مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 28/01/2000

رُب نعمةٍ تحولت إلى نقمة!

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

يقول ربنا سبحانه وتعالى في محكم تبيانه: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.

من الناس من يتصورون بموجب سطحيةٍ في أذهانهم، أن للشر مادة يستخدمها الله عز وجل للابتلاء، وأن للخير مادة أخرى يستخدمها الله عز وجل في عباده للإنعام والإكرام، كثيرون هم الذين يتصورون هذا باسم العلم أو يتصورون هذا باسم الطبيعة وإدراك أسرارها، ولكن الأمر على خلاف ذلك.

فإن الله سبحانه وتعالى الذي قال لنا هذا الكلام لفت نظرنا إلى أن كل ما قد خلقه الله عز وجل في لحظة واحدة إن شاء استخدمه نعمة أرسلها لعباده، وإن شاء استخدمها نقمة جعلها تنزل بهم، فليس في الدنيا أو في الطبيعة مادةٌ هي للشر خاصة ومادة أخرى هي للخير خاصة فقط؛ ذلك لأن الذي جعل وسيلة الشر وسيلة له هو الله عز وجل، والذي جعل وسيلة الخير أداةً له هو الله سبحانه وتعالى، فإن شاء بدل الوظائف وإن شاء غير الأعمال والمهن بين مخلوقاته كما يشاء. ولذلك فقد كان من دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا سمع صفير الهواء قال: {اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً}، أي إن هذا الهواء بيد الله عز وجل جندٌ من جنوده سبحانه وتعالى إن شاء أرسلها نعمة وجعل منها مادة خير وسبب إنعاش وسبباً للحياة واستمرارها، وإن شاء جعلها سبباً للدمار والهلاك وهي هي، الهواء هو هو، وليس بين أن يكون هذا الهواء أداة انتعاش وخير وبين أن يكون سبب اهلاك ودمار إلا الأمر الصادر إلى هذا الهواء من الله عز وجل.

أجل لذلك كان يقول: {اللهم اجعلها رياحاً} أي منعشة {ولا تجعلها ريحاً} أي مهلكة. وكان إذا رأى المطر يهمي رفع كفيه إلى السماء قائلاً: {اللهم اجعلها سقيا رحمة ولا تجعلها سقيا عذاب} أي أن هذا الماء الهاطل من السماء هو ذاته إن شاء جعله الله سبحانه وتعالى سبب نعمة ومظهراً لحياة تنتعش بها الأنفس بل تنتعش بها الأرض أيضاً، وإن شاء جعلها أداة نقمة وإغراق، والماء هو هو.

وانظروا إلى قول الله سبحانه وتعالى كيف ينبه الأغبياء من عباده عندما يقول: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} كيف تتصورون وأي غباء هذا الذي يجعلكم تتصورون أن زمجرة الرياح في البحر وأن تعالي الأمواج في عرضه سبب للهلاك؟ فإذا خرج الإنسان من تلك الدائرة إلى البر وقي الشر وحصّن نفسه بحصن الأمان؟ الإله الذي إن شاء جعل من الرياح الهوجاء في البحر ومن أمواجها المتعالية سبب هلاك هو الذي إن شاء يجعل من البر الآمن فيما تتخيل سبب هلاك أيضاً. هذه الحقيقة كم وكم يذهل عنها أناس من عباد الله عز وجل، تنظر فتجد الثلوج تهمي نعمة من عند الله سبحانه وتعالى في صقع من الأصقاع، وتنظر في الوقت ذاته وإذا بهذه المادة ذاتها بهذا الثلج ذاته يهطل نقمة في صقع آخر من أصقاع الله سبحانه وتعالى وبلاده، هنا يهطل هذا الثلج بأمان وطمأنينة واطمئنان، وهنالك يرسل الله سبحانه وتعالى من ذلك أداة للتخريب وأداة للإهلاك، كذلكم الماء كذلكم الرياح.

وانظروا أيها الإخوة ما من سبب أسباب الانتعاش والحياة فوق هذه الأرض إلا وجعل الله من ذلك في عصر من العصور وفي مكان من الأمكنة سبب هلاك حتى نتبين هذه الحقيقة. ألم تقرأوا قول الله سبحانه وتعالى {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.

لاحظوا كيف يلفت البيان الإلهي نظرنا إلى فنون الإهلاك وأدواتها المختلفة، كلها أدوات إنعام فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً، لعله المطر الذي كانوا يتصورونه، وكم مر في معبر هذا الكون أناسٌ لما رأوا الغيوم الداكنة السوداء {قالوا هذا عارضٌ مُمطرنا}. فجاء الجواب من عند الله عز وجل: {بل هو ما استعجلتُم به ريحٌ فيه عذابٌ أليم تدمر كل شيء بأمر ربها}، هذه نعمة لكن الله عز وجل يجعلها عندما يشاء نقمة. ومنهم من أخذتهم الصيحة، أصوات كثيرا ما تكون سبب انتعاش كثيراً ما تكن أداة طرب، فإذا شاء الله عز وجل جعلها سبب صعقة سبب هلاك والصيحة هي هي كل ذلك يسري في هذه الطبلة الصماخية التي تعرفونها، أجل {وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} هذه الأرض التي يسير الإنسان فوقها وهو يتأمل فيها الخير لحياته، وهو يطمع بذخرها الذي في باطنها وينتعش بخيرها الذي يخضر على ظاهرها، ولكن الله عز وجل عندما يشاء يجعل هذه الأرض مظهر شقاء وبلاء وسبب ابتلاع لكل من على وجهها.

هكذا يقول الله سبحانه وتعالى، كذلكم الأمطار كم وكم جاءت مهلكة وكم وكم جاءت محيية نافعة. ما معنى هذا الذي يقوله الله عز وجل؟ معنى ذلك أن نتأمل في كل ما نراه مما نسميه مظهراً من مظاهر الطبيعة، أن نتأمل فيه الخير وأن نتوقى منه الشر، وأن نعلم أن الذي يجعل منه معينا ًللخير هو الله، والذي يجعل منه سبباً للشر والهلاك هو الله سبحانه وتعالى. ليس هنالك شيء اسمه العلم يريك أن هذا خير وأن هذا ضرر إطلاقاً، كل ذلك جند من جنود الله عز وجل يغير الأماكن ويبدل الوظائف، هذا هو ربنا سبحانه وتعالى، وصدق الإله القائل: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} خوفاً وطمعاً عندما تنظر إلى البرق الذي يلتمع في آفاق السماء ثم تسمع صوت الرعد المزمجر بعد ذلك. ما الذي يحدث في كيان الإنسان؟ يتجاذبه شعوران لعل ذلك نذير شر ولعله بشارة خير. ما أدراك؟ من الذي يجعل من هذه الظاهرة بشارة خير؟ الله، ومن الذي يجعل منها نذير شر؟ الله سبحانه وتعالى.

لا العلم يستطيع أن يتدخل ولا الاختراعات تستطيع أن تتدخل بشكل من الأشكال. ولكن نحن ننظر إلى هؤلاء الذين شموا رائحةً للعلم فسكروا بهذه الرائحة فتطوحوا في آفاق من الجهالة العفنة. كم هم ثقلاء وكم يأتي كلامهم ثقيلاً ممجوجاً على النفس وعلى العقل؟ ينظرون إلى الطبيعة وقد أبعدوا أعينهم وعقولهم عمن يسيرها، ينظرون إليها وقد حبسوا أبصارهم كفعل صاحب الدابة عندما يحبس نظر دابته عن النظر يميناً وشمالاً لكي تنظر إلى الطريق الذي تسير فيه ولا تحيد عنه يمنة ولا يسرة، هؤلاء حبسوا أنفسهم وأعينهم في كلمات حفظوها في أمور يرددونها، من أسمج ما قد وقعت عليه عيني وسمعته أذني أن كلاماً قيل من إنسان ليت أنه فهم ما معنى العلم يقول: لا داعي إلى الآمال ولا إلى الدعاء، حقيقة علمية تقول: كلما مر خمسة وثلاثون عاماً على هذا الكوكب الأرضي لابد أن تمر ثلاث سنوات عجاف، لابد أن تمر هذه السنوات العجاف علمياً، لأن العلم هكذا يقول. وليت شعري ما الذي أدراه بالعلم؟ ومن أين أدرك حقيقة العلم ومصدر العلم؟ وجاء بيان الله سبحانه وتعالى العملي لا النظري يقول له: اسكت وارجع فتعرف على نفسك قبل أن تعرف الناس على طبيعة وسلطان الطبيعة وقوانينها ونظمها، من ذا الذي قال لك هذا الكلام؟

كثيرون هم الذين يتصورون أن الدنيا فيها جانبان جانب خير فهو الخير الذي لا شك فيه، ولا يتحول إلى شر. وفيه جانب آخر هو الشر الذي لا يتحول إلى خير، لأنها الطبيعة. ولكنهم لو أدركوا حقيقة العلم وتجاوزا شم رائحته إلى إدراك شيء من حقيقته لعلموا أن الذي يسير الكون هو المكون هو الله سبحانه وتعالى، ولا يزال الذين كفروا في مغرب عالمنا هذا ومشرقه تصيبهم قارعةٌ بما صنعوا أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله، وأنا انطلاقاً من اليقين الذي نقرأه في كتاب ربنا والذي آمنا به عندما آمنا بقيومية الله سبحانه وتعالى، عندما نعلم أنه ما من طغيان يستشري فوق هذه الأرض إلا وقرار الله يتربص به، ولسوف يحيق به هذا القرار إن عاجلاً أو آجلاً.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي