مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 22/10/1999

خطبة الإمام الشهيد البوطي |لهذا أصابنا القحط

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله..

كلما حانت مناسبةٌ ذكرنا فيها إخوة لنا هنا في هذه البلاد العربية والإسلامية بأن يعودوا فيتوبوا إلى ربهم، وأن يرجعوا من الشرود إلى الاستقامة على صراط الله، وأن يستغفروه ويجددوا الاصطلاح معه والبيعة له حتى يرفع عنهم هذه المصائب ويبعد عنهم الرزايا، قامت فئة من الناس فقالوا: ها هم أولاء البعيدون عن دين الله الشاردون عن صراط الله في أقصى بلاد الغرب والشرق منعمون مترفون لا يعانون من شيء من هذه المصائب.

والمصيبة بالنسبة لهذه الفئة أنها تعلم كيف تطيل لسانها بالنقاش والجدل، ولكنها لا تعلم كيف تفتح عقلها للدراسة ولمعرفة حقيقة الإسلام وسنن الله سبحانه وتعالى في عباده، وتلك هي مصيبة المصائب، أن تجد إنساناً خبيراً بالجدل يعلم كيف يطاول العلماء بالنقاش والجدال حتى إذا حان وقت الدراسة، حتى إذا دُعي إلى أن يدرس هذا الإسلام الذي يناقش فيه انصرف عنه وأعرض.

وأنا أقول في الجواب عن هؤلاء الإخوة - وكنت أتمنى لو أن هؤلاء المسلمين المستشكلين وجدوا في بيوت الله سبحانه وتعالى حتى يسمعوا الجواب الشافي عن أسئلتهم هذه. أقول في الجواب:

أولاً باختصار وإيجاز: الأمة التي ليست مدينة في رقيها وحضارتها الدنيوية للإسلام، فإن الله سبحانه وتعالى لن يعاقبها بشرودها عن دين الله سبحانه وتعالى في أن يقطع عنها رفدها، أو أن يبعدها عن حظوظها الدنيوية، لأن هذه الأمم إنما ارتقت سلم الحضارة والمدنية في هذه الدنيا العاجلة بعرق جبينها وبقدراتها وبحيلها، ولم ترق إلى ذلك عن طريق الإسلام، أما الأمة التي كانت ولا تزال مدينة في رقيها في حضارتها للإسلام فلا شك أنها عندما تتنكر لهذا الدين لابد أن ترجع إلى الحالة التي كانت عليها. هذا هو الجواب باختصار وينبغي أن يدركه كل عاقل.

الله سبحانه وتعالى لم يصد في هذه الحياة الدنيا الناس أياً كانوا عن سبل معايشهم وعن الطرق التي يصعدون فيها إلى رقيهم. أليس هو القائل: (كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) سبأ كانت رمزاً لحضارة، وقد أعلن كتاب الله سبحانه وتعالى عن ملكة سبأ أنها أوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم. فهل وصلت إلى ذلك عن طريق الدين؟ لا، وصلت مملكة سبأ إلى ما وصلت إليه بجهودها البشرية، بالأبواب الفطرية الطبيعية التي فتحها الله عز وجل لهؤلاء وهؤلاء للناس جميعاً، ومن ثم فإن من حقها أن تتبوأ حضارتها وأن تتقلب في نعيمها مهما كانت حالها، لأنها ليست مدينة في ذلك للإسلام. هذا بالنسبة إلى الحياة العاجلة الحياة الدنيا. أما العرب فماذا كانوا قبل الإسلام؟ كانوا كما تعرفون مثال التفرق، مثال الجهل، مثال التخلف، مثال الهرج والمرج، كانوا مهمشين على أطراف العالم كما تعلمون. ما الذي قفز بهم إلى هذه السدة العجيبة من الحضارة من الرقي من المدنية البازخة من القوة بعد الضعف من الغنى بعد الفقر من الاتحاد بعد التفرق والتشرد ما هو؟ ما السلم الذي ارتقوا به درجةً درجةً حتى وصلوا به إلى هذه السدة؟ أليس هو الإسلام!

وهل في الناس من يستطيع أن يقول إن العرب الذين كانوا يخبون في ظلمات تخلفهم وجاهليتهم إنما وصلوا إلى الحضارة بعلومٍ ابتدعوها كما هو الحال عند الغرب، بقدرات مادية بذلوا في سبيل ذلك الجهد الجهيد من الذي يقول هذا؟

العالم كله يعلم أن العرب لم ينالوا هذا الذي نالوه إلا بواسطة هذا الإسلام، إذاً العرب مدينون في رقيهم للإسلام. ينبغي أن نعلم هذا من دون الغرب والشرق الذي يضرب إخوة لنا من الجهال المثل بهم يوماً بعد يوم. لولا الإسلام الذي ارتدى العرب جلبابه لما رأيت لهم حديثاً يُذكر، ولتحولوا من الشتات إلى التمزق والتمزق ثم لرأيتهم تبددوا ولم يعد لهم ذكر اليوم في التاريخ. إذاً إذا تنكر المدين للإسلام بعد أن أعزه الإسلام ورب الإسلام مراقب ما النتيجة؟

النتيجة أن يعود هذه الإنسان إلى الحالة التي كان عليها، فالإنسان الذي أعزه دين الله عز وجل وكان قبل ذلك مثال الفقر والتخلف والضعف والجهالة، ثم إن الكبرياء دارت نشوتها في رأسه ثم إن الكبرياء طفحت في كيانه فركل هذا الإسلام الذي أعزه ما الذي يقتضيه المنطق؟ الذي يقتضيه المنطق، بل الذي يقتضيه سنة الله أن يُقال له: ارجع إلى ما كنت عليه من قبل، إنك لم تنل هذا الذي نلته بعرق جبينك، ولا نلت هذا الذي نلته بجهد بذلته كالآخرين، كنت راقداً في حمأة سباتك، كنت جاهلاً .. جاء الإسلام فأعزك يوم أخلصت له، الآن وقد تنكرت له ينبغي أن تعود إلى ما كنت عليه.

رجلٌ يملك داراً بناها بجهده بعرق جبينه، له الحق كل الحق أن يتمتع بداره وأن يعتز بامتلاكه لها، رجلٌ آخر أخلص الخدمة لغني من الأغنياء أخلص الود لغني من الأغنياء، فأكرمه هذا الغني وأسكنه في دارٍ له، وما هو إلا أن استقر المقام لذاك الإنسان في دار ذلك الغني حتى طافت النشوة برأسه طافت نشوة الكبرياء برأسه وعقله، وإذا به يتبجح على ذلك الغني الذي أكرمه وأحسن وفادته، قال له: يا هذا تذكر تذكر النعمة واشكر اليد التي اسدت إليك هذه النعمة ازداد كبراً ازداد عتواً، ما النتيجة التي يفرضها المنطق؟ النتيجة أن يقول له صاحب الدار اخرج من داري وارحل إلى المقام الذي كنت عليه من قبل، لا بد أن يطرد من هذه الدار وإذا طرد إلى أي حال يعود؟ يعود إلى الحالة التي كان عليها.

هل أدركتم هذا المعنى أيها الإخوة؟ قولوا ذلك لهؤلاء الذين يتبجحون، لا يخجلون من جهلهم بالإسلام ومن جهلهم بسنن الله المقروءة في قرآنه وكتابه، ولكنهم يطيلون ألسنتهم بالجدل بالنقاش، وهذا شيء ممجوج ثقيل على الطبع وثقيل على العقل، أجل قولوا لهم هذا الكلام الذي أقوله لكم.

ربنا سبحانه وتعالى لم يأخذ على نفسه أن يأخذ الناس كلهم فقراء متخلفين متفرقين في دار الدنيا، لأنهم لم يسيروا على صراط الله عز وجل. قال لهم: أما في دار الدنيا فهذا مبدأي، (كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ) الكسول لابد أن يعاني من نتائج كسله والخامل لابد أن يعاني ويجتر نتائج خموله، والعامل الذي يبذل الجهد والعرق في سبيل دنيا لا بد أن يصل إلى دنيا، أما حساب الله للناس غداً فمرده إلى قانون آخر، هكذا نقرأ في كتاب الله، وهنالك أمم أكرمها الله عز وجل بالحضارة بالرقي لأنها طرقت أبواب ذلك فحق لها أو عليها قول الله سبحانه وتعالى: (كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا). هنالك أمم وفي مقدمتها العرب كانت مثال الخمول مثال الجهل مثال الكسل مثال الدعة مثال التهارج والبغي، ثم إن الله سبحانه وتعالى أكرمها فأوحى إليها عن طريق رسولها محمد صلى الله عليه وسلم فاستيقظوا على الإسلام وأخلصوا لله سبحانه وتعالى، قفز الإسلام بهم من أدنى دركات الجهل إلى أعلى درجات الحضارة كما تعرفون وكما يقول التاريخ.

واليوم عندما نجد كيف أن معظم هؤلاء الذين كان أجدادهم يعتزون بدين الله عز وجل يستكبرون على هذا الدين، يتأففون من الالتزام به، يتأففون من التمسك بمبادئه، يتأففون من عبوديتهم لله سبحانه وتعالى ويسيل لعابهم على ما عند الآخرين. فإذا أرادت هذه الأمة أن تخلع رداء هذا الدين الذي أعزها إذاً لابد أن تعود إلى النقطة التي كانت فيها، لا بد أن يكون الحساب ناطقاً بهذه النتيجة هل لك على الله سبحانه وتعالى من حقٍ وراء ذلك؟ لا .. أنت لم تبذل أي جهد لكي تنال ما نالته الأمم الأخرى، نقلت من أقصى درجات الخمول والكسل والتهارج إلى أعلى درجات الحضارة بفضل إخلاص آباءك وأجدادك لدين الله عز وجل، فإذا خلف (من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً) هذا كلام الله سبحانه وتعالى، وهذا القرار لا يمكن أن يناقش فيه العقل بشكل من الأشكال، وهذا هو المعنى الذي تنبه إليه أسلافنا أصحاب رسول الله ومن جاء بعدهم أيضاً، وهي الحقيقة التي نطق فيها سيدنا عمر فوعاها من وعاها وظل يجهلها الأغبياء الذين يظلون يجهلونها يوم قال لأبي عبيدة : (نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام فمهما طلبنا العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله) منطق ليت أن هؤلاء الشاردين عن دين الله الذين يبحثون لأنفسهم عن منافسات أخرى لأولئك الحضاريين، ليت أنهم يعلمون هذه الحقيقة.

العرب لن يرتقوا صعداً إلا بسلم الإسلام، لا يمكن إذا أخلصوا للإسلام سيعودون إلى العزة القعساء ذاتها التي أعزهم الله عز وجل بها، وإذا استكبروا عليه ورفضوه وتبرموا منه كما هو الحال عند أكثر أو جل المسلمين، فلا بد أن يعيدهم الله إلى ما كانوا عليه من قبل، هل لهم عند الله جهد بذلوه؟ لا. هل لهم عند الله إمكانات عرقت جباههم في سبيلها؟ لا إطلاقاً. الإسلام هو الذي انتشلهم والإسلام هو الذي حملهم والإسلام هو الذي بوأهم هذا العرش، يرفضون الإسلام إذاً ينبغي أن يعودوا إلى ما كانوا عليه.

وانظروا إلى ما يقوله ابن خلدون في مقدمته: العرب لا يمكن أن يوحدها إلا الإسلام، العرب لا يمكن أن يحافظ على قوتها إلا الإسلام، العرب لا يمكن أن يعزها إلا الإسلام. ابن خلدون يقول هذا من منطلق علمي، وهو الإنسان المؤرخ الذي وعى سنن الله للأمم في التاريخ. لماذا؟ لأن هذه الأمة قبل أن تعتنز بالإسلام كانت مثال التهارج الاختلاف التقاتل الخصام، قبل الإسلام كانت مثال الفقر، قبل الإسلام كانت مثال الجهل، فإذا تركت الإسلام ينبغي أن يستيقظ فيها طبعها من جديد، لا بد أن تتهارج كما يتهارجون اليوم، لا بد أن تعود للخصام كما يعود اليوم، لا بد أن تستيقظ فيها صفاتها السابقة على الإسلام، فقر تفرق خصام تهارج ...

انظروا كيف تتحقق سنة الله سبحانه وتعالى في عباده، ترى أليس هنالك فرصة لأن يعكف هؤلاء الإخوة على سنة الله سبحانه وتعالى التي نقرأها في قرآنه؟ أليست هنالك فرصة لأن يضيفوا إلى جدالهم الثقيل الممجوج شيئاً من المعرفة شيئاً من الدراسة لدين الله عز وجل؟ أجل ينبغي أن نعلم هذا الفارق، عندما نتنكر لديننا ونخون إسلامنا الذي أعزنا لا بد أن يصيبنا هذا القحط. ولا يقولن قائل: ها هي ذي أوروبا دائماً منعمة في الخضرة والثلوج لا تبارح أرضها وجبالها، والأمطار لا تكاد تنفصل عنها لا يقولن قائل هذا الكلام.

أوروبا عندما اعتزت وتقدمت نسجت لنفسها التقدم الحضاري بعقلها بفكرها بقدراتها الدنيوية وقال لها الله سبحانه وتعالى: (كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ" "قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) متاع الدنيا هذا هو قانونه وهذا هو قراره أما نحن متى تعبنا؟ متى نسجنا لأنفسنا حضارة من وراء الإسلام؟ قولوا أيها الإخوة ..سلوا هؤلاء الذين يريدون أن يعتزوا بأخيلةٍ وأوهام في رؤوسهم من دون الإسلام؟ متى عكفت هذه الأمة في يوم من الأيام فنسجت لنفسها هي الأخرى سبيلاً لحضارة سبيلاً لفلسفة سبيلاً لتقدم؟ متى؟

إطلاقاً لم يتحقق هذا إلا في ظل الإسلام لم يتحقق ما نسميه العصور الذهبية في صدر الإسلام إلا بوحيٍ من دين الله الذي كنا أمناء عليه وكنا مخلصين له قادةً وشعوباً، عندئذٍ تفجرت عوامل النهضة لا من جهودٍ خاصة بنا، ولكن من الإسلام الذي كنا أمناء عليه وأوفياء له.

أقول قولي هذا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا الرشد وأن يوقظنا لهذه الحقيقة فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي