مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 14/05/1999

مفتاح القضاء على مظاهر الفقر

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

ورد في الصحيح أن أموالاً وردت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البحرين، فهرعت طائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه مستبشرين فرحين. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مطمئناً: (أبشروا وأمنوا خيراً فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تفتح عليكم كما قد فتحت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولقد نظرنا إلى حال المسلمين بعد رحيل المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى والأوضاع التي تقلبوا فيها إلى يومنا هذا، فعلمنا بيقين وبدليل التجربة والمشاهدة أن هذه الأمة لم تهلك بسبب فقر وإنما الذي أهلكها هو التنافس على المال الذي أورثها الله سبحانه وتعالى إياه كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وها نحن نرى في كل صقع من أصقاع عالمنا العربي والإسلامي مصداق ما قاله المصطفى عليه الصلاة والسلام، فتحت علينا الدنيا وبدلاً من أن نتعامل معها بعقولنا، وبدلاً من أن نحتكم بهذه النعمة إلى ميزان العدل الذي أرساه الله عز وجل بيننا، أقبلنا إلى هذه الدنيا بنفوسنا المتعشقة وسال لعابنا عليها سيلان الإنسان العاكف على سكره، وأخذنا نتنافس ونتزاحم، فكان الأقوياء هم الذين وصلوا إلى المقدمة، وأمسكوا بزمام المال وينابيعه، وكان الضعفاء هم الذين خلفوا في المؤخرة فكانوا مثال الفقر، ومن ثم قام التناقض الخطير في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وانقدحت سموم الهلاك جراء ذلك، وهذا هو معنى كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

بعض الناس يظنون أنه صلى الله عليه وسلم إنما يدفعنا بهذا الذي يقول إلى أن نزهد في الدنيا بالمعنى الموروث لا بالمعنى الذي عناه رسول الله، يظنون أن الإسلام يقضي أن ننفض أيدينا عن الدنيا وأن نوليها ظهورنا، ولا والله ما قصد المصطفى إلى ذلك وكيف يقصد هذا وهو الذي قال فيما رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي ذرٍ الغفاري: (ليست الزهادة في المال بتحريم الحلال ولا بإضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا بأن تكون فيما يد الله أوثق مما في يدك). هذا معنى الزهد الذي رسمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن المصيبة التي تعاني منها مجتمعاتنا ولا أستثني أي مجتمعٍ قرب أو بعد ومجتمعنا واحد منها، إن المصيبة التي تعاني منها مجتمعاتنا أننا نقبل على الدنيا بدافعٍ من نفوسنا المتعشقة لا بدافعٍ من عقولنا المدبرة، تلك هي المصيبة، وهذا هو الذي يجعلنا نتنافس كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على المال، ما هي نتيجة التنافس؟ نتيجة التنافس أن الذين يملكون مزيداً من وسائل القوة، والذين يملكون مزيداً من وسائل القرب، والذين يملكون مقادة القوانين المختلفة هم الذين يستطيعون أن يوصلوا أنفسهم إلى ينابيع الثروات، هم الذين يستطيعون أن يضعوا أيديهم على مقاليد المال، وأما الضعفاء والمستضعفون الذين لا سبيل لهم إلى اختراق هذه الصفوف، فلا شك أنهم يظلون في المؤخرة ويتجمع المال ويتكاثر ثم يتكاثر في كفة واحدة في جهة واحدة، وتنظروا إلى الجهات الأخرى فتنعتها بالفقر وليس ثمة فقر، وتنعتها بالحاجة والضرورة وليست ثمة حاجة ولا ضرورة، ولكن هذا هو الشأن عندما يغيب الاعتدال عن كفتي الميزان، هذا هو الشأن عندما تتثاقل إحدى الكفتين بالأثقال الكثيرة والكثيرة. المآل أن تطيش الكفة الأخرى وأن تخف، مجتمعنا آل إلى كفتين كفة تراكمت فيها أثقال المال وكفة أخرى تعاني من خفة الفقر تعاني من العدم، وهذا الواقع لا يمكن إلا أن تنقدح عنه شرارة الهلاك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كلكم يسمع أنباء الفساد المختلفة، كلكم يسمع ما تذهل له العقول من السرقات العجيبة الكثيرة المتنوعة، وكلكم يسمع من خلال ذلك الأرقام المذهلة العجيبة التي تؤكد أننا ولله الحمد نعيش في بلدٍ لا يعاني من فقر في مجموعه، وفي الوقت نفسه تنظر وإذا بالفقر قد ضرب أطنابه وإذا بالعدم يسري ويتسرب ليزداد كماً من حيث الانتشار، وكيفاً من حيث العمق.

هذا الذي نراه ما سببه أيها الإخوة؟ سببه أننا نتعامل مع المال بدافعٍ من اللعاب الذي يسيل من أشداقنا، نتعامل مع المال بدافعٍ من النهم والعشق والتعلق به لا بدافعٍ من التدبير العقلي، والإسلام أمرنا بأن نتعامل بالمال أليس ربنا هو القائل: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ). أليس هو القائل: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا كُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)

لكن الله عندما أمرنا أن نقبل على الدنيا أمرنا أن نتعامل معها بعقولنا المدبرة، وأن نضعها من حياتنا حيث ينبغي أن توضع، وأن تمتد سائر الأيدي إليها بالعدل والنصفة، لا أن تتقطع عنها بعض الأيدي وأن تمتد أيدي طويلة أخرى إليها تمارسها كما تشاء وتبتلع منها الملايين والملايين كما تحب. هذا هو دين لله سبحانه وتعالى.

والذي أريد أن أنتهي إليه من هذا الواقع المؤلم العبرة التي ينبغي أن نقتطفها بعقولنا المدركة، من خلال هذا الواقع، ما الدواء؟ ما العلاج الذي يجعل هؤلاء السكارى بالمال يصحون من سكرهم؟ ما العلاج الذي يجعل هذا المجتمع يتعامل مع المال ولكن بواسطة عقله لا بواسطة تعشقه وتعلقه النفسي؟

العلاج واحد لا ثاني له هو أن يصطبغ أفراد هذا المجتمع كلهم بمعنى العبودية لله عز وجل، هو أن يزدهر الإيمان بالله لا تقليداً بل واقعاً قيادياً في حياة المجتمع، هو أن يزدهر هذا الإيمان في قلوب أفراد هذه الأمة بعد أن يغرس يقيناً في عقولها. هذا هو العلاج الوحيد ولا علاج غيره.

أيها الإخوة مصيبتنا في الفساد الذي يستشري أن هؤلاء الناس الذين يركنون إلى تيار هذا الفساد لا يقيمون وزناً للآخرة التي هم مقبلون عليها، لا يقيمون وزناً لهوياتهم التي اصطبغوا بها آمنوا أم لم يؤمنوا، لا يقيمون وزناً لرقابة الله سبحانه وتعالى عليهم، ومن ثم فإن الجشع المستشري هو الذي يقود، وجشع الإنسان ليت أنه كان كجشع الحيوان؛ جشع الحيوان يقوده الجوع، فإذا وجد شبع غاب الجشع، أما جشع الإنسان فتقوده النفس المستشرية التي لا تعلم حداً لرغباتها بشكلٍ من الأشكال، ولا يمكن لهذا الجشع أن يقلم أظافره إلا الخوف من الله عز وجل إلا رقابة الله سبحانه وتعالى. ألم تسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (لو كان لابن آدم وادٍ من مال لابتغى إليه ثانياً) وادٍ واد (ولو كان له واديان لابتغى إليه ثالثاً ولا يملئ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب) قفوا أمام هذه الجملة الأخيرة: ولا يملئ جوف ابن آدم جوف ابن آدم إلا التراب ما معنى هذا الكلام؟

أي إن الجشع الذي يعاني منه ابن آدم جشع واسع لا حدود له لا يمكن أن تتغلب عليه الأرقام، بل هو لابد أن يتغلب على الأرقام لا يقف عند حدود الملايين بل ولا المليارات بشكلٍ من الأشكال. ما الذي يحد من جشعه؟ شيء واحد هو أن يعلم مصيره، هو أن يعلم أنه راحل بعد عشر سنوات، بعد عشرين عاماً أو أكثر أو أقل، وعندما يرحل سينفض يديه وجيوبه من الدنيا التي لهث ورائها وجمعها، وسيمتد في حفرته ليس بينه وبين التراب أي حاجز. هذا هو مآله.

عندما أعلم أن هذا هو مصيري وأدرك أن مردي إلى الله وأني سأقف بين يدي الله عز وجل ليقول لي ألم أقل لك (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) ماذا فعلت بالميزان فيما بينكم الذي وضعته فيما بينكم؟ ألم آمركم بأن تحتكموا في النعم التي أسديتها إليكم إلى هذا الميزان؟ ألم آمركم بأن تتقاسموا النعمة التي أعطيتكم إليها فيما بينكم بالعدل والنصفا ماذا صنعت بالميزان؟

عندما أعلم هذا المصير وأعلم هذا الموقف الذي أقفه بين يدي الله وأعلم كيف أنني سأوسد في التراب، ولسوف لن أتمتع بشيءٍ من هذه الملايين ولا المليارات، عندما أعلم ذلك تتقاصر أطماعي وينتهي جشعي وأعود إلى الاعتدال الذي أمر الله عز وجل به، إذاً مجتمعنا أيها الإخوة الذي كسائر المجتمعات الذي يعاني مما يعاني من هذا الجشع أن يجعل المال يستشري ويتعاظم في جانب ويغيب وينتهي وينعدم من جانب آخر، لا علاج له لا بالتدبيرات الإقتصادية ولا بالنظم الإجتماعية ولا بالرقابة السياسية اطلاقاً، إنما الذي يصلحه رقابة الله سبحانه وتعالى، ولا تغرس رقابة الله في النفوس إلا بالتربية الإيمانية الحقيقية التي لابد أن يعود المجتمع فينظر إلى أهميتها بعد كثير إعراضٍ عنها، عندما تكون رقابة الله هي القائد وعندما تكون الرقابة هي الحافز ولا يكون ذلك كما قلت إلا من خلال التربية الإيمانية التي ينبغي أن يؤخذ أفراد هذا المجتمع بها على كل المستويات، عندما يتحقق هذا يغيب الجشع وتظهر العدالة ويتبين أننا أغنياء، وأننا أغنى أمةٍ على وجه هذه الأرض، وأن الله عز وجل الأرض التي نسير فوقها صندوقا ًلكنوزٍ لا تنتهي ولا تأكلها النيران أبداً.

لكن الغنى لا يظهر إلا من خلال التعامل مع ميزان الله سبحانه وتعالى، وميزان الله لا يتحكم إلا بعد أن تفيض قلوبنا إيماناً بالله وتعاملاً مع الله واصطباغاً بمعنى العبودية لله سبحانه وتعالى.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي