مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 19/11/1999

عبادة في الهرج كهجرة إليَّ

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

لقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أن من أشراط الساعة أن يكثر الهرج، والهرج هو الفتن التي تبعث على الظلم وعلى القتل بدون حق، وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض هذه الأحاديث: ما الهرج يا رسول الله؟ قال: {أن يستحر القتل} أي أن يكثر القتل. وهذه العلامة التي أنبأ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرٌ واقعٌ كما نرى، وهو علامة من العلامات التي حدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقعت كما أنبأ عليه الصلاة والسلام. والفتن التي تدور رحاها على العالم والمصائب والرزايا التي تتسبب عن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، والقتل الذي يتزايد في أطراف العالم كله هو مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن من أشراط الساعة أن يكثر الهرج}.

ولكن ما من مصيبةٍ أنبأ عنها الله عز وجل في كتابه أو تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح من سننه، إلا وقد جعل الله سبحانه وتعالى إلى جانب ذلك علاجاً لهذه المصيبة ووسيلةً للتخلص منها والابتعاد عنها، فالمصائب كالأمراض أو الأدواء التي يبتلي الله سبحانه وتعالى بها عباده، وقد أنبأنا المصطفى صلى الله عليه وسلم {أن الله ما أنزل داءً إلا وأنزل له دواءً، إلا السام} - يعني إلا الموت، فبمقدار ما يوجد في الكون من أدواء وأمراض، أوجد الله في مقابلها العلاجات التي تشفي من تلك الأمراض، كذلكم المصائب مهما كثرت المصائب وتعرض لها الإنسان، فإن الله عز وجل حعل أمام الإنسان وسيلة يستطيع أن يتخلص بها من وقع تلك المصائب وشدتها.

ومن أهم العلاجات التي أنبأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للتوقي من الهرج الذي تحدث عنه والابتعاد عنه، الإقبال إلى العبادة، كثرة التبتل والعبودية لله سبحانه وتعالى.

ولقد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم في صحيحه وأحمد وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: {عبادة في الهرج كهجرة إلي أو العبادة في الهرج كهجرة إلي}، أي إذا كثر القتل وكثرت الفتن التي هي من أشراط الساعة، ولاذ الإنسان منها بكثرة العبادة والتبتل والإقبال على الله سبحانه وتعالى، فإن الله يجعل له من ذلك منجاة من وقع تلك المصائب، بل إن هذه العبادة في مثل هذه الحال يتضاعف أجرها ويزداد ثوابها، حتى إن ثواب هذه العبادة يصبح كهجرة إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، عندما كانت الهجرة واجبة وقبل أن يقول: {لا هجرة بعد الفتح ولكن عبادةً ونية أو جهادٌ ونية}.

أيها الإخوة بمقدار ما تتكاثر هذه الفتن من حولنا اليوم ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافينا منها بمقدار ما يكثر الإعراض عن هذا الدواء الذي تحدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمقدار ما يكثر الإعراض عن التبتل والعبادة لله سبحانه وتعالى، وليس المراد بالعبادة طقوساً تعوّد الإنسان عليها في حياته، وإنما المراد بالعبادة صدق العبودية لله عز وجل والتبتل والتضرع لله عز وجل، وإنما مرد ذلك إلى أن تصطبغ المشاعر لا أن يصطبغ اللسان أو أن تصطبغ الأعضاء بمظاهر هذه العبادة أو العبودية.

الإسلام غدا مجموعة مظاهر مجموعة نظم مجموعة حركات وأنشطة، أما الجذور التي تتصل بالفؤاد فالقلب فارغٌ عن معنى العبودية والتبتل والتذلل لله سبحانه وتعالى، وإذا كان الإقبال على صدق العبودية الواجفة لله عز وجل من الضروريات التي لابد منها في الأزمنة الخالية، فإن ضرورة الإقبال إلى هذه العبادة تتضاعف اليوم ذلك لأننا نعيش الفترة التي أنبأ عنها رسول الله.

نحن نعيش الأيام القريبة بل المجاورة لقيام الساعة، وهذه هي أنباء الهرج والمرج تسمعونها وكثيراً ما ترونها بوسائلكم المختلفة المتنوعة، تمر المناسبات تلو المناسبات وجل المسلمين غافلون عن هذه المناسبات، والزمن كله في هذه الأعصر الأخيرة مناسبة هذه الفترة التي نجد بها مصداق كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مناسبة تدعو إلى صدق التبتل وإلى صدق الإنابة والتوبة إلى الله عز وجل وصدق الإلتجاء والتضرع لله سبحانه وتعالى، ومع ذلك فما أكثر المسلمين التائهين والغافلين عن هذه المناسبات التي تمر.

ودعوني أقول لكم عن مناسبة صغيرة تمر ضمن هذه المناسبة الكبيرة: هذا الشهر الذي نمر به أو يمر بنا شهر شعبان من هو الأولى بمثل هذه فرصة هذا الشهر والإقبال فيه على الله، نحن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم. رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي قال له الله عز وجل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ}، وهو الذي قال له الله عز وجل: {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ولا ذنب له - أما نحن فمرهقون بالمعاصي والأوزار، ثم إننا نعيش عصر هذا الاختناق الذي ترون، كل ما حولنا ينبهنا ويدعونا إلى كثرة الإلتجاء إلى الله وإلى الإسراع للتوبة إلى الله عز وجل، وننظر فنجد أن السادرين على غيهم لايزالون سادرين، وأن المنكبين على لهوهم ومعاصيهم لا يزالون مستغرقين في ذلك، ومهما ارتفعت أصوات النذر، ومهما تجلت آيات الله عز وجل فننظر فإذا بهؤلاء التائهين لا يزدادون إلا تيهاً.

شهر شعبان، سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبب كثرة الصيام فيه، قال: {ذلك شهرٌ يغفل عنه كثيرٌ من الناس بين رجب ورمضان وهو شهر ترتفع فيه الأعمال إلى الله ون إلا تيهاً ع إلى ناسبة صغيرة تمر ضمن هذه المناسبة الكبيرة هذا الفأحب أن يرتفع عملي إلى الله وأنا صائم}.

وقد ورد بسند ضعيف فيما رواه ابن ماجه عن علي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: {إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله ينزل في كل ليلة من هذا الشهر إلى السماء الدنيا فيقول: ألا هل من مستغفر فأغفر له ألا هل من داع فأستجيب له}.

وقد روى البيهقي بسند صحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فصلى، فأطال السجود، فظننت أنه قد قبض فقمت فحركت اصبعه فتحرك، فرجعت - أي اطمأننت ورجعت، فسمعته يقول في سجوده: {اللهم إني أعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك}، فلما قام من سجوده وأتم صلاته. قال: {يا عائشة أظننت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خاس بكي ؟ قالت: لا والله يا رسول الله ولكني خشيت أو ظننت أنك قد قبضت فقال أتعلمين أي ليلة هذه؟ قالت الله ورسوله أعلم، قال لها: هذه ليلة النصف من شعبان يطلع الله سبحانه وتعالى فيها على عباده فيقول ألا من داعٍ فأستجيب له ألا هل من مستغفر فأغفر له ويؤخر أهل القطيعة والأحقاد فيما هم فيه}.

هذه الفرصة تمر بنا ولسوف تأتي بعدها فرصة أخرى، وفرص الرحمة الإلهية سلسلة لا تنقطع. لكن أين هم الذين ينتهزون فرص هذه الأبواب المفتحة التي ينادي الله عز وجل فيها عباده أن يتوبوا إليه حتى يتوب عليهم؟ وأن يستغفروه حتى يغفر لهم؟ لا نجد!

نجد التيه لا يزال مطبقاً، ونجد القلوب القاسية لا تزال تستمر وتزداد قسوة، ولا يقولن قائل وهاهي ذي المساجد تفيض بالمصلين فيها. وهل المصلون إلا هؤلاء التائبون العابدون الحامدون؟ هؤلاء قلة أيها الإخوة، تجاوزوا صور هذه المساجد ومن فيها وانظروا إلى الكثرة الكاثرة هناك في الفنادق في كل ليلة، في أماكن اللهو من كل ليلة، بل إلى البيوتات في كل ليلة، انظروا إلى الأسواق وما فيها من مظاهر اللهو وما فيها من انغماس في الدنيا ونسيان الله عز وجل ونسيان اليوم الآخر، تلك هي الكثرة الكاثرة، وهذه هي المصيبة الكبرى.

نحن نقول ونكرر القول ... وأحسب أن ما أقوله يصك أسماع هؤلاء الإخوة الشاردين وما أكثرهم، وكلامي وكلام غيري يلاحقهم، ولكن هل سمعتم أن واحداً منهم أقلع عن غيه؟ استيقظ من غفلاته؟ تاب إلى الله سبحانه وتعالى من شروده ومعاصيه وأهوائه؟ أنا أسأل عن أولئك الناس.

الصورة التي نراها لا تدل على شيء من ذلك، هي صورة قاتمة لا تبعث على اليأس، لكنها تبعث على الخوف الشديد من مقت الله سبحانه وتعالى وسخطه.

والمصائب التي يرسلها الله على عباده قسمان:

قسم منها يأتي مظهر انتقام لأولئك الذين انبتت صلتهم عن الله عز وجل، ولا تأتي إلا بعد أن فتح الله عز وجل عليهم الأبواب على مصارعها ردحاً طويلاً من الزمن.

القسم الثاني مصائب هي أشبه بسياط التأديب يبعثها الله عز وجل بين الحين والآخر على عباده المؤمنين به والتائهين عنه المنتمين إليه والشاردين عن صراطه، كما هي الحال بالنسبة لنا، يبعث الله عز وجل عليهم المصائب لتوقظهم فأين هم الذين يستيقظون؟

المصائب التي نراها اليوم مصائب نراها مخيفة فوق رؤوسنا ونراها من حولنا ونرى أخطارها تحت أقدامنا، نراها فوقنا في مظهر هذا الصيف اللاهب الذي استمر واخترق أشهر الشتاء كما ترون، نرى هذه االمصائب من حولنا فيما تعلمون وتسمعون ويوشك أن تتسرب هذه المصائب إلينا، نرى خطر هذه المصائب في الأرض التي نمشي فوقها، من الذي يطمأن إلى أن البقعة التي تمشي فوقها لن تتزلزل بك ولن تبتلعك وتجعلك أثراً بعد عين؟ أليس الله هو القائل {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}.

هذا هو الإنسان محور تدور عليه المصائب من كل جانب، ومع ذلك ننظر فنجد أن القلة المقبلة إلى الله عز وجل مقبلة جهد استطاعتها وليت أنها كانت أحسن حالاً مما هي عليه الآن.

أما الكثرة الكاثرة فأناس أضافوا إلى المعاصي الاستكبار على الله، أضافوا إلى المعاصي العناد، وقد يخيل إلي أنه قد صدق عليهم قول الله عز وجل: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُون َ* لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} هؤلاء أيها الإخوة ينبغي أن يتوبوا ينبغي أن يرعووا، فإن لم يتوبوا إلى الله وإن لم يلجأوا إلى صدق العبودية لله في أزمنة الهرج هذه، فإن القلة التي تلجأ إلى الله لا جدوى من لجوئها إليه.

ألم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم سألته زينب: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: {نعم إذا كثر الخبث}. لابد لهذا الخبث أن يعود فيطهر نفسه، لابد أن يعود إلى الله عز وجل، وكم أقول ولكن كلامي لا يرسخ في الأذهان: إن التجاء القلة اليسيرة إلى الله مع بقاء الكثرة الكاثرة في طريق انحرافها عن الله لا يجدي. وقد ضربت بالأمس مثلاً وأعيده: لو أن رجلاً أساء الأدب في حق ملك من الملوك، وتصرف تصرفات غير لائقة وجاؤه بعض من بينهم وبين الملك صحبة وخلة وحب فقالوا لهذا الإنسان تعال بنا نمضي إلى الملك الذي أسأت إليه لنتوسط لك في أن يسامحك ويصفح عنك، فقال هذا الإنسان الذي أساء: اذهبوا وتوسطوا لي، أما أنا فلن أذهب معك ولن أجرح كرامتي بالوقوف بين يديه. قالوا له: تعال قل كلمة واحدة اعتذر وأره حسن نيتك ونحن سنتكفل بأن يصفح عنك، قال: لا ليست لي حاجة إلى ذلك، لكن أنتم اذهبوا فاستصفحوا وتوسطوا لي بأن يصفح عني. هل يمكن لهذه الوساطة أن تنجح؟ هل يمكن لهذه الوساطة أن تثمر؟

هذه هي حالنا أيها الإخوة ولا داعي إلى أن أطيل.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي