مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 07/05/1999

الضمانة التي تجعل الإنسان ذا خلقٍ قويم

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله..

إن الله سبحانه وتعالى ما أخذ عباده بشيءٍ مما أخذهم به من عقائد هذا الدين ومن أحكامه وآدابه السلوكية إلا لحكمةٍ واحدة لا ثاني لها هي: أن يتهذب الإنسان وأن تسود علاقته مع بني جنسه على خير ما ينبغي أن تكون العلاقة، فالدين جاء ليهذب الإنسان، وجاء ضمانة لكي تكون صلته بأبناء جنسه عامةً على خير ما تكون العلاقة. ولو علم الله عز وجل أن الإنسان يصلحه شيء آخر غير الدين يهذب من طباعه ويسمو به إلى صعيد الأخلاق الإنسانية الراقية لألزم الله عز وجل عباده بذلك السبيل، ولكن الله الحكيم العليم علم أن الضمانة الوحيدة للأخلاق الإنسانية السامية هي أن يعرف الإنسان نفسه، إذا عرف نفسه عرف ربه، وإذا عرف ربه علم أنه عبدٌ مملوك لا حول له ولا قوة يتحرك في قبضة مولاه وخالقه؛ وعندئذٍ يعلم بأن الله يراقبه وأن الله سبحانه وتعالى سيحاسبه. فتلك هي الضمانة التي تجعل الإنسان ذا خلقٍ قويم، وذلك هو السبيل الأوحد إلى أن يصبح الإنسان مهذباً وأن يصبح سامياً إنسانياً في علاقاته مع بني جنسه ومن ثم فقد شرع الله سبحانه وتعالى لعباده هذا الدين.

ألم تسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما بُعثت لأُتمم مكارمَ الأخلاق) أي كل ما قد جئتكم به من عند الله عز وجل إنما هو ضمانة لشيءٍ واحد هو أن يرقى الإنسان في سلوكه وطباعه إلى مستوى مكارم الأخلاق؟

أو ما سمعتم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (ألا أنبئكم عن أقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً الذين يألفون ويؤلفون).

أو ما سمعتم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس) الناس جميعاً لم يقل المسلمين فقط (وخالق الناس بخلقٍ حسن)

لكن ما الضمانة لأن يخالق الإنسان الناس بخلقٍ حسن؟ وما السبيل إلى أن تتهذب طباعه ويبتعد عن الشرة وأسبابها؟ الضمانة هي الدين. فالدين جاء حصناً ليكون حافظاً لأخلاق الإنسان ولكي يكون ضمانة لرقيه في مدارج الأخلاق الإنسانية الفاضلة.

وأهم خطوات الأخلاق الإنسانية تلك التي تبدأ في علاقة ما بين الرجل وأهله، ثم تأتي الدرجة التي تليها والتي تتمثل في علاقة الإنسان مع أهل بلدته وأهل حيه وأقرانه، ثم تأتي الخطوة الثالثة التي تتمثل في علاقة الإنسان مع بني جنسه عموماً.

الدرجة الأولى التي هي عين الأخلاق الإنسانية الفاضلة وهي أساسها وينبوعها: علاقة الإنسان مع أهله مع زوجه وأولاده وأسرته، وقد نوه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا عندما قال في الحديث الصحيح (أقربكم مني مجالس يوم القيامة ألطفكم بأهله)، ولقد وقفت عند هذا الحديث وتساءلت مراراً، ما الفرق بين أن يكون الإنسان لطيفاً مع أهله في داخل داره وأن يكون لطيفاً مع الناس عموماً خارج داره؟ ولماذا ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم لطف الإنسان مع أهله على لطفه مع الناس في الأسواق وفي الميادين والشوارع؟

السبب هو التالي: أنا عندما أكون مهذب الطباع متمسّكاً بالأخلاق الإنسانية السامية في السوق حيث علاقتي مع الناس في التجارة وفي الاكتساب وفي العلاقات المختلفة، فإن هنالك حوافز كثيرة وأسباب مختلفة تدفعني إلى أن أكون متخلقاً معهم، والحافز الديني ربما كان أضعف هذه الحوافز، فرغبتي في أن يمدحني الناس وأن يُثنو علي ورغبتي في أن تكون مصالحي نافذةً فيما بينهم كل ذلك يدفعني إلى أن أظهر في الناس في مظهر المهذب في مظهر الإنسان اللطيف المتخلق بالأخلاق الإنسانية الراشدة. ولكن عندما أعود إلى داري ويبتعد الناس عني وأخلو مع أهلي وأولادي فإن هذه الرغبات وهذه المصالح الدنيوية تغيب عني، ويبقى دافعٌ واحد لسلامة الأخلاق ولحسن العلاقة والمعشر ألا وهو مراقبة الله سبحانه وتعالى.

في الدار ليست هنالك مصالح تقتضي الرجل أن يكون لطيف المعشر مع أهله وأسرته وأولاده، ليست له مصالح تجارية صناعية مختلفة سياسية تقتضي أن يكون حسن الطباع مع أهله، فإذا كان مع هذا كله حسن الطباع داخل داره مع أسرته وأولاده فهذا دليلٌ على أنه ليس مندفعاً إلى ذلك إلا بدافعٍ واحد هو استنزال رضوان الله سبحانه وتعالى له، لذلك ميّز رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يكون لطيف العلاقة والمعشر مع أهله داخل داره عن الذين يكونون في غاية اللطف والدماثة مع أصدقائهم وخلانهم في الأسواق المختلفة.

ثم تأتي الدرجة الثانية فيما يتعلق بعلاقة الإنسان مع الناس عموماً.

هذه الأخلاق الفاضلة هي التي تقرب الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، ومن أجل هذه الأخلاق تعبدنا الله عز وجل بما تعبد من العقائد والسلوكات المختلفة، وكأني بكثيرٍ منكم يسأل ما الضمانة التي تحقق سمو الأخلاق والتي ترقى بالإنسان إلى مستوى الإنسان المهذب الطباع مع الآخرين؟

سبيل ذلك عدة خطوات، الخطوة الأولى أن يبدأ فيعرف نفسه، إذا عرف نفسه تواضع وتطامن وتمزقت أغشية الكبرياء عن كيانه وخرج من قوقعة التكبر بين الناس، إذا عرف الإنسان نفسه. ورحم الله عبد الله بن المبارك إذ يقول: "من عرف نفسه علم أن الكلب خيرٌ منه" وهذا كلام سليم، والذي يعجب من كلام ابن المبارك هذا هو إنسان لم يعرف نفسه، فإذا عرفت نفسي أدركت علمت العيوب التي تراكمت في كياني من حيث لا يعلمها الناس، فدفعتني هذه المعرفة إلى التواضع والتطامن لله سبحانه وتعالى الذي هو مالكي والذي أنا في قبضته، فإذا تحررت من الكبر ودخلت في باب التواضع بل الضعة لا التواضع الحقيقية لله عز وجل ساقني هذا الشعور إلى الأخلاق الإنسانية الراشدة.

التواضع أولاً والأخلاق الإنسانية الراشدة ثانياً، بل معرفة الإنسان نفسه أولاً فالتواضع ثانياً فالأخلاق الإنسانية الكريمة ثالثاً، فيبدأ الأمر بأن يتعلم الإنسان نفسه يتعرف على ذاته وهويته.

وربما قائل يقول: كيف يتعرف الإنسان على ذاته وكلنا يعلم من هو الإنسان وما هو الإنسان، والإنسان واحد مهما تكررت أفراده وبلغو المليارات؟ ليس الأمر هكذا لسنا نتكلم عن علم النفس، وإنما المهم أن يعلم الإنسان ذاته أي أن يعلم من الذي أوجده، وبيد من شأنه، وبيد من نهايته ومصيره، ومن هو الذي يحركه، ومن هو الذي يراقبه، هذا معنى معرفة الإنسان لنفسه، إذا عرف الإنسان نفسه عرف أنه مملوك لربه علم أنه عبد وإذا علم أنه عبد تحطمت الكبرياء تحت مطرقة عبوديته لله سبحانه وتعالى، فلم يعد يرى لنفسه شيئاً ولا يستطيع عندئذٍ أن يجعل من التواضع المتكلف سبيلاً آخر فنياً إلى تكبره، وكم في الناس أناس يجعلون من التواضع فناً للتكبر، أتظاهر بالضعة وأتظاهر بالمسكنة وأتظاهر بأني لا شيء حتى أسمو في أعين الناس، وحتى يشار إلي بالبنان بأني إنسان قريب من الله سبحانه وتعالى، ليس التواضع هذا، وليس معنى معرفة الإنسان هذا، إنما معنى معرفة الإنسان نفسه أن يستشعر بما استشعره المبارك عندما قال: "من عرف نفسه علم أن الكلب خيراً منه" ومن عرف نفسه حقاً عرف صدق كلام ابن المبارك رحمه الله.

أيها الإخوة أريد أن أصل من هذا الذي أقول لكم إلى نتيجة مؤلمة: إن نظرنا إلى مقاييس الإسلام في حياة المسلمين اليوم متمثلةً في الصلاة متمثلة في القربات الظاهرة متمثلة في الحجيج الذي يتكاثر في كل عام متمثلة في مجالس الأذكار والعلوم، فما أكثر ما نجد مظاهر الإسلام متألقة مشرقة، ولكن إذا أردنا أن نخترق هذه الظواهر ونتلمس ما ورائها، لنتلمس الأخلاق الإنسانية الراشدة، لنتلمس حسن العلاقة بين الناس بعضهم مع بعض بل بين أفراد الأسرة الواحدة لاحظنا علاقة النقيض بالنقيض.

كم وكم هنالك أناسٌ لا يقطعون فريضة كلفهم الله عز وجل بها ربما تبحث عنهم تجدهم في الصفوف الأولى يطلقون اللحى يحملون السبحات لا يفتر لسانهم عن ذكر الله عز وجل فإذا اهتاجت مصالح الدنيا فيما بينهم وبين أهليهم لا أقول بينهم وبين الغرباء رأيت أن سلطان هذا الدين تبخر، وأن سلطان إياك نعبد وإياك نستعين الذي يتكرر في كل صلاة اختفى، وإذا بهؤلاء الذين تراهم ركعاً سجداً إذا هم يثيرون خصوماتٍ بينهم وبين أهليهم في سبيل درهم ودينار.

كم سمعنا عن أبناء تسببوا بسجن آباءهم وأمهاتهم، من أجل عرض من الدنيا قليل.

كم سمعنا عن إخوة قامت العداوة فاستشرت فيما بينهم بسبب عرض من الدنيا قليل.

كم سمعنا حكايات وقصص لا يكاد العقل يصدقها تشمئز لها المشاعر، من هم أبطالها؟ أبطالها أناسٌ مصلون وأناس تفيض بهم المساجد من أجل ماذا جاء الدين؟

جاء الدين من أجل أن تتهذب الطباع، جاء الدين من أجل أن يتطهر القلب من محبة الدنيا وشهواتها وأهوائها ويتحول إلى إناء صافٍ طاهر لمحبة الله، جاء الدين من أجل أن تقوم علاقة ما بين الناس بعضهم مع بعض على المستوى الأخلاقي الراشد نضحي بالدنيا في سبيل علاقة ما بيننا ولا نضحي بعلاقة ما بيننا في سبيل الدنيا. هذا الواقع لو أنني أردت أن أفتح ملف قصصٍ تفصيليةٍ فيه لضاق الوقت عن ذلك ولسمعتم شيئاً عجيباً جداً أيها الإخوة.

عندما نلاحظ هذا الواقع نلاحظ أننا أمام ظاهرة من حيث الشكل تغري وتعجب ولكن العفونة كامنةٌ في دخائلها، إلا من رحم ربك ويبدو أن هؤلاء الذين رحمهم الله قليلون. ما أكثر ما أتلقى هتافات ومكالمات تدل على فتنٍ تستشري في بيوت فتنٍ تستشري بين إخوة فضلاً عن الأصدقاء وغيرهم من أجل الدنيا، من أجل تفاهات مالية أجل، وكلهم مصلون وكلهم متعبدون وربما رأيت الواحد منهم في نهاية كل عام عند بيت الله الحرام.

إذن لا يعتبن أحد عن الفساد الذي يستشري في مجتمعنا، وأقولها بصراحة لا يقولن قائل ما أكثر الفساد الذي يتكاثر على كل المستويات في مجتمعنا، مجتمعنا هو هو ليس في الناس من هبطوا من علياء المريخ ومنهم من خرجوا من طبقات الأرض الدنيا، هذا المجتمع بقضه وقضيضه بكل فئاته بكل طبقاته بالمسؤولين وغير المسؤولين كلهم من طينة واحدة كلهم هذا شأنهم، وأنا عندما أجد أن أناس شباباً يتسببون بإدخال أمهاتهم في السجون من أجل أن أشداقهم تتحلب على عرضٍ من الدنيا قليل ومن أجل أن لعابهم يسيل على شيء من المال وهم مصلون فماذا أقول عن غيرهم ولماذا أعتب على غيرهم وما هي قيمة الدين الذي يقف عند حد القشور وتكون مهمته أن يخفي العفونة من وراء القشور؟

أيها الإخوة اربطوا بين دين الله في عقائده وعباداته وبين السلوك الأخلاقي، واعلموا أن ضمانة السلوك الأخلاقي أن يكون الإنسان ذليلاً قد عرف حقيقته وعرف قدره وعرف أنه عبدٌ مملوك لله عندئذٍ يزايله الكبر، عندئذٍ تزدهر في حياته عروق وأغصان الإنسانية الراشدة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي