مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 13/08/1999

مثل المؤمن وغير المؤمن

مثل المؤمن وغير المؤمن


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 13/08/1999


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أما بعد‏ فيا عباد الله‏


أما بعد، فيا عباد الله: مَثَل المؤمن الذي وجد نفسه يعيش في هذه الحياة الدنيا فوق هذه الأرض، كمثل إنسان مسافر مضت به راحلته أو أداة سفره إلى بيداء واسعة، لا يتراءى لها أفق، ولكن بيده خارطة توضح له معالم الطريق، وتبين له المنطلق والمنتهى، يعلم متى يقف ليستريح، ويعلم إلى أين يتجه ليجد في ذلك المكان مأمنه إذا تعب، وطعامه إذا جاع، وشرابه إذا ظمئ، ثم إنه يسير في مأمن من كل اضطراب وخوف إلى أن يصل طِبْق الخارطة التي أمامه إلى النهاية المنشودة التي يسير إليها. ومَثَل الإنسان الذي وجد نفسه في هذه الحياة الدنيا فوق هذه الأرض منفصلاً عن معرفة الله سبحانه وتعالى، منبتاً عن إيمانه بهويته، وإيمانه بالله سبحانه وتعالى ورسالاته، مَثَل هذا الإنسان، كَمَثَل رجل رأى نفسه فوق هذه البيداء المتسعة البعيدة الأفاق، وليس في يده خارطة تدله على الطريق، ولا يعلم الأماكن التي يتجه إليها من أجل راحته إذا تعب، ومن أجل أن يتناول طعاماً إذا جاع، أو يتناول شراباً إذا ظمئ، يضرب في بطن ـ هذا المنقطعُ ـ في بطن هذه الأفاق يميناً وشمالاً على غير هدىً، لا يعلم المنطلق الذي بدأ منه، ولا النهاية التي ينتهي إليها، فهو في كل خطوة يخطوها مضطرب خائف، ومهما تخيل ومهما حاول أن يعلم، فإن معارفه لا تطمئنه ولا تضعه على رأس طريق لا يعرفها، تلك هي صورة الإنسان الذي يعيش فوق هذه الحياة الدنيا موقناً بالله عز وجل، عرف نفسه وعرف ربه، وأصغى إلى رسالات الله سبحانه وتعالى التي يخاطب الله عز وجل عباده، وهذه الصورة الثانية هي صورة الإنسان الذي لم يعلم ربه، ولم يَعْلَمْ هُوِيَّته، ولم يُصْغِ إلى خطاب الله سبحانه وتعالى له، واستعاض عن ذلك بما تخيله علماً يغنيه عن هويته، ومعرفة هذه الدنيا التي يعيش فيها، بالأمس تجلت هذه الحقيقة كأنصع ما يمكن تتجلى، بالأمس ظهر فرق ما بين المؤمن إيماناً حقيقياً لا تقليدياً بالله سبحانه وتعالى، والإنسان التائه عن ربه المعرض عن مولاه وخالقه، الذي لا يصغي إلى شيء من المعارف التي يخاطب الله سبحانه وتعالى بها عباده، بالأمس تجسدت حقيقة قول الله سبحانه وتعالى: ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون﴾ [الأنعام: 6/82]‏.‏


شهد العالم كله ـ لا أقول في بلادنا ـ شهد العالم الغربي هذا الحديث الذي يعرف المؤمنون جميعاً أنه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، التي يشير إليها قول الله عز وجل: ﴿سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق﴾ [فصلت: 41/53]‏.‏


فأما المؤمنون بالله عز وجل المتعاملون فعلاً وحقيقة مع خطاب الله سبحانه وتعالى، الواقفون عند حدود عبودياتهم لله سبحانه وتعالى، فلم يزجهم هذا الواقع في أي اضطراب، ولم ينقلهم إلى حالة من القلق، إنما ازدادوا إقبالاً على مولاهم وخالقهم، اتجهوا جميعاً إلى بيوت الله سبحانه وتعالى، يركعون ويسجدون، يخاطبون، يجددون ولاءهم لله سبحانه وتعالى، يجددون بيعتهم لمولاهم وخالقهم عز وجل، لم يَسْرِ من ذلك أي اضطراب أو وجل أو قلق إلى نفوسهم، أمر طبيعي أنبأ الله عز وجل، وأخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، رحبوا به دليلاً جديداً على عظمة الله وخالقيته وقيادته لهذا الكون، وعلى عبودية الإنسان لله عز وجل، وأما التائهون عن هذه المعرفة، أما الذين حُجبوا عن الله سبحانه وتعالى، إن بشهواتهم وأهوائهم، وإن بأوهام علومهم ومعارفهم، فماذا كان وقع هذه الحادثة عليهم؟ اجتاحهم الاضطراب، اجتاحتهم مشاعر القلق والخوف، وكان الرائي إليهم كما تنقل وكالات الأنباء بين باكٍ، وبين إنسان أخذ الهلع منه كل مأخذ، وبين متخيل بأن القيامة قد آن لها أن تقوم، وأن الحياة طويت بكل ما فيها من متع ولذائذ، وانتحر من انتحر، وقتل أيضاً بدون موجب وبدون سبب من قتل، ومرت هذه الحادثة على أولئك الناس الذين شردوا عن صراط الله عز وجل، وتاهوا في بيداء التيه والضلال عن هوياتهم وعن خالقهم سبحانه وتعالى، فلم يجدوا الأمن لا في ظلال العلوم والمعارف، ولا في ظلال الاختراعات والابتداعات، ولا في ظلال الحضارة التي تتألق، بل اجتاحهم القلق والاضطراب بشكل عجيب، تعجب له العالم، نعم ولعلكم سمعتم إن لم تشاهدوا الكثير مما استطاعت وكالات الأنباء أن تصفه، وما لم تستطع أن تصفه أكثر وأكثر، إذن نحن أمام مصداق قول الله عز وجل: ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون﴾ [الأنعام: 6/82]‏.‏ وكلمة ﴿أولئك لهم الأمن﴾ فيها حصر كما يقول علماء العربية، أي أولئك لا غيرهم لهم الأمن في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وهم مهتدون. أما الآخرون فهل أغنتهم علومهم عن الإيمان بالله شيئاً، هل أغنتهم معارفهم وثقافاتهم عن معرفة الله سبحانه وتعالى، العلم ما هو أيها الإخوة؟ العلم مظهر من مظاهر سنن الله سبحانه وتعالى في الكون، لله سبحانه وتعالى سنن يعني قوانين، نظم يأخذ الله بها عباده، وينظم بها مملكته وكونه، هذا هو العلم، فالعلم هو مجموعة هذه القوانين التي أرساها الله سبحانه وتعالى في هذا الكون، علم الإنسانُ منها النذر اليسير اليسير اليسير، وجهل الكثير الكثير، لكن ما قيمة أن أعلم قانوناً من قوانين الله عز وجل منقطعاً ومنفصلاً عن مقننه، ما قيمة أن أعلم قاعدة من قواعد الفلك أو الكيمياء أو الفيزياء أو أي قاعدة من القواعد الطبيعية منفصلة عمن قعَّدها؟ منفصلة عمن أرساها ورسخها؟ هذا لا يسمى علماً، هذا خيال العلم، وهذا يوقع صاحبه في الاضطراب والتيه والحيرة، أكثر مما يسعد ويرقى به مستوى الأمن والطمأنينة، كل عاقل يعلم هذه الحقيقة، لو أن إنساناً كان يسيح بين غابات، ورأى جداول من المياه تنبعث يميناً ويساراً، يلتفت يسرة ويمنة، فيرى بريق هذا الماء ولا يتتبع هذه الجداول لينتهي إلى ينبوعها ومصدرها، ترى هل يستطيع أن يستفيد من هذا الماء؟ ترى هل يستطيع أن يطمئن إلى نظافة هذا الماء؟ لكي يستطيع أن يطمئن إلى نوع التعامل مع هذا الماء، ينبغي أن يعلم مصدر هذا الماء، ينبغي أن يعلم الينبوع الذي يتفجر منه الماء، وتتفجر وتسري منه هذه الجداول المتعرجة، المؤمن يسير مع هذه الجداول ثم يسير إلى أن يصل إلى الينبوع، فيقف عند النبع وينهل من هذا الماء الصافي ما طاب له أن ينهل، وهو مطمئن البال يعلم الحقيقة، أما التائه عن الله، الشارد عن صراط الله سبحانه وتعالى، البعيد عن معرفة ذاته ومن ثم عن معرفة ربه سبحانه وتعالى، فهو يستوحش من هذا الجو الذي هو فيه، أكثر من أن يطمئن إليه، لأنه لا يبصر شيئاً إلا ويجد إشارة استفهام قد رسمت أمامه، فهو لا يستطيع أن يتعامل معه، لا يعلم المصدر، لا يعلم المنبع، وهكذا فإن إيمان المؤمن، الإيمان الحقيقي لا الإيمان التقليدي، الإيمان الذي يجسم يقينا‎ً من العقل ويهيمن وجداناً في الفؤاد، هذا المؤمن لا يمكن أن يعيش في الظلام، لا يمكن أن يعيش في التيه، لابد أن ينتشله مولاه وخالقه إلى مستوى النور، فهو يرى كل شيء وقد استضاء بنور معرفة الله سبحان وتعالى، وصدق الله القائل: ﴿الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور﴾ [البقرة: 2/257] أما التائه عن الله البعيد عن معرفة الله الذي لا يصغي بسمعه إلى خطاب الله سبحانه وتعالى، فإن معارفه مهما تراكمت في عقله، تزجه في مزيد من الاستيحاش، ومن القلق والاضطراب تجاه هذا الكون، ولابد أن تنقله معارفه المبتورة عن مصادرها من وحشة إلى وحشة إلى وحشة، وما من حادث كهذا الحادث يمر إلا ويجعله يتبعد، ويجعله في خوف واستغراب، لا يعلم ما النهاية وما السبب، العلم المبتور عن مصدره مجموعة إشارات استفهام لا جواب عنها، وصدق الله سبحانه وتعالى القائل: ﴿والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات﴾ [البقرة: 2/257]‏.‏


نحمد الله سبحانه وتعالى أننا لا نعيش في بيداء مجهلة، لدينا الخارطة نعلم منطلقنا، ونعلم نهايتنا، ونعلم النهج الذي ينبغي أن نسير عليه، ونحمد الله على أن عافانا مما قد ابتلى به كثيراً من خلقه، بالأمس كنت أسمع إلى ما تقوله الصحف الأجنبية، وما تقوله وكالات الأنباء عن الآلاف المؤلفة الذين اجتمعوا في الحدائق وغير الحدائق ذكوراً وإناثاً، وقد اجتاحهم البكاء واجتاحهم القلق والاضطراب، من هم؟ هل فيهم واحد مسلم عرف ربه؟ وعرف حقيقة هذا الأمر؟ هل فيهم واحد مؤمن شدّ نسبه بالإيمان الحقيقي إلى رسول الله القائل: ﴿إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لولادة أحد فإذا رأيتموها أي هذه الآية فافزعوا إلى الصلاة والصدقة﴾. هل هنالك مسلم مؤمن آمن بالله وآمن برسوله كان قد اجتاحه هو الآخر هذا القلق؟ لا. هؤلاء كلهم هم التائهون والشاردون، أما الآخرون فأين كنت تراهم؟ في المساجد يصلون ويبتهلون إلى الله سبحانه وتعالى، لا لخوف جديد ساورهم بعد أمن، ولكن لأن عبوديتهم لله سبحانه وتعالى تقتضيهم أن يقبلوا إلى الله في كل حالة، في كل حالٍ من الأحوال، وما من حالة تمر بالإنسان إلا وهي تنادي العقل أن أقبل إلى الله سبحانه وتعالى، ناجه مناجاة المحب، مناجاة الآمن المطمئن، مناجاة من يعلم أن يعيش في مملكة ليس غريباً عنها، هو مشدود إلى الله سبحانه وتعالى بالولاء، إنما وليكم الله، أجل لعل أولئك الغربييـن لاحظوا هذا الفرق، ولعل هذه الملاحظة توقظ أولئك الناس من رقاد، ولعل هذه الملاحظة توقظ ذيولاً أيضاً من الناس في بلادنا، التائهين التابعين لأولئك الناس الذين يسيل لعابهم على أوهام لا حقيقة لها، لعل هذا الحدث، لعل هذا الحدث، ولعل هذه الظاهرة التي تبين فرق ما بين واقع المؤمن وغير المؤمن، توقظ ذيولاً أيضاً عندنا، كما توقظ أولئك الذاهلين في المجتمعات الغربية، صدق الله القائل: ﴿الذين أمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون﴾ [الأنعام: 6/82]‏.‏


أقول قولي هذا وأستغفر الله‏.

تحميل



تشغيل

صوتي