مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 11/06/1999

الإخلاص المنشود و تغيّر الفتاوى والأحكام

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله..

كثيرون هم الشباب الذين يسألون في تحرق عن السبيل في غرس الإخلاص لله سبحانه وتعالى في قلوبهم، يتحرقون سائلين عن السبيل الذي يجعلهم إن استمسكوا بدين الله لا يتمسكون به إلا لوجه الله عز وجل، وإن هرعوا إلى أداء الواجبات لا يهرعون إلى ذلك إلا لوجه الله عز وجل، وإن ابتعدوا عن المحرمات لا يبتعدون عنها إلا لوجه الله.

والغريب العجيب أيها الإخوة أن الذين يشغلهم هذا السؤال ويتحرقون لمعرفة هذا الدواء هم هذه الطبقة، الشباب الذين ربما كانوا إلى الأمس القريب شاردين عن صراط الله سبحانه وتعالى، وقلما أجد أناساً لهم قدم راسخة في الالتزام بدين الله عز وجل أو لهم مرتبة الإرشاد والتوجيه والتعليم في دين الله عز وجل؛ قلما رأيت واحداً من هؤلاء يسأل عن العلاج الذي به يتحقق الإخلاص لله سبحانه وتعالى.

وإنكم لتعلمون أن الدين أشبه ما يكون بجسد، روحه الإخلاص لله، فإذا وجد العمل الذي يرضي الله ولم يوجد الإخلاص فإنه لا شك ولا ريب أشبه ما يكون بجسدٍ ميت، ولو أنكم تدبرتم كلمة الإخلاص والأمر بها في كتاب الله عز وجل لرأيتم شيئاً عجباً، فما أكثر أن ينبه بيان الله عز وجل الإنسان إلى ضرورة أن يخلص دينه لله عز وجل والآيات التي تأمر بذلك كثيرة: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) ولا أريد أن استعرض الآيات الكثيرة والكثيرة التي ينبه الله الإنسان فيها إلى أن العمل لا جدوى منه إذا لم يكن متوجاً بالإخلاص. فحق لهؤلاء الإخوة أن يسألوا عن السبيل الذي به يتحقق الإخلاص لله عز وجل، حتى لا تهدر أعمالهم.

والجواب باختصار هو: أن الدنيا بمقدار ما تقبل إلى نفس الإنسان مهيمنة عليه يتضاءل الإخلاص ويغيب، وبمقدار ما تغيب الدنيا عن القلب والنفس وتهون على الإنسان فإن الإخلاص يهيمن ويتضح ويفرض نفسه، فهما كفتين إن رجحت الواحدة طاشت الأخرى. ما الذي يجعل الإنسان غائباً عن أن يكون عمله لله؟

شيء واحد .. أن تهفو نفسه إلى الدنيا والدنيا ليست محصورة في درهم ودينار كما يظن بعض الناس، الدنيا كل ما عدا الله سبحانه وتعالى، كل ما شغلك عن الله فهو دنيا، الدنيا المال الذي تهفو نفس الإنسان إليه، والدنيا الرئاسة التي تهفو نفوس كثير من الناس إليها، والدنيا الزعامة، والدنيا ثناء الناس، والدنيا التخوف من نقد الناس، والدنيا عبارة عن المنافسة على أهواء النفس وحظوظها من عصبيات وما إلى ذلك .. فكل ما أشغلك عن مولاك فهو الدنيا.

إذن كانت هذه الدنيا بكل هذه الأنواع مهيمنة على النفس فهيهات أن يتحقق الإخلاص لله، قد يصلي لكن دنياه تجعل صلاته مصطبغةً بأهدافه الدنيوية، قد يحج ولكن دنياه تجعل حجه مصبوغاً بغاياته وشهواته الدنيوية، قد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقف في الناس موقف المرشدين، وقد يكون من العلماء الذين تنتشر كلماتهم ومؤلفاتهم في العالم الإسلامي، ولكنه إنما يفعل ذلك من أجل هذه الدنيا التي تهيمن عليه، إذاً فالسبيل أو السبب الذي يحجب الإنسان عن الإخلاص لله عز وجل هيمنة الدنيا على قلبه، إذا هيمنت الدنيا على قلبه حجبته عن الله وعن محبته له وعن الخوف منه، فكان عمله كله وإن كان في الظاهر ديناً فقد أصبح مصطبغاً بغاياته الدنيوية.

تريد أن تكون مخلصاً لله؟ قطع قلبك من الدنيا وأسبابها، واسلك السبل المتنوعة التي تجعل الدنيا بعيدة عن فؤادك وحبك، حاول أن تزيد من محبة الله عز وجل في قلبك، أكثر من مراقبة الله، أكثر من تذكر نعم الله عز وجل، عش مع اليقين أن هذه النعم لم تأتك إلا من عند واحد لا ثاني له ألا وهو الله عز وجل، تنبه وتأمل أن الناس كلهم لن ينفعوك شيئاً إن أرادوا أن ينفعوك، ولن يضروك إن أرادوا جميعاً أن يضروك، إنما النافع واحد والضار واحد، تذكر هذا الذي يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن بنفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك). فإذا تأملت في هذا وظللت تراقب الله وأنت تتأكد من هذه الحقائق وتغذيها بتلاوة كتاب الله والإكثار من ذكر الله عز وجل، تغيب الدنيا عن كيانك، ويتقلص سلطانها عن فؤادك، ويهيمن بدلاً عن ذلك حبك لله، ويقينك بأن الله هو وحده الفعال، ومن ثم فإنك إن نظرت يميناً أو شمالاً لن تجد في الكون إلا الله، أي لن تجد فعالاً إلا الواحد الأحد ألا وهو الله عز وجل. كل ما في الكون صور وأشباح تتحرك بتحريك الله.

فمن هو هذا الذي تجعل عملك لوجهه؟ من هو هذا الذي تجعل صلاتك من أجله؟ من هو هذا الذي تجعل علومك وإرشادك وتوجيهاتك من أجله؟ إذا عرفت أن النافع هو الله، وأن الضار هو الله، وأن المحي هو الله، وأن المميت هو الله، وأن الذي يحرك الناس ذاهبين آيبين واحدٌ لا ثاني له هو الله عز وجل. من هو هذا العاقل بعد هذا الذي يعبد الله للناس، وقد علم أن الناس أصفارٌ على اليسار لا تفيد شيئاً؟ أجل هذا هو السبيل الذي به يستقر الإخلاص، ومن ثم يشعر الإنسان بلذة صلاته إذا صلى، بلذة عبادته إذا عبد الله سبحانه وتعالى.

وأنا بمقدار ما أتفائل خيراً عندما أجد هؤلاء الشباب الذين أقبلوا إلى الله من جديد يسألون متحرقين عن السبيل إلى الوصول إلى الإخلاص، بمقدار ما أتفائل خيراً لهذه الأمة بسبب هذه الأسئلة المتكاثرة أشعر بأساً وألم من وجه آخر أنني أجد التنبه إلى الإخلاص والبحث عن الإخلاص والنظر في أهمية الإخلاص قد حُجب عنه كثير من المسلمين التقليديين، أجل أقول التقليديين وفيهم كثرة من العلماء، وفيهم كثرة من الموجهين والمرشدين، وفيهم كثرة من الذين يتخذون من أنفسهم مركز القيادة في دين الله عز وجل، صغار شبابنا متحرقين بحثاً عن الإخلاص، والكثير من قادتهم المرشدون الموجهون وعلماء الدين قد وضعوا الإخلاص ظهرياً وراء أبصارهم، وعانقوا أعمالاً هي كما قلت لكم كجسد لا روح فيه، فالله المستعان أن يحقق التفاؤل من وراء هذا الوجه الأول الأبيض لا من خلال هذا الوجه الأسود الثاني.

يسوؤني أيها الإخوة أن أجد أن مظاهر الأعمال الإسلامية كثيرة بل متكاثرة، ولكني أنظر فإذا بهذه الأعمال الإسلامية المختلفة قد حولت إلى خدم وحشم للمصالح الدنيوية وربما السياسية؛ لا التي يرعاها الساسة لا، بل التي يرعاها من يتحدثون عن الإسلام والذين يقودون الناس إلى الإسلام، أجل أنظر إلى الأنشطة العلمية إلى الفتاوى إلى كثيرٍ من المواقف أجد أن هذه الأنشطة العلمية التي تتم باسم الله إنما تستخدم بمهانة من أجل المصالح الدنيوية أو السياسية المختلفة المتنوعة، والله المستعان أن يلطف بهذه الأمة ويصلح حالها.

منذ سنوات ورحى القتال الغير شرعي، الغير مقدس، الغير مبرر، تدور رحى هذا القتال على برءاء آمنين صبية أطفال نساء باسم الجهاد، وبحثنا ذات اليمين وذات الشمال عن العلماء الذين تقبل كلماتهم لينطلقوا ببيان موحد يوضحون فيه حكم الله جل جلاله في هذا الأمر، فلم نسمع لأي منهم همساً، وكم وكم طُلب منهم، سكتوا .. لماذا؟ لأن المصلحة تقتضي السكوت، ولأن هذا لا يريد أن يغضب جماعته، وذاك لا يريد أن يزج نفسه في خطر، والآخر له إتاوة لا يريد أن تنقطع إتاوته، فليقع الناس في هذه المتاهات ما شاؤوا، وعلينا أن نصمت لأن المصلحة الدنيوية والسياسية لا تتفق مع النطق بهذا الحق.

وبالأمس القريب ما لا يقل عن خمسين عالماً انطلقوا إلى بيان واحد من فم واحد يقولون كفاكم قتالاً، لا يجوز هذا القتال، أغمدوا أسلحتكم، إن هذا ليس جهاداً في سبيل الله ... لا الصمت الذي استمر خلال تلك السنوات كان لله، ولا الحديث الذي انبثق من أفواههم بالأمس القريب كان لله، المصلحة أسكتت، والمصلحة أنطقت وأين هو التوجه إلى اسرضاء الله؟ أين هي المصلحة التي تترجم بطرق باب رضا الله سبحانه وتعالى؟ أجل ..

إن كان السبب الذي جعل هذا القتال اليوم حراماً لأن هؤلاء الناس الذين يُقتلون ويُذبحون مسلمون، فإن الأمر لم يختلف، كانوا في السنوات الماضية أيضاً كذلك. وإن كان هذا القتل الذي استحر والذي سالت بسببه أنهر من الدماء كان مباحاً خلال كل تلك السنوات لأن الذين يقتلون ويلاحقون بالقتل لم يكونوا ينفذون حكم الله، فهم اليوم كذلك هم اليوم كذلك، هم هم لم يختلفوا. ما الذي حصل؟

إنه التكتيك السياسي، إنه استخدام الدين استخدام شرع الله سبحانه وتعالى من أجل المصالح، من أجل استرضاء الجماعة، من أجل استرضاء هذه الفئة، بالأمس كان هنالك خطر من مثل هذا الكلام، بالأمس لو بثت هذه الفتوى إذاً لكان في ذلك نوع من غضب الجماعة على هذا الإنسان الذي هو منهم، أما اليوم فقد اتفق الجماعة أن يبدلوا التكتيك، إذاً فليقل دين الله عز وجل: (إن ما كان بالأمس جائزاً قد أصبح اليوم محرماً)

أين هو الإخلاص لدين الله؟

أين هو المقياس الذي لا يتمثل لا في رضى زيد ولا في رضى عمر لا في رضى قائد لا في رضى مقود ولا في جمع مال ولا في بذل مال ولا في استرضاء جماعة ولا في استرضاء فئة أو حزب وإنما يتمثل في السعي إلى بلوغ رضا الله عز وجل.

ليت أن هذا السؤال الذي تنفث به أفواه شباب متحرقين على الإخلاص، ليت أنه يشغل بال أولئك الآخرين.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيدنا إلى معين الإخلاص لله سبحانه وتعالى وأسأله عز وجل إذا سرنا على صراطه أن يقطعنا عن الأغيار وأن لا يضع نصب أعيننا إلا رضى الله الواحد القهار.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي