مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 21/01/2000

الصبر والشكر

الصبر والشكر


جاء دور شكر الله بعد أن أكرمنا الله واستجاب دعاء الداعين


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 21/01/2000


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


إنكم لتقرؤون جميعاً قول الله عز وجل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾ [الذاريات: 51/56-57] تلك هي الوظيفة التي أمر الله سبحانه وتعالى الإنسان فوق هذه الأرض في هذه الحياة الدنيا أن يمارسه، فكيف تتحقق ممارسة هذه الوظيفة؟ كيف يكون الإنسان قائماً بوظيفة العبودية لله سبحانه وتعالى؟ يكون ذلك بالالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى عند الشدائد، وبشكره عند المنح والرغائب، ولقد أقام الله سبحانه وتعالى حياتنا الدنيا هذه على اللونين معاً. فالإنسان إما أن تطوف به الشدائد تذكره بالالتجاء إلى الله عز وجل مع التجمل والصبر، أو تطوف به الرغائب والمنح تذكره بشكر الله سبحانه وتعالى. ألم يقل عز وجل: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: 21/35].


وبالأمس كنا نعاني من شدة كادت أن تزجنا في ضرام اليأس، فأكرمنا الله سبحانه وتعالى، إذ وقّفنا بالالتجاء إليه، ولبسط أكف الافتقار بين يديه، وذلك هو شطر العمل الذي أقامنا الله عز وجل عليه، شطر الوظيفة التي تحقق معنى العبودية في حياة الإنسان لله عز وجل، فكان أن استجاب الله عز وجل، وحقق دعاء الداعين، وتأمين المؤَمِّنين، ولبّى حاجة عباده المضطرين، وأكرمنا الله سبحانه وتعالى ثم أغدق من إكرامه. ذهب دور الالتجاء بسبب تلك الشدة، وجاء دور الشطر الثاني، من الوظيفة التي أقامنا الله عز وجل عليها، ألا وهو الشكر، شكر الله سبحانه وتعالى على نعمه، وعلى عطاءه.


وإذا كان الإنسان دائماً بين حالة التجاء إلى الله عز وجل عند المخاوف والشدائد، وبين حالة من الشكر له عند المنح والرغائب والأعطيات، فذلك هو الإنسان الذي أدى وظيفة العبودية التي خلق من أجلها على أحسن ما يكون الأداء، تأملوا أيها الإخوة في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ [النحل: 16/53] أي الإنسان بين أن يكون مقبلاً على نعمة ضريبتها الشكر لله عز وجل، وبين أن يكون مقبلاً على شدة ثمن زوالها الالتجاء بصدق إلى الله سبحانه وتعالى. لقد استجاب الله سبحانه وتعالى إلى دعاء الداعين، وأكرمنا وبالغ في الإكرام، وأعطانا وزاد في العطاء، ولم يقطع الله عز وجلَّ عنا رفده، هكذا عودنا، وهذا هو ظننا به سبحانه وتعالى، فاشكروا الله عز وجل اليوم على نعمه، كما التجأتم إلى الله سبحانه وتعالى بالأمس ليرفع عنا الضّر، وليرفع عنا الشدة.


والشكر كيف يكون أيها الإخوة؟ الشكر يكون أولاً بالاعتقاد، ثم إنه يتجاوز إلى مرحلة هي الحال، ثم إنه يتجاوز إلى مرحلة هي السلوك والعمل، فالشكر ثلاث مراتب: المرتبة التأسيسية الأولى تتمثل بالعقيدة ـ كيف يشكر العبد ربه عز وجل بمعتقده؟ بأن يعلم أن كل نعمة تفد إليه إنما تفد إليه من واحد لا ثاني له، وبأن يفيض قلبه يقيناً بقول الله عز وجل: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ فإذا ربطنا النعمة بالمنعم، وعرفت أن الذي أكرمنا بهذا السخاء من النعم، وبهذه الأعطيات الوافرة الجليلة؛ هو الله عز وجل، لا شريك له لافي ذاته، ولافي شيء من صفاته، فتلك هي المرحلة التأسيسية في الشكر. فهل فيكم من يتصور أن هذا الكرم الرباني الذي أغدقه الله عز وجل علينا بعد سنة ونصف من الشدة المخيفة المرعبة، هل فيكم من يرتاب في أن مصدر هذه النعمة واحد لا ثاني له، ألا وهو الله عز وجل راجعوا أفئدتكم، واطردوا تصورات الأغيار من قلوبكم، وإياكم أن تصابوا بعدوى بؤرة إلحادية صغيرة هينة وذليلة جداً، إياكم أن يصيبكم رشاش من هذه البؤرة الإلحادية القائمة، لا على علم ولا على دراية؛ ولكنها قائمة على استكبار، والاستكبار كما قد علمتم مرض نفسي، وليس قراراً عقلياً بشكل من الأشكال، قد تسمعون لغواً، وقد تقرؤون كلاماً تافهاً مرذولاً، ولكن فاذكروا دائماً قول الله عز وجل: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: 16/53]. إن قيل لكم عن العلم، فاذكروا أن العلم جند بيد الله، وإن قيل لكم عن القواعد الجوية وما إلى ذلك، فاذكروا أن الذين قعّد هذه القواعد هو الله سبحانه وتعالى. وإن قيل لكم إن كتلة هوائية أو ثلجية.. أو.. إلى آخره، تفد من هنا إلى هناك، وتقبل من يمين إلى شمال، أو العكس. فاعلموا أن الذي يسيرها هو الله سبحانه وتعالى. كم من عاصفة توقع المتوقعون أن تصل إلى مكان ما في ساعات ما، وأن تفعل فعلها المخيف، فوجهها الله عز وجل إلى جهة أخرى، وحول مسارها إلى حيث شاء الله سبحانه وتعالى، هذه هي المرحلة التأسيسية الأولى لشكر الله سبحانه وتعالى، وهو من حياة الإنسان كالأساس من البناء، العقيدة التي تتمثل في امتلاء القلب والعقل بمعنى قول الله عز وجل: ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ [النحل: 16/53] وإياكم أن تكونوا ممن قال عنهم الله بعد ذلك: ﴿ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ [النحل: 16/54]. اللهم إنا لسنا من ذلك الفريق، ونسألك اللهم أن تهدي ذلك الفريق.


المرحلة الثانية من الشكر: مرحلة تتمثل في حال تهيمن على عواطف الإنسان؛ بعد ذلك الأساس من اليقين العقلي، ماهي هذه الحال؟ هي الحال التي تنتاب الإنسان تجاه ربه، والتي تتمثل في حبه، والتي تتمثل في شدة التعلق به مولىً كريماً، رحيماً، ملبياً، غفوراً، سمحاً، معطياً، فأنا عندما أعتقد أن كل النعم التي تفد إلي إنما تفد إلي من مصدر واحد لا ثاني له، ألا وهو مولاي الأوحد ـ الله سبحانه وتعالى ـ وأنظر فأجد كيف أن مولاي أزال الشدة وأسبابها عني، وأكرمني بجليل نعمائه، وأنظر فأجد أن صلة ما بيني وبينه من الحوار مفتوحة، أناجيه فيسمعني، وأسأله فيلبي، وأدعوه فيستجيب، عندما أدرك هذه الحالة، وأجد رسل نعمه تفد إليَّ حالاً بعد حال، وأنظر فأجدني غريقاً في كرمه وتحنانه ورحمته، هنا تزدهر الحال التي هي المرحلة الثانية من الشكر، الحب، حب هذا المنعم المتفضل. ألا تشعرون بهذا المعنى أيها الإخوة؟ ألا تشعرون بجليل حبكم لمولاكم، وأنتم تنظرون إلى السحب، وهي ترسل نعمها فوقكم مدراراً؟ وهي تروي أرضكم بعد طول ظمأ؟ وهي تقول بلسان الحال: لقد دعوتم فاستجبت لكم، وسألتم فأعطيتكم، ألا تحبون هذا الإله المتفضل، المعطي، الحنان، المنان؟ وكم وكم طرق أناس أبواباً أخرى، ونحن لم نطرق ولا نطرق يوماً ما، إلا باب مولانا الأوحد. كم طرقوا أبواباً عن يمين وشمال، وماذا وجدوا؟ من الذي استجاب؟ وما الذي استجاب؟ لا العلوم استجابت، ولا الاختراعات استجابت، ولا القدرات البشرية حققت شيئاً مذكوراً فلما صدق الناس في التوجه إلى باب الواحد الأحد ألا وهو الله، وسألوه بصدق وسألوه بتضرع، ووضعوا نسبة عبوديتهم إليه جسراً بينهم وبينه، أكرمهم الله سبحانه وتعالى حيث لم يكرمهم أحد، وأعطاهم بعد أن لم يعطهم أحد، ألا تشعرون بعظيم حبكم لهذا الإله؟ ألا تجدون أنفسكم أمام مصداق قول الله عز وجل: ﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ هذا هو الأساس الثاني لشكر الله عز وجل، أو المرحلة الثانية من مراحل شكر الله عز جل.


أما المرحلة الثالثة: تتعلق، تتمثل في السلوك، فإذا عرفت أن المنعم هو الله، وإذا فاض قلبي حباً لهذا المنعم، فما الذي ينبغي أن أفعل؟ ينبغي أن أصغي السمع إلى بيانه، ينبغي أن أصغي السمع إلى أوامره، إلى نصائحه، فأنفذ ما أمرني الله عز وجل بتنفيذه، أطبق ما أمرني الله عز وجل بتطبيقه من شرائعه، أترفع عن المحرمات التي نهاني الله سبحانه وتعالى عنها، أستعمل بالسلوك كل النعم التي أكرمني الله عز وجل بها لما قد خلقت من أجله، وهذا يعني أنني عندما أجد أن الأنهر غداً قد فاضت بالمياه، وأن الخضرة والرياحين قد ازدهرت على شطآن هذه الأنهر، ينبغي أن لا أعود فأتخذ من هذه الشطآن مثابة معصية، ينبغي أن لا أبني أعشاشاً محشوة بالمحرمات التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها، هذا لؤم أيها الإخوة، لؤم وأي لؤم، ويخيل إلي ـ وأنا أحب دائماً أن أحسن الظن بإخواني البشر، كما أحسن الظن بمولاي الأوحد ـ أظن أنه ما من عاقل من الناس الذين كانوا متورطين بالمعاصي إلا وهم اليوم مستغفرون نادمون عائدون إلى الله عز وجل، ويخيل إلي أنه ما من صاحب عش من هذه الأعشاش فوق نهر من هذه الأنهر، أو فوق ساقية أو جدول من هذه الجداول؛ إلا وقد عاهد الله سبحانه وتعالى أن يطهر عشه هذا من المحرمات بعد أن أكرمنا الله، بعد أن أرانا الوجه المخيف من مقته، ثم أرانا الوجه البسم من عطاءه وكرمه، كيف لا يكون الإنسان متجاوباً مع عطاء الله سبحانه وتعالى؟ هذا هو الأساس، أو هذه هي المرحلة الثالثة من مراحل شكر الله عز وجل. فتذكروا هذه المراحل الثلاث، وتمسكوا بسنة شكر الله سبحانه وتعالى، عقيدة وحالاً وسلوكاً. وعندئذ تضمنون أن يزيدكم الله سبحانه وتعالى من عطاءه. ألم يقل: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، وقد قال بعد ذلك: ﴿وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 14/7].


أسأل الله عز وجل ألا يزجنا في حالة من الكفران، وأسأله سبحانه أن يلهم إخواننا جميعاً حسن الرجوع إلى صراطه، وصدق الاصطلاح مع الله سبحانه وتعالى، وأسأل الله عز وجل أن يلهم الأقلام المنحرفة والألسن الشاردة أن تنسب النعم إلى المنعم، وأن لا تنسب العطاء إلى السماء، السماء جند من جنود الله، خلق من مخلوقات الله عز وجل، يا عجباً لمن يطأطئ رأسه لطبيعة ولا يطأطئ رأسه لمن خلق الطبيعة! وبالأمس قلت: رجل يجمع بين وصفين عجيبين، الجوع الشديد الشديد، والبناء الأشد، مر به إنسان كريم، سخي، شهم، رحيم، وجده في حالة الضنك؛ تكاد تودي به إلى الموت، فأسرع وجاء بطبق من طعام، وأخذ يعطيه بيده اللقمة تلو اللقمة، بمعلقة يدجها في فيه، مملوءة بالطعام الطيب، فلما شبع هذا الجائع الغبي، وكان ينظر إلى الملعقة، وهي تفد إلى فمه مرة إثر أخرى، أخذ يردد قائلاً: إنه عطاء الملعقة، ولولا كرم الملعقة، كرم عطاء الملعقة لهلكت، أجل! عطاء الملعقة، وأخذ يتغزل، ويتحدث عن عطاء الملعقة، لا شك أن هذا الإنسان يضرب به المثل في الغباء، رأى الملعقة ولم ير اليد التي تدنيها من فمه، رأى الملعقة ولم ير الإنسان الذي ساقته الرحمة إليه ليكرمه، ما الفرق؟ لكن أشهد أن هاهنا يوجد شيء آخر غير الغباء، لا يوجد إنسان غبي يحدق في السماء فيسب هذا الكرم الرباني إلى هذه السماء، لكن هنالك استكباراً، هذا هو الذي يمنع من أن ينسب هذا الإنسان كرم الله إلى الله. أين تذهب الإيديولوجيات إذن، لو قال: عطاء الله يغمرنا، عطاء الله يرفدنا؟


اللهم إنا نسألك أن تكرمنا أن لا نبارح حصن توحيدنا إليك، وحصن عبوديتنا.  أقول قولي هذا وأستغفر الله.


تحميل



تشغيل

صوتي