مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 15/10/1999

قصة شهر رجب مع صلة الرحم

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى .

أمّا بعدُ فيا عباد الله ..

لقد أظلكم شهرٌ من الأشهر المتميزة بين أشهر العام، نوه بها كتاب الله سبحانه وتعالى ونبه إليها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في خطبته التي ألقاها يوم حج الوداع، نبه إلى الأشهر الحرم قائلاً: )منها ثلاث متواليات ذو الحجة وذو القعدة ومحرم ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان(.

كان النبي صلى الله عليه وسلم ينوه بأهمية هذه الأشهر الحرم، وما سميت حرماً إلا لأن لها حرمة متميزة بين أشهر العام، وكثيراً ما تمر هذه الأشهر بالمسلمين بمختلف بلادهم وأصقاعهم دون أن يتبينوا أهميتها ودون أن يحفلوا بها، ورجب الذي أظلكم اليوم واحدٌ من هذه الأشهر. ومعنى كونها أشهراً حرماً .. أن الإنسان ينبغي أن يعلم أن القربات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى يؤجره الله عز وجل عليها أجوراً مضاعفة، وأن الآثام والمعاصي التي يرتكبها في هذه الأشهر في جنب الله سبحانه وتعالى يعاقبه الله سبحانه وتعالى عليها عقوبات مضاعفة، هذا باختصار معنى صفة الحرام في هذه الأشهر.

وعندما نتحدث عن القربات ينبغي أن نذكر دائماً بأن أجلّ القربات تلك التي تتمثل في رعاية حقوق عباد الله سبحانه وتعالى، وعندما نتحدث عن المعاصي والأوزار ينبغي أن نعلم أن أخطر المعاصي والأوزار تلك التي يتم من خلالها إهدار حقوق الناس أو حقوق عباد الله سبحانه وتعالى، وكم قلت وذكرت بأن حقوق الله مبنية على المسامحة وحقوق العباد مبنية على المشاحة، لو أن الإنسان رحل إلى الله سبحانه وتعالى بأوزارٍ كثيرة مما بينه وبين الله سبحانه وتعالى فاحتمال مغفرتها كبيرٌ جداً، ولكن الإنسان إذا رحل إلى الله عز وجل وكيانه منطوٍ على إهدار حق من حقوق العباد أياً كانوا، فقد توعد الله سبحانه وتعالى هذا الإنسان أن لا يزحزحه عن الموقف حتى يسامحه صاحب الحق، فإن لم يسامحه صاحب الحق أُخذ من سيئات صاحب هذا الحق وطرح في سيئات هذا الذي أهدر له في دار الدنيا حقوقه. والأشهر الحرم من الأشهر التي ينبغي للإنسان أن يرعى فيها حقوق العباد وأن يعلم أن حق الله منطوٍ في حقوق العباد.

كانت إذا أهلت هذه الأشهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُغمدت أسلحة القتال، حتى بين المسلمين والمشركين، فما بالكم بالعلاقة السارية بين المسلمين بعضهم مع بعض، واليوم عندما نجد أن شهراً من هذه الأشهر قد أطل على المسلمين، ينبغي أن نذكر أنفسنا وأن نذكر إخواننا جميعا ًبأن يعودوا إلى وشيجة الإنسانية وعلاقاتها، أهي قائمة بينهم وبين إخوانهم على الأسس الإسلامية التي جاء بها هذا الدين الحنيف، أم هي مهتزة متلجلجة؟

ومقياس هذا أيها الإخوة أن يعود الإنسان منا إلى فؤاده وإلى قلبه، فإن وجد فؤاده باتجاه عباد الله سبحانه وتعالى سالماً وسليماً لا ينطوي على غل، لا ينطوي على حقد وضغينة، فمعنى ذلك أنه مؤدٍ لحقوق هؤلاء الناس، ولكن إذا شعر - وكل منا يعلم بنفسه - أن قلبه منطو على زغل وأن فيه نقاط سوداء اتجاه اخوانه الأباعد من المسلمين فضلاً عن الأقارب من ذوي الأرحام، فليعلم أنه محجوب عن رحمة الله سبحانه وتعالى، في أعم الأحوال عندما يركن إلى هذا الوضع الذي هو فيه، فكيف عندما يطل شهرٌ من هذه الأشهر الحرم؟

كثيرون هم أيها الإخوة الذين يتذرعون عندما تسوء العلاقة بينهم وبين إخوة لهم، أو أقارب وأرحام لهم، يتذرعون بأن لهم عذراً في ذلك ويتحدثون عن هذه الأعذار طويلاً، وكلها تصب في علاقات مالية، تصب في خلافات من أجل ميراث، تصب في خلافات من أجل نتائج شركة قامت ثم التغت وفسخت، قامت من أجل علاقات بدأت ثم لم تسير على نهجها كما كان ينبغي، علاقات من هذا القبيل يتذرع المهدرون لحقوق إخوانهم وأقاربهم وذوي رحمهم بأنهم ظُلموا وبأنهم قد أُسيء إليهم.

هذا الكلام أيها الإخوة إذا أراد صاحب هذا الحق أن يتورع وأن يحطاط لدينه فليعلم أن عليه أن يغمض العين وأن يحيل حقه من هؤلاء الذين يطالبهم به إلى الله سبحانه وتعالى، ولينفذ وصية الله سبحانه وتعالى إذ يقول فيها: )وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(. وقال بعد ذلك: )وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(. وأما إن لم يرد أن يحطاط لنفسه، فليلجأ إلى ميزان الشريعة وما أكثر الذين يهدرون ميزان الشريعة، ويُعرضون عن أوامر الله سبحانه وتعالى إشفاءً لغليل أفئدتهم، وسيراً وراء غرائزهم وطبائعهم، وسيراً وراء اهتياج الحفيظة التي بين جوانحهم. أكثر ما يمكن أن ترى من علاقات بين الناس وأقاربهم؛ علاقات بين الناس وذوي أرحامهم، مهتزة ليست سائرةً على النهج الذي أمر الله سبحانه وتعالى به، والأسباب ليت أنها أسباب دينية، وليت أن السبب يتمثل في أن الصديق رأى صديقه على منكرٍ فذكره فلم يرعوي فأعرض عنه، إذاً لكان هذا مظهر غيرة على دين الله سبحانه وتعالى، ليت أن هذه الحال بين الرجل وأقاربه وذوي رحمه، كان مرده إلى هذا الذي نقول، لا بل لقد استقرأت ولاحظت وسمعت ورأيت فعلمت أن جل أسباب الخصام بل جل أسباب الأحقاد الكامنة بين الجوانح، مرد ذلك إلى الدنيا، مرد ذلك إلى أهواء، مرد ذلك إلى رعونةٍ من رعونات النفس.

وقد تجد الكثير من هؤلاء الناس يهرعون إلى المساجد يهرعون إلى مجالس العلم، قد تجد كثير من هؤلاء الناس يلهجون بالدين والحديث عنه، ولكن ما أيسر على الإنسان أن يهرع إلى المسجد فيتعود على الصلاة ويعود جسمه على حركات الركوع والسجود خلال أيامٍ معدودة فقط، ولكن ما أصعب أن يكون الإنسان رقيباً على قلبه حارساً على فؤاده أن يبقى أبيض نقياً اتجاه سائر إخوانه المسلمين فضلاً عن أقاربه وذوي أرحامه، ما أصعب أن يبقى الإنسان حارساً على فؤاده وأن يستمر في حراسته هذه إلى أن يأتي ملك الموت فينقله عن هذه الدنيا إلى رحاب الله عز وجل، وعندئذٍ يرحل إلى الله بقلبٍ سليم كما دعا أبو الأنبياء ابراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

الأشهر الحرم ورجب واحد منها، يتبغي أن تُذكرنا أيها الإخوة بهذه الحقيقة، حقوق الله قسمان: حقٌ عادي وحقٌ مضاعف، حق الله المضاعف هو ما بينك وبين إخوانك، هو حق الله، ولكن الله سبحانه وتعالى أقام لنفسه حقاً فيما بينك وبين أخيك من علاقات.

ما أصعب وأغرب من حال الإنسان المسلم أن يدخل شهر كهذا الشهر المبارك عليه، وهو واقعٌ فيما حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم منه إذ قال: )لا يحل لمرء أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يقبل هذا فيعرض ويقبل هذا فيعرض وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام(، وأنا أعلم أن بيننا في هذه المحلة، ومن حولنا، بل أعلم أن كثيراً ممن يغشون مساجدنا هذه قد تقطعت صلة القربى وصلة الأخوة الإسلامية مما بينهم وبين إخوة في الله، وكأنهم لم يسمعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، بل سمعوا ولكن رعونات نفوسهم تغلبت على تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسناً كان ذلك في الأوقات العامة، واليوم وقد أطل علينا هذا الشهر الحرام، هذا الشهر الذي كان يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغمد أسلحة القتال فيه بين المسلمين والمشركين، كيف يمكن أن نستقبل مثل هذا الزمن المبارك وعلاقة ما بيننا وبين إخواننا قائمة على هذا الأمر من أجل لعاعة من المال كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم!؟ بل كيف يمكن أن تكون الصلاة التقليدية في حركاتها شاهداً على أن مثل هذا الإنسان مخلص في دينه لله سبحانه وتعالى، الإخلاص يبرز هنا، الإخلاص يبرز في علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان.

خلافٌ مالي ... أحل هذا الخلاف إلى الله يعطك الله سبحانه وتعالى ما فاتك مضاعفاً، والله لا يجرب، لكني على يقين من هذا وأضمن هذه الحقيقة.

أساء إليك بكلمة ... أحل ذلك إلى الله وتقرب إلى الله بتنفيذ وصيته )ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم(.

هذا عندما تكون العلاقة بينك وبين جارٍ لك أو بين أخ لك في الله. فكيف عندما تكون العلاقة بينك وبين قريبٍ لك؟ بين ذي رحمٍ من أرحامك؟!

أتعلم أن قطيعة الرحم من أكبر الكبائر؟

أتعلم أن قطيعة الرحم كما أجمع العلماء جميعاً تساوي ارتكاب الفواحش وشرب الخمر وقذف المحصنات وغير ذلك؟

أتعلم أن قطيعة الرحم أمرٌ حذر الله عز وجل منه في محكم تبيانه بأساليب مخيفة شتى )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(. وقف العلماء في دهشة أمام هذا الاقتران )واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام(، جعل تقوى الأرحام مقرونة بشكل مباشر مع تقوى الله سبحانه وتعالى، دون أن تكون أداة العطف أداة ترتيب كثم والفاء، لا، استعمل البيان الإلهي الواو )واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام( ثم قال: )إن الله كان عليكم رقيباً(.

الإنسان الذي فاض قلبه إيماناً بالله وخوفاً من الله وحباً في الجملة لله سبحانه وتعالى لابد أن يضع المال الذي كان سبب خلافاً تحت قدمه، أن يضع الكلمة النابية التي كانت سبب الخلاف وراء ظهره أن يضع الأسباب كلها أياً كانت للوقيعة بينه وبين إخوانه أو جيرانه أو أقاربه وذوي رحمه؛ يلقي ذلك كله وراءه ظهرياً تقرباً إلى الله عز وجل وخوفاً من هذا العقاب الذي يتهدد به هؤلاء المعرضين عن هذا الأمر المقدس في تبيان الله سبحانه وتعالى وحكمه.

أيها الإخوة سلسلة من المناسبات الزمنية تمر، كل حلقة منها تذكر كل حلقة منها تذكر بما ذكرت به الحلقة الأولى، وإذا تأملتم وجدتم أن محور هذه التذكرة كلها إنما هي رعاية حقوق العباد. أشهر الحرم تدور على هذا المحور، شهر شعبان وفيه ليلة النصف من شعبان تدور على هذا المحور، أجل ولعلكم جميعاً تعلمون أن الله عز وجل يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيقول: ألا هل من داعٍ فأستجيب له ألا هل من مستغفر فأغفر له، يستجيب للداعين ويرجئ أهل الأحقاد وقاطعي الرحم على ما هم فيه . كذلكم إذا جاء رمضان، كذلكم إذا جاءت الأشهر الحرم، كذلكم إذا جاء موسم الحج ... هذه السلسلة من المناسبات كلها يدور على محور واحد ألا وهو رعاية حقوق العباد، الدين كله من عقائده إلى أحكامه إلى آدابه إنما جاء من أجل تغذية الشبكة الإنسانية بصلة القربى، من أجل جعل الأسرة الإنسانية أسرة متآلفةً متحابة .

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .

تحميل



تشغيل

صوتي