فمن لم تتوفر لديه الاستطاعة بأنواعها سقطت عنه هذه الفريضة ولم يحاسبه الله سبحانه وتعالى على تفويته لهذا الركن.

ولست بصدد الحديث عن الاستطاعة وأنواعها وتفاصيلها، ولكني ألفت النظر إلى أن من وجوه الاستطاعة الهامة أن لا يستلزم حج الإنسان ارتكاب معصية، أي لا يتوقف حجه إلى بيت الله الحرام على ارتكاب معصية نهى الله سبحانه وتعالى عنها، فإن علم أن حجه يستلزم تلك المعصية سقطت عنه تلك الفريضة بل تحولت هذه الفريضة عندئذٍ إلى عملٍ محرم، لأن من القواعد الفقهية (أن كل ما استلزم محرماً يُصبح هو الآخر محرماً) الطريق إلى المحرم محرماً.

مثال ذلك: أن يُقال لهذا الإنسان الحاج تعال ألبسك صبغة الإنسان الطبيب الذي يخدم الحجيج بطبه وأيسر لك الحج إلى بيت الله الحرام وهو ليس بطبيب؛ يتزيا بزي الأطباء أو يخلع على نفسه سمة الأطباء ليفتح بذلك نفسه سبيلاً للحج إلى بيت الله الحرام، إذاً توقف حجه على شهادة زور أو على أمر مزيف أو على شخصية كاذبة. أولاً هذا الإنسان إذا توقف حجه على هذا الأمر لم يعد حجه واجباً، ثانياً تحول حجه في هذه الحالة إلى عملٍ محرم.

كذلكم لو قيل لزيد من الناس: سأيسر لك السفر إلى الحج على أن تكون سمتك سمة قصابٍ يعين الناس لذبح هديهم وضحاياهم وما إلى ذلك، وهو ليس من هذه الصنعة في شيء، وهو يعلم أنه إذا ذهب لن يقوم بهذا العمل إطلاقاً. كذلك إذا توقف حجه على أن يصبغ نفسه بهذه السمة الكاذبة لم يعد حجه واجباً بل تحول عندئذٍ إلى محرم، لأنه يحرم على الإنسان أن يخلع على نفسه صفةً يكذب بها على الناس وإذا كان هذا العمل محرماً فما استلزمه أيضاً يصبح محرماً.

مثال ذلك أيضاً أن يتوقف حج هذا الإنسان على رشوة يدفعها لهؤلاء الذين يتنافسون في موسم الحج ويتسابقون إلى أعمال تجارية مربحة هائلة، إذا توقف حجه على عملٍ من هذا القبيل سقط الوجوب أولاً عن عنقه، ثم إن هذه الفريضة تحولت عندئذٍ إلى محرم، وأنتم تعلمون أن الرشوة من أخطر المحرمات التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها، وهي محرمة على الآخذ وعلى المعطي كلاهما ضالعان في ارتكاب هذه المعصية.

وينبغي أن تعلموا الفرق بين الأجرة التي ينبغي أن يدفعها الحجيج لوصوله إلى بيت الله الحرام ولأداءه المناسك وبين الرشوة، فكل ما دخل تحت اسم الأجرة - سواءٌ أجرة أداة الركب أو أجرة السكن أو الخدمات المختلفة المتنوعة أو النفقات - التي يحتاج إليها الحاج كل ذلك داخلٌ تحت الأجرة أو التكاليف المشروعة، أما ما وراء ذلك كأن يستغل زيد من الناس.

وأقولها بوضوح وأضع النقاط على الحروف حتى لا يبقى الكلام ملتبساً يأتي من يستغل تأشيرات دخول بسبب سمعته وبسبب مركزه وبسبب صلته ببعض المسؤولين؛ يعمد إلى تأشيرات الخروج التي منحها بسبب مركزه يبيعها لزيد ولعمر ولفلان من الناس بالغة قيمة هذه التأشيرات ما بلغت؛ يجعل من ذلك تجارة رابحة ليذهب هؤلاء الناس من وراء تجارته حجاجاً لبيت الله الحرام، هذه رشوة محرمة بالاتفاق ولا أعلم اختلافاً بين العلماء في أن هذا العمل محرم. ثانياً الذي يعين هؤلاء الناس الذين يتاجرون بطريقةٍ ملتوية غير مشروعة ضالعون معهم في ارتكاب هذا المحرم.

وإذا جاء من يقول إنني شديد الشوق إلى بيت الله الحرام وإنني مستعد أن أدفع هذا المال بالغ ما بلغ في سبيل أن أروي ظمأي وأن أذهب أرى بيت الله الحرام وأزور رسول الله صلى الله عليه وسلم. نقول له: هذه المشاعر إن هي إلا رقية شيطان ينفخها الشيطان نيران بين جوانحك، الشوق والحنين إلى بيت الله الحرام وإلى زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك لا يجوز أن يترجمه إلا الشرع، لا يجوز أن يفسر إلا بأحكام الشريعة الإسلامية. والمقياس الصحيح لشوق الإنسان هو هذا، ذلك لأن الذي يتشوق لبيت الله الحرام يتشوق إليه رغبة في مرضاة الله عز وجل وإلا فما فائدة هذه الحجارة المتراصفة؟ ما قيمتها إن لم تكن سبيلاً لبلوغ مرضاة الله، فإذا عرفت أن ذهابي لذلك المكان يبعدني عن الله عز وجل ويحملني أوزاراً بدلاً من أن يقربني إلى الله عز وجل فالأعلم أن هذا الشوق ليس شوقاً دينياً إنما هو شوقٌ نفسيٌ كشوق أحدنا إلى أثرٍ من آثار التاريخ سمع به ولم يره، كشوق أحدنا إلى تاج محل في الهند أو إلى الأهرامات في مصر، يشتاق إلى أن يذهب لذلك المكان فيرى هذا الذي يتحدث الناس عنه هل هو شوق ديني لا. كذلكم الشوق إلى زيارة مكة أو المدينة عندما يكون منفصلاً عن قواعد الشرع ليس شوقاً دينياً وإنما هو شوقٌ نفسي شوقٌ دنيوي يهتاج بين جوانح أحدنا كشوقه إلى أي رحلة يبتغي من ورائها حظاً من حظوظ نفسه.

وإنكم لتعلمون أن الحج ومواسمه تحولت في هذه الأعوام الأخيرة إلى ساحة نادرة لتجارة نادرة ما مثلها، ولا أريد أن أفيض في بيان الفرص التي تسنح كالبرق الخاطف، فتمتلئ بها جيوب الناس أموالاً من وراء استغلال هذه المشاعر التي تسمى مشاعر الشوق إلى بيت الله الحرام، عندما تأتي تأشيرة دخول من دولة ما لإنسان ما ثم آتي أنا فأجعل من نفسي وسيطاً بين الدولة التي منحت هذه التأشيرة وبين هذا الذي يريد أن يستفيد منها، فأجعل من نفسي واسطة أطلب بناءً على هذا الشيء مبلغاً كبيراً أم صغيراً من المال، ذلك لأن لي حظوة في سفارة من السفارات، لأن لي حظوةً عند مسؤول من المسؤولين؛ أُمنح كذا تأشيرة وأعود إلى الناس فأبيع ذلك كله بالمبلغ الذي يقتضيه صندوق العرض والطلب. هذا العمل بالنسبة لي عمل محرم لا شك في هذا ولا ريب، وهو من أخطر الأعمال التي يحذر ديننا ويحذر ربنا عز وجل منها، فإذا من جاء من يساعدني على هذا العمل المحرم ويشتري مني هذه البضاعة التي لا قيمة لها إطلاقاً بهذا المال الذي أطلبه فقد أعانني على هذا المحرم، ومن أعان على محرم فهو كمن ارتكب المحرم ذاته.

هذا الكلام واضح أيها الإخوة وقد روي عن المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن أشراط الساعة أنه: سيأتي زمنٌ يتسابق الناس فيه إلى الحج للتجارة، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ما أكثر ما تهتاج مساعي الأهداف التجارية في مثل هذه الأيام بالوسائل المختلفة، فإن رأيتم أو سمعتم من يبرر هذا العمل ويهونه للناس الذين يريدون أن يحجوا، أو يقول لهم لا حرج ولا مانع لأن هذا شرط من شروط الاستطاعة، وإذا كان هذا الشرط موفوراً لديك وإذا كان المال الذي ينبغي أن تدفعه لهذا الوسيط موفوراً فقد وجدت الاستطاعة. إذا سمعتم من يقول ويلغو بمثل هذا الكلام فاعلموا أنه هو الآخر تاجر، واعلموا أن هو الآخر يسيل لعابه على حظوة مالية من هذا القبيل فإياكم وإياه.

أيها الإخوة إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً لا سيما التوجه إلى بيت الله الحرام، عندما يتوجه الإنسان حاجاً إلى بيت الله الحرام ينبغي أن يطيب مأكله، وينبغي أن يطيب مشربه، وينبغي أن يكون ماله نقاية الحلال لا الحلال فقط، بل ينبغي أن يكون ماله الذي هيأه لهذا الأمر من نقاية الحلال، وينبغي أن يعلم إلى أين يصرف هذا المال، ولا شك أن سبيل معرفة ذلك أن يعود فيدرس تفاصيل أحكام الحج إلى بيت الله الحرام لا سيما شروط وجوب الحج وشروط صحة الحج وجوازه، لابد للحاج أن يتعلم ذلك كله، ثم لابد أن يتعلم سير المناسك مراحل المناسك، ولا أشك أن الذي يقفز قفزاً فوق هذا ذاهباً للحج ولزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم ما هي شروط وجوب الحج وما هي شروط جوازه وشروط صحته، ثم هو لا يعلم مراحل النسك المعقدة كيف يصنع وكيف يفعل، وما هي محرمات الإحرام وما هي الواجبات، لا شك أن هذا الإنسان ليس مخلصاً لله، لأنه لو أخلص لله لدفعه إخلاصه للعلم قبل العمل، ومن قفز للعمل لاهياً ساهياً عن العلم فذلك لأن هوىً من أهواء النفس دفعه إلى هذا القفز.

والحج ما أكثر الأهواء التي تتسرب إلى نفوسنا وتدفعنا إليه؟ لا شك أن هنالك حظوة نفسية كبيرة في أعمال الحج، ولا شك أن رحلة يوفق الله سبحانه وتعالى إلى ذلك المكان وإلى تلك المشاهد إنها لرحلة طريفة، إنها لرحلة ممتعة، وإنها لرحلة تمتع النفس وتمتع العين لكن هل هذا هو الذي يقرب الإنسان إلى الله؟ لا.. الذي يقرب الإنسان إلى الله هو الدافع الذي يدفعك إلى العلم أولاً، إلى أن تدرس هذه الشعيرة دراسة دقيقة وإلى أن تتبين خطواتك وأنت تسعى جاهداً للحج إلى بيت الله الحرام.

قيل لك: إن سنك لا تيسر لك الحج في هذا العام إلى بيت الله الحرام إذاً لم تملك الاستطاعة.

جاءك من قال أعطني مبلغاً من المال سأهيء لك سبيلاً للذهاب رشوة. هل يجوز لك أن تدفع هذا المال له؟ لا يجوز. هو سيتوسط لدى المسؤولين بوسائله الأدبية المختلفة ويضع المال في جيبه، وكنت أنت عوناً له على ارتكاب هذا العمل المحرم.

احتسب أجرك عند الله وقل لربك عز وجل: أي رب إنك لتعلم أنني مشتاق إلى زيارة بيتك وزيارة نبيك، ولكني أكثر من ذلك شوقاً إلى التمسك بأوامرك. عندئذٍ يكتب الله عز وجل لك الأجر على حجٍ لم تحجه، ورب عملٍ كتب الله سبحانه وتعالى الأجر لصاحبه وهو لم يفعله، لأن الله اطلع على قصده وعلم لو أن الظروف لو واتته لفعل.

أقول قولي هذا وأسأل الله عز وجل أن يرقنا الإخلاص لوجهه فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي