مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 14/01/2000

بل .. (مطرنا بفضل الله وبرحمته)

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

روى البخاري في صحيحه في باب الاستسقاء من حديث زيد بن خالد الجهني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الصبح في حديبية على إثر سماءٍ في تلك الليلة أي على إثر مطرٍ هطلت في تلك الليلة فلما انصرف من صلاته أقبل إلى الناس فقال: )هل علمتم ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال الله تعالى: أصبح الليلة مؤمنٌ بي وكافر. فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمنٌ بي كافر بالكواكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب(.

أيها الإخوة عندما نسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يروي هذا الحديث القدسي عن ربه، نعلم أن الكفر كان مرضاً وبيلاً منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا، وكان ولا يزال يتسلل إلى العقول تسلل الجرثومة إلى الجسد السوي، وفي كل عصر يتسرب الكفر تحت غطاء، وهو هو ذاته، في عصر المصطفى صلى الله عليه وسلم كان المشركون والكافرون ينسبون الأمطار إلى الأنواء إلى حركة الكواكب والأفلاك، ولو أن سائلاً من الناس جادلهم في ذلك لاعتزوا بأنهم إنما يستندون في ذلك إلى علم، فكان غطاء كفرهم وهم في ذلك العصر يتمثل في المعرفة والعلم، مطرنا بنوء كذا. ثم استمر الأمر على هذه الشاكلة واستمرت جرثومة الكفر تسري وتتسرب إلى العقول الهزيلة وإلى الأفكار الضعيفة إلى يومنا هذا، ولسوف تستمر جرثومة الكفر هذه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها... وذلك لأن سنة الله سبحانه وتعالى كانت ولا تزال ماضية، هنالك مؤمن وهنالك كافر، أصبح الليلة مؤمن بي وكافر.

ولكن الأمر الذي يلفت النظر أن أحدنا لو نخر عباب القرون إلى أقصى الأزمنة البعيدة، وسأل الكافرين عن سبب كفرهم، لرفعوا الرؤوس بكفرهم عالياً وزعموا أنهم مع العلم، وأن علمهم هو الذي دلهم على هذا الكفران، مع أننا نعلم أن الجاهلية التي كانت قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مضرب المثل في الجهالة، وحسبك أنها تسمى الجاهلية. ومع ذلك فكفر الكافرين كان يُغطى بحجة من العلم المزيف طبعاً وظلت الأمور على هذا النحو وعلى هذه الشاكلة.

أما الإنسان المؤمن بالله عز وجل منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا فهو ذاك الذي وقف على العلم الحقيقي وتجاوز صور العلم المزيفة، هو ذاك الذي تعامل مع الحقيقة وتجاوز الدجل، هو ذاك الذي وقف على الظواهر ثم نسب الظواهر إلى خالقها ومسببها ومبدعها جل جلاله.

هذان الخطان منذ أقدم العصور مستمران على هذا النهج إلى اليوم، الكفر منذ أقدم العصور كان يصطنع ويتبجح بألفاظ العلم منذ أقدم العصور، ألم تقرأوا قول الله سبحانه وتعالى عن أمم قديمةٍ أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل و الأنبياء ماذا قال عنهم؟ )فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(، إذاً الأمم القديمة التي خلت من قبل كانت هي الأخرى تتباهى بخداعات العلم وتتباهى بالعلم المزيف، وليس صحيحاً ما يزعمه الجهلة اليوم من أن الناس الذين كانوا في التاريخ القصي والقديم كانوا محرومين من العلم، وكانوا محرومين من المعرفة، وأن الله إنما تحيز فقط لعباده الذين يعيشون في هذا العصر فأقامهم من العلم على مائدة عامرة، في حين أنه ترك الأجيال القديمة القديمة وهي تحتاج إلى لمعة بسيطة من العلم ولا تنالها، من قال هذا؟ أي خرافة أشنع من هذه الخرافة!

الأمم التي خلت من قبل هي الأخرى عوملت مع كرم الله سبحانه وتعالى وعطائه، وهي الأخرى دعيت إلى مائدة العلم والمعرفة. فمن الناس من استعمل مائدة العلم سلماً للوصول به إلى معرفة الله عز وجل، ومن الناس من راوحوا في أماكنهم ولم يبارحوا الدرجة الأولى من سلم العلم، اعتزوا برائحة العلم وسكروا من العلم برائحته البسيطة، ثم إنهم استكبروا على الله سبحانه وتعالى، أمم قديمة تماماً ككثيرٍ من الكفرة الذين تنتفخ أوداجهم انتفاخاً مضحكاً بألفاظ العلم واصطلاحاته وهم عن معاني هذه الاصطلاحات تائهون.

ها هو ذا يقول الله عز وجل عنهم: )فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ(، أي قالوا: إن العلم أغنانا عن الإيمان بالله عز وجل، نحن نعيش في عصر العلم والعلم يرفض هذا الذي بعثت به. أفكانوا حقاً علماء؟ لو كانوا علماء لهداهم علمهم إلى الله عز وجل ولكنهم كانوا ممن قال الله عز وجل عنهم: )وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا( أي عقول )وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ(.

تلك هي قصة الإنسان مع الرسل والأنبياء ومع حقيقة العلم. فئة تعاملت مع العلم الحقيقي واتخذت منه سلماً فوصلت من خلال اجتياز درجات هذا السلم إلى الله، وفئة خدعت بالدرجة الأولى من سلم هذا العلم فراوحت في مكانها وهي تظن أنها ترقى صعداً فوق درجات هذا السلم، شمت رائحة هذا العلم ولم تدرك حقيقته. أمم كانت على هذه الشاكلة بالأمس وكانت في التاريخ القصي والبعيد. وها نحن نرى أمماً أيضاً في عصرنا اليوم على هذه الشاكلة.

فماذا نقول نحن اللذين عانقنا العلم بحقيقته لا بألفاظه واصطلاحاته ولا بأشكاله المزيفة؟ فهدانا العلم إلى الله، هدانا العلم إلى معرفته قيوماً أوحد لهذا الكون كله، هدانا العلم إلى عبوديتنا لله عز وجل، هدانا العلم إلى ربانية الله سبحانه وتعالى، هدانا العلم إلى أن لنا مولاً واحداً لا مولى لنا سواه ألا هو الله عز وجل ورأينا أنفسنا وقد انطبق علينا ولله الحمد قول الله عز وجل القائل: )ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ(، نحن الذين تعاملنا مع العلم بحقيقته فأوصلنا العلم إلى ساحة الإيمان بالله وإلى محراب العبودية لله. ماذا نقول؟ مطرنا بفضل الله وبرحمته، ونقول وقد رأينا بأم أعيننا استجابة الله وفضله نقول له: اللهم إنا قد سألناك فأعطيت، وإنا قد دعوناك فاستجبت، وإنا قد التجأنا إليك فلبيت، وأنزلت علينا من غيثك وكرمك وجودك فاللهم إنا نسألك بتوحيدنا لك وبإيماننا بك أن تزيدنا من عطائك وأن تزيدنا من غيثك وكرمك وأن لا تقطع عنا رفدك وأن لا تقطع عنا عطاءك.

ولكن كما وجد في ذلك العصر الجاهلي من أصبحوا فقالوا: مطرنا بنوء كذا أي بحركة أفلاك - وإنما قالوا ذلك باسم العلم - كذلك هنالك أحفاد لهم في هذا العصر سرت إليهم ظلمات الجاهلية أيضاً كما عششت تلك الظلمات في أدمغة أجدادهم آنذاك، قالوا كلاماً آخر.

نبرأ إلى الله سبحانه وتعالى منه نبرأ إلى الله منه، صمتوا ثم صمتوا ثم صمتوا خلال العام المنصرم كله عام الشدة، ثم صمتوا في أوائل هذا الشتاء الشديد أيضاً، حتى إذا هرع المسلمون في هذه البلدة بأمرٍ من قائدهم ورئيسهم إلى الاستغاثة إلى صلاة الاستسقاء فاستجاب الله سبحانه وتعالى لهم، خرج الصامتون عن صمتهم بعد عام ونيف، خرجوا.. ظننا أنهم ليقولوا: آمنا بالله، ظننا أنهم خرجوا عن صمتهم ليقولوا: أجل لقد استجاب الله دعاء الداعين وها نحن نؤوب إلى إيماننا بالله ونتوب عن شرودنا عن صراط الله عز وجل، ولكنهم خرجوا عن صمتهم ليقولوا: ليس المطر الذي هطل وليست الثلوج التي هطلت وغطت مدن سوريا كلها بل أضافت إليها حواشي من هنا وهناك، ليس هذا الخير الذي هطل عن طريق الاستسقاء واستجابة الله للداعين، إنما هو لطائرات صعدت ثم طلعت الطلعة الأولى فالثانية فالثالثة فالرابعة، وهكذا بفضل تلك الطائرات هطلت كل هذه الثلوج وهطلت هذه الأمطار كلها!

ما الذي جعل كل أولئك الصامتون ولا كصمت المدينة المسحورة يخرجون عن صمتهم. لماذا لم يظلوا صامتين وقد بقوا صامتين خلال تحديات الله في العام المنصرم كله؟ إذ كانت تأتي الغيوم داكنة سوداء مثقلة بالأمطار إذ تبعث رذاذها إلى الأرض والشروط العلمية كلها موفورة لهطول الأمطار منها لماذا؟ لم يطلقوا طائراتهم؟ لماذا لم يخرجوا عن صمتهم؟ لماذا لم يقولوا كلمة واحدة جواباً عن تحديات الله عز وجل لهم لماذا؟ لماذا انتظروا أن يهرع مئات الآلاف من الناس إلى الاستسقاء وإلى طلب السقيا من مولاهم الأوحد جل جلاله ثم صمتوا أيضاً إلى أن جاءت الإجابة وطاب لهم عندئذٍ أن يسرقوا عطاء الله سبحانه وتعالى وينسبوه إلى أنفسهم لماذا؟ لماذا لم يبشروا هذه الأمة قبل هطول هذه الأمطار الغزيرة عندما خططوا لإرسال طائراتهم؟ لماذا لم يبشروا الأمة قائلين: مكانكم لا داعي إلى دعاء ولا إلى استسقاء ها نحن نبشركم اليوم تصعد الطائرات في طلعاتها مستمطرة وغداً ستأتي الأمطار تهمي؟ لماذا سكتوا؟ لماذا لم يقولوا قبل يومين أو ثلاثة أيام حتى لا يلتبس علينا عطاء طائراتهم بعطاء الله سبحانه وتعالى لماذا؟

كلكم يعلم الجواب، كلكم يعلم معنى الصمت الذليل الذي لا مجال له إطلاقاً أن ينبس ببنت شفة أمام تحدي المولى الأجل مولانا سبحانه وتعالى، ولكن ألم يكن أولى بهؤلاء الناس وقد ظهر أمر الله وحكمه أنه صاحب الخلق والأمر أنه الإله الذي قال في محكم تبيانه:) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ(

ألم يأن لهم وقد وجدوا هذه الظاهرة وجدوا الشدة التي استمرت ثم وجدوا الرخاء الذي أقبل بعد الاستسقاء وبعد مد الأكف إلى الله بالرجاء ألم يكن الأولى بهم أن يعودوا عوداً رشيداً إلى حمى العبودية لله؟

ألم يكن أولى بهم أن تخنع منهم الرؤوس مطأطأة ذليلة لا للسماء بل لرب السماء سبحانه وتعالى؟

يا عجباً أيها الإخوة لمن يذل ويهون ثم يهون للمخلوق الذي يسميه السماء، ولا يذل ويهون لمن كانت السماء في قبضته سبحانه وتعالى. نعمة السماء هكذا قالوا: نعمة السماء، سألت وأسأل من هو هذا المخلوق الذي يسمى السماء؟ ما وظيفته؟ ما عمله؟ أهو ضابطٌ في جيش؟ أم هو قائدٌ في مملكة أم هو ماذا أهو مخترع يقبع في غرفة عملياته؟ من يكون هذا الذي اسمه السماء؟ نحن نعلم فيما عرفناه من حقائق العلم أن السماء هباءة في مملكة الله سبحانه وتعالى: )وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ( أنا أطأطأ الرأس ذلاً لما اسميه السماء وأستكبر على خالق السماء!؟ فلا أقول نعمة الله.

أيها الإخوة ما أشبه الليلة بالبارحة، صدق رسول الله إذ يروي عن ربه عز وجل: )أصبح الليلة مؤمنٌ بي وكافر فمن قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمنٌ بي كافر بالكواكب( ونحن نقول جميعاً ولله الحمد: مطرنا بفضل الله وبرحمته، لم نمطر لا بنوء كواكب ولا باستمطارات ولا بأي وسيلة من الوسائل.

نحن نعلم أن ما يسمى بالعلوم كلها جنودٌ بيد الله نحن نعلم أن ما يسمى بالقوانين الكونية أو الطبيعية كما يقولون كلها جنودٌ مجندة تحت سلطان الله سبحانه وتعالى، فنحن ولله الحمد نقولها أقولها باسمي واسمكم جميعاً وباسم الملايين ممن يسكنون هذه الأرض المقدسة المباركة: مطرنا بفضل الله وبرحمته، ومعاذ الله أن نشرك مع الله سبحانه وتعالى أحداً، وعندما نتحدث عن النعمة وننسبها إلى مصدرها فإننا ننسبها إلى الله الذي يسخر سماءه ويسخر أرضه ويسخر سحابه ويسخر ما يشاء لما يشاء، ونحن ولله الحمد لسنا يتامى لسنا يتامى تائهين عن مصدرنا الذي ننتمي إليه مولانا الله لنا مولى نحن الذين قال الله عنهم: )ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ(، لسنا كأولئك اليتامى الذين يتطوحون في صحراء الضياع في صحراء التيه، مولانا الله نحن منسوبون إليه نحن عبيده لن يتخلى عنا، فنسألك اللهم أن تزيدنا ارتباطاً بك وحباً لك وإيماناً بك ومخافة منك وتفويضاً إليك واتكالاً عليك ونسألك اللهم أن تهدي التائهين من إخواننا ونسألك اللهم أن توقظهم قبل فوات الأوان وأن تلفت نظرهم إلى وحدانيتك قبل أن يتنبهوا إلى ذلك وقد فات الأوان.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي