مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 16/07/1999

رأس مال المسلم (القلب السليم)

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

أحدثكم اليوم عن رأس مالٍ خفيفٍ لا يرهق الإنسان المسلم حمله، لا يكلفه كثر من العبادات، ولا يكلفه قياماً بالأسحار، ولا كثيراً من الأوراد والأذكار ... ومع ذلك فإذا وُفّق الإنسان بحمل هذه العدة الخفيفة اليسيرة في رحلته إلى الله سبحانه وتعالى فلسوف يفوز بسعادة العقبى، ولسوف يكرمه الله عز وجل برضوانه.

أتعلمون ما هي هذه العدة، أو ما هو هذا رأس المال اليسير والخفيف حمله؛ والعظيم أثره؟

إنه القلب السليم، إذا أتيح للإنسان أن يطهر قلبه من الأحقاد ومن الضغائن ومن الغل الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يجعل قلبه وعاءً سليماً يتجه به إلى الله سبحانه وتعالى في حياته التي يعيشها، فذلك هو رأس مال المسلم الذي يغنيه عن كثير من الأتعاب وعن كثير من العبادات.

وآية هذا الذي أقول لكم، أو مقياس القلب السليم: هو أن تنظر .. فإذا وجدت أن سلامة قلبك تتغلب على الأحقاد التي يقتضيها إيذاء الذين يؤذونك، وجرح الذين يجرحونك، وانتقاص الذين ينتقصونك رأيتك تتمتع بقلب سليم يتغلب بياضه على سواد الأحقاد، يتغلب بياضه على سواد البغضاء والغل، إذا رأيت نفسك ممتعاً في هذه الصفة فإني أهنئك أن طريقك إلى سعادة العقبى معبد.

كلكم يعلم أيها الإخوة الدعاء الذي كان يدعو به خليل الله سيدنا ابراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، لم يدع الله سبحانه وتعالى أن يوفقه إلى كثير من الطاعات والعبادات، لم يسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمه بمالٍ وفير وكثيرٍ حتى ينفقه ذات اليمين وذات الشمال. وإنما قال: (لَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). القلب السليم ماذا يعني أيها الإخوة؟ يعني أن يكون قلب هذا الإنسان قد طهره الإيمان طهرته عبودية الله عز وجل، فتسامى هذا القلب على الإيذاء الذي يمكن أن يناله من الناس؛ الشتائم التي يمكن أن يصيبه رشاشها من هذا أو هذا أو ذاك؛ يبقى هذا القلب أبيض نقياً، كلما تسربت إليه نقطة سوداء زوبتها عبوديته لله عز وجل فعاد أبيض نقياً سليماً، هذا هو القلب السليم. وإن لدعاء سيدنا ابراهيم لبلاغة ولدلالة كبرى على أن الله سبحانه وتعالى يوم القيامة إنما يصطفي أولئك الذين سامحوا وغفروا وواجهوا إيذاءات الناس كلها بهذا القلب السليم.

وانظروا أيها الإخوة إلى نصائح ربنا سبحانه وتعالى في محكم تبيانه كم وكم يكررها، من مثل قوله عز وجل: (ولَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ثم قال: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) فاللهم اجعلنا من أصحاب هذا الحظ العظيم.

ويكفي أيها الإخوة أن أضعكم أمام هذا المشهد الأخاذ: أوذي سيدنا أبو بكر في ابنته، وأنتم تعلمون من هي ابنته العفيفة الحصان التي أكرم الله سبحانه وتعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بها، آذاه رجلٌ أخذ ينقل ما يردده المنافقون في حقها، وهو مسطح، وهو رجل فقير كان يجري عليه أبو بكر جراية من مال، فلما سمع بما يقوله مسطح من ترديده لأقاويل المنافقين أقسم أن يقطع رفده عنه، أن يقطع جرايته هذه عنه، فأنزل الله عز وجل عليه قوله - اسمعوا بقلوبكم: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) لا يأتل؛ أي لا يقسم (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

ما أظن أن مؤمناً بالله يقف أمام هذا العتاب الذي يعاتب الله به أبا بكر الصديق في أمر، ما أظن أن فيكم من أوذي مثل الأذى الذي ناله في ابنته إطلاقاً، ومع ذلك يدعو أبو بكر إلى سلامة القلب، يدعو الله سبحانه وتعالى يدعو أبا بكر إلى سلامة القلب، يدعوه إلى أن يواجه الأذى مهما بلغت شدته بالصفح، وأن لا يجعل قلبه وعاءً لنقطة سوداء أو ضغينة أو غل. انظروا وعودوا إلى هذا الكلام: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) ثم انظروا كيف ربط الله عز وجل عفوك وصفحك عن أخيك بعفوه وصفحه، (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ). قال أبو بكر: بلى والله أحب، أعاد إليه جرايته وزاد منها، وكان كلما رأى مسطحاً قام إليه وقال: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي.

أيها الإخوة لا أريد أن أطيل وخير الكلام ما قل ودل، كل من رأى منكم أنه ينوء بحمل الطاعات الكثيرة ولا يستطيع أن يحمل سيراً إلى الله أعباء العبادات الوفيرة، فليمعن النظر في قلبه، وليحاول أن يطهر قلبه من السخائم والأحقاد والضغائن، وليعامل الناس الأقربين منهم والأباعد لا سيما الأرحام، لا سيما الأقارب بسلامة القلب، ذلك لأن الرحلة إلى الله عز وجل شاقة، ولكن هاهنا دواء إن استعملته تحول الشاق إلى أمر يسير، وتحول الطريق الطويل إلى مسافةٍ قصيرةٍ جداً. ولإن قال الله عز وجل: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) فكونوا من أصحاب هذا الحظ العظيم أيها الإخوة.

ثم انظروا كل منكم لينظر إلى حاله إذا رأى نفسه متعبداً متبتلاً، يقوم الليل، يكثر من الذهاب إلى الحج، ولكن كلما أوذي من زيد من الناس فاض قلبه حقداً عليه، كلما شعر بجرح انتابه من كلمة قالها زيد من الناس فاض قلبه سواداً من الضغينة عليه، فليعلم أنه على خطر كبير من علاقته بالله عز وجل، العبادة لا تغني، الحج المتكرر لا يفيد، لو كان ذلك كله مفيداً لتحول دعاء سيدنا ابراهيم إلى ذلك، ولسأل الله أن يوفقه للإكثار من العبادات والصلوات والحج والزكاة ونحو ذلك ... لكن ذلك كله لا يغني مع سواد القلب، وإذا قصر الإنسان في ذلك كله فما أيسر أن يغفر الله عز وجل للإنسان عندما يكون قلبه نقياً سليماً، ونحن ندعو من وراء سيدنا ابراهيم بما دعى به ربه فنقول: (ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) .

اللهم متعنا بالقلب السليم اللهم اجعل قلوبنا بيضاء نقية لا تعرف سبيلاً لحقد لا تعرف سبيلاً لضغينة إطلاقاً.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي