مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 16/04/1999

لو أنها استنطقت .. هذا ما ستقوله لنا ذكرى الهجرة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

ها هي ذي فاتحة العام الهجري الجديد تمر، تمر بالعالم الإسلامي يتيمةً في أسرتها غريبةً في عالمها، لا يشعر بانقضاء ذلك العام الذي مضى ودخول العام الجديد الذي أقبل إلا قلة يسيرة ثم يسيرة من الناس. أما عامة أهل المجتمع والعالم الإسلامي ففي شغلٍ شاغل عن الهجرة وعامها، وفي شغلٍ شاغل عن بدائة هذه السنة ونهايتها، وفي شغلٍ شاغل عن عبر هذا العام وعظاته. يمر آخر هذا العام ثم يقبل أوله في مجتمعه في أسرته بين أهله يتيماً غريباً بل أكثر من غريب. أين هي الاحتفالات والاهتمامات التي ما زلنا نتذكر أصداءها في مناسبات مشابهة مرت؟ أين هو الطنين والرنين؟ أين هي المشاعر الجياشة التي تهتاج في نفوس المسلمين لذكرى هجرة رسول الله صلى الله وما جرّته معها من ذيول العبر والعظات والدروس والانتصارات؟ لا شيء. هذا هو حال عاملنا الإسلامي وهذا هو حال الأسرة الإسلامية في قلب هذا العالم الذي يتماوج بالهرج والمرج كما تلاحظون. ومعلمة الهجرة ما هي أيها الإخوة؟

معلمة الهجرة هي معلمة ولادة الدولة الإسلامية التي تجددت ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام هي معلمة تاريخ هذه الأمة، بهذه المعلمة نحصي التاريخ ونعده من ألف باءه إلى نهايته.

هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الفيصل الحاسم بين ماضٍ من الفقر المتقع وآت من الغنى الذي لفت أنظار العالم أجمع.

معلمة الهجرة هي الفيصل الحاسم بين ماضٍ من الشتات والتفرق والتشرذم والتخاصم وبين آت من الوحدة والتماسك التي غدت مضرب المثل.

معلمة الهجرة هي الفاصل الحاسم بين ماضٍ من الضعف والمهانة وآتٍ من القوة والعزة التي كانت مضرب المثل في العالم.

تلك هي معلمة الهجرة التي أكرم الله بها هذه الأمة من خلال شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي المعلمة التي خلّد بيان الله عز وجل حديثه عنها في قوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) فما هي نسبة العالم الإسلامي اليوم إلى هذه المعلمة التي أعزتهم بعد ذل، ووحدتهم بعد شتات، وأغنتهم بعد فقر؟

تنظر إلى العالم الإسلامي اليوم فتجده معرضاً عن هذا النسب، متجاهلاً لهذا الدرس، متجاهلاً لهذه القيمة كلها. أليس هذا هو واقع العالم الإسلامي اليوم؟ هل هنالك من مبالغة إن قلت إن هذه المعلمة تمر بنا اليوم في نهاية عام مضى ومقتبل عام جديد، تمر بنا يتيمة في أسرتها، غريبة في عالمها ليس هنالك أي مبالغة.

لو أن هذه الأمة كانت أمينةً على معاني الهجرة لبقي غناها الذي ورثته إياها الهجرة النبوية الشريفة ولبقيت عزتها التي ورثتها إياها الهجرة النبوية الشريفة، ولبقيت وحدتها التي ورثتها إياها الهجرة النبوية الشريفة. ولكن لما خلع العالم الإسلامي متجسداً في مظهر حكامه وأكثر أهله لما خلعوا هذا الشرف وألقوه وراءهم ظهرياً قال لهم الله: لقد أسلمتكم إلى ما تشاؤون.

كانت العبرة التي يأخذها المسلمون من السلف الصالح من الهجرة عبرةً إيجابية، واليوم غدت العبرة التي نأخذها من الهجرة ويا للأسف عبرةً سلبية بكل معنى الكلمة. سل أكثر من تريد أن تسألهم من المسلمين اليوم عن اسم هذا الشهر الذي يمر بهم من الأشهر الهجرية؟ لن يستطيع أن يعطيك جواباً إلا بعد أن يعود فيتعلم ثم يُخبر، بل لو سألتهم عن العام الهجري الذي يمرون به لن يعطيك جواباً لأنه غريبٌ عن عامه الهجري معانقٌ لذلك العام الآخر. أليس هذا هو الواقع المرئي؟ وأصغي جيداً إلى أجهزة الإعلام في العالم الإسلامي كله تجد كيف أن اسم العام الهجري يمر ذليلاً .. ولا يمكن أن يذل عند الله، غريباً .. ولا يمكن أن يكون غريباً في سماوات الله عز وجل، يتيماً .. ولا يمكن أن يكون يتيماً في ميزان الله عز وجل، لكنه يتيمٌ اليوم بقرارٍ من العالم الإسلامي الذي قضاه في حق نفسه.

من هنا أيها الإخوة حاقت بنا المهانة التي نتأفف منها، ولو أننا فكرنا وقدرنا وتأملنا لوجدنا يقيناً وبدون ريب أن الغرب ليس هو الذي أبرم قضؤه الجائر في حقنا أن يذلنا ويهيننا ويقطع أوصالنا، ولكننا نحن المسلمين الذي أبرمنا هذا الحكم في حق أنفسنا، ثم إن الغرب جاء لينفذ ما قد قضيناه نحن. نحن الذين قضينا والغرب هو الذي ينفذ. هذا هو الواقع.

قال لنا عدونا في الغرب: دعوا حضارتكم الإسلامية وتعالوا اتبعوا الحضارة التي تملئ رحب العالم ألقاً، قلنا: نعم لكم ما تطلبون وهذا هو الحق.

قال لنا الغرب الذي يعادينا ويحقد علينا وعلى كل شيء في تاريخنا: دعوكم من الإسلام الذي تقادم عهده، طوروه وبدلوه وغيروه وتعالوا إلى النظم العجيبة العلمية والعلمانية التي تورثكم عزةً ما بعدها عزة، قلنا: نعم لكم ما تريدون حباً وكرامة، فعلنا ما يقول.

قال لنا العدو الذي يفيض قلبه حقداً علينا وعلى تاريخنا وديننا: دعوكم من محور الدين الجامع هنالك محاور أخرى كثيرة متطورة تجمع الأمة وتقيم الوحدة، هنالك محاور القوم، محاور وحدة اللغة، وحدة المصير وما إلى ذلك ... دعوكم من الدين الذي يثير عليكم الأقليات المختلفة، قلنا: حباً وكرامة.

هذا هو الحق ... سرنا وراءهم تماماً أذلاء خاضعين كلما وجه إلينا تعليماً من تعليماتهم رفعنا أيدي الاستسلام المهينة لهم وقلنا نعم حباً وكرامة. فلماذا نستنكر إذا جاءت النتيجة الطبيعية لهذا كله؟ لماذا نستنكر إذا جاء هذا العدو بعد هذا كله فقطع أوصالنا ومزق كياناتنا وسحقنا وأقام المذابح للقضاء علينا ولتطهير الجيوب الإسلامية في مجتمعاته؟ لماذا تنكرون النتيجة الطبيعية للمقدمات التي أنتم كنتم أبطالها وأنتم الذين قررتموها؟ والمقدمات المنطقية لابد أن تثمر نتائجها المنطقية.

أما هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فكانت ولا تزال تقول لنا من وراء حواجز القرون: تعالوا إلى النهج الذي أعز أسلافكم وأنا الكفيلة بأنه سيعزكم اليوم. تعالوا فالتزموا بما التزم به أولئك الذين أعرضوا عن الدنيا في سبيل الله، أعرضوا عن الوطن في سبيل العقيدة. أرأيتم كيف أن الهجرة أعادت إليهم الوطن عندما بقيت لهم العقيدة، تعالوا أفعل بكم هذا النصر ذاته، أحقق لكم هذا الأمر هو ذاته، أعرضتم.

قالت لنا الهجرة ببليغ البيان: تعالوا فكونوا أمناء على معنى الهجرة كما كان أسلافكم أمناء عليها، تستغنون بعد فقر يبقى لكم ماضي غناكم ويضيف الله عز وجل إليه غنى جديداً، أرأيتم إلى أسلافكم الفقراء يوم نفضوا أيديهم من الدنيا كلها من البساتين والعقارات المنقولة والغير منقولة في سبيل الهجرة من أجل العقيدة، من أجل المبدأ. أرأيتم كيف أن الله أعاد إليهم الأموال وأعاد إليهم أضعاف أضعافها. ها أنا ذا إن كنتم أمناء على هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعانيها أضمن بكم الغنى بعد الفقر أعيد إليكم مجدكم السابق، أعرضنا عن ذلك كله.

أهابت بنا هجرة رسول الله ويحكم التفتوا إلي هذا هو معين عزكم، هذا هو مصدر قوتكم، من هنا تستطيعون أن تدخلوا الرعب في قلوب أعدائكم، ونظرنا فلم نجد أذناً تصغي إلى هذا الكلام بشكلٍ من الأشكال. بل رأينا معلمة الهجرة تخب فيما بيننا يتيمةً في عالمها الإسلامي من شرقه إلى غربه، غريبة في هذا العالم من شماله إلى جنوبه. كلنا يلاحظ هذا المعنى أيها الإخوة. فهل بقي لنا لسانٌ يعتب على الله؟

إذا كنا نسمع أو نرى ما الذي يحدث لإخوة لنا هنا أو هناك، ما ينبغي أن نكون متجاهلين لجرائمنا إلى هذا الحد؛ نجرم في حق أنفسنا ثم نعتب على الله! نحكم على أنفسنا بالانتحار بالذل بالضيع بالفرقة بالهوان ثم نعتب على الله لماذا سلط علينا هؤلاء الناس أو أولئك!

قلت لكم أيها الإخوة لا والله ليس هنالك عدوٌ يملك أن يقضي بحكم بحق العالم الإسلامي لكن العالم الإسلامي هو الذي قضى بملئ اختياره وحريته بأن يحكم على نفسه بالانتحار المهين البطيء الذليل، ثم جاء العدو فنفذ. نحن الذين حكمنا وجاء العدو لينفذ ما قد حكمنا به وخير الكلام ما قل ودل، ولا أجدني في هذا الموقف أمام هذا العبرة التي تمر بنا أو نمر بها لا أجدني أستطيع أن أقول مزيداً على هذا الكلام.

أقول قولي هذا وأستغفر الله.

تحميل



تشغيل

صوتي