مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 29/01/1999

ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله..

إن مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثٍ طويل قوله عليه الصلاة والسلام: "فإن وراءكم أياماً القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر للرجل منهم أجر خمسين منكم، قالوا منا أم منهم يا رسول الله؟ قال: بل منكم لأنكم تجدون على الحق أعواناً ولا يجدون".

ولعلنا نلاحظ في هذا العصر مصداق كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ونستبين الحقيقة التي تؤيد بدقةٍ عجيبة كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، فاستمساك الانسان المؤمن في هذا العصر بدينه أمر عسيرٌ جداً وإن كان يسيراً جداً بتوفيق الله سبحانه وتعالى، وهو يسيرٌ على من يسره الله سبحانه وتعالى له، والشدة التي تنتاب الانسان المسلم لدى تمسكه بالإسلام تأتي من جوانب شتى لا من جانب واحد. فبالإضافة إلى غربة الاسلام في هذا العصر عن العادات والأعراف والتيارات والأفكار وكثير من الفلسفات السائدة بالإضافة إلى هذا يوجد عاملٌ آخر وهو: كثرة الشبهات التي تلاحق فكر الإنسان المسلم، كثرة الوساوس التي تعشش في ذهن الإنسان المسلم إلا من وقى الله سبحانه وتعالى.

فالمسلم أينما اتجه يجد أمامه ما قد يثير في نفسه شكوكاً وريباً، فإن هو استسلم لهذه الشكوك والريب زجته هذه الشكوك في بيداء بعيدة عن عقائد الإسلام ودينه، وإن هو صبر وإن هو التجأ إلى مزيد من الدراية والعلم والبحث وقاه الله سبحانه وتعالى.

هذه الشكوك والريب كثيرة ٌأيها الأخوة وهي تتكاثر في هذا العصر، ويخيل إلي أن الإنسان كلما أراد أن يفتح كتاب الله سبحانه وتعالى ويتلو شيء من آياته لابد أن يعترضه الإنسان بطائفة من هذه الريب والشكوك، عندما يقرأ كتاب الله ثم يلاحظ الواقع الذي يحيط به من حوله، وربما كانت هذه الشكوك والريب من الآثار أو من الأسباب الكثيرة التي تشرد بكثيرٍ من الكثير من المسلمين في هذا العصر عن صراط الله عز وجل وتزج بهم في اجتهادات باطلة، يخيل إلى أحدهم أنه يجاهد وأنه يتبين وأنه يجتهد، ولكنه إنما يتعامل مع شكوكه وريبه هذه.

هنالك من يستشكل قول الله سبحانه وتعالى في ميزان الواقع الذي يراه، يستشكل قول الله في محكم تبيانه: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ". هنالك من يسأل - لا مستفهماً بل مرتاباً - كيف يمكن أن يطبق هذا الكلام الرباني على هذا الواقع المرئي في هذا العصر؟

يقول الله عز وجل: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا " هذا هو منطق الكفر عندما يتجبر ويطغى، فبماذا تعهد الله عز وجل جواباً عن هذا الطغيان؟ "فأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ(13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ " يقول قائلهم: ها هم الكفرة يتجبرون اليوم فوق أرض الله الواسعة فلماذا لا يهلكهم الله ؟ ولماذا لا يسكن المؤمنين به والمسلمين له في مكانهم وهو وعد قد قطعه الله سبحانه وتعالى على ذاته العلية " فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ".

هذا الريب أيها الإخوة من مظاهر الفتنة التي تجعل القابض على دينه كالقابض على الجمر كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم. ولكن الإنسان الذي جعل عمدته في السير على صراط الله سبحانه وتعالى معرفة دين الله والرجوع إلى ما يقوله الربانيون في تفسير كلام الله سبحانه وتعالى والالتزام بما كان عليه السلف الصالح. الإنسان الذي يجعل عمدته في التمسك بالدين هذه المعارف، لن يقع في تيه ولن يقع في شبهات ولا في مشكلات. من هم الذين خاطبهم الله بهذا؟ الرسل " فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ"، أي إلى أولئك الرسل "لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ" كونوا في التزامكم بدين الله كأولئك الرسل يكن الله سبحانه وتعالى محققاً لكم هذا العهد الذي التزمه، بل لا ينبغي أن يرقى الإنسان إلى مستوى الرسل في العصمة فلا قبل لأحدنا في ذلك، ولكن يكفي أن يكون الإنسان صادقاً مع الله مخلصاً دينه لله لا يبتغي من وراء تمسكه بهذا الدين غرضاً دنيوياً أو مصلحةً من مصالحه الشخصية أو زعامةً أو مالاً يتاجر به، لا يبتغي من وراء ذلك إلا الوصول إلى مرضاة الله، ويندفع إلى هذه الغاية بدافعٍ من مخافة الله سبحانه وتعالى كما قال بعد ذلك: "ٰ ذلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ".

عندما يتبصّر الإنسان المسلم بهذه الحقيقة تزايله وساوس الشياطين، لا يستطيع لا شيطان من شياطين الإنس ولا شيطانٌ من شياطين الجن أن يدخل الريبة إلى قلبه وعقله قط. أين نحن من تنفيذ هذا الذي اشترطه الله سبحانه وتعالى؟

أين هم الناس الذين يسيرون على قدم أولئك الرسل والأنبياء وخاتمهم وآخرهم محمدٌ صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ أين هم الصادقون مع الله "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين"؟.

أين هم المخلصون في أعمالهم لله سبحانه وتعالى؟

عندما يكون المسلمون صادقين مع الله مخلصين لله فلسوف تجدون هذا العهد قد تنفذ بأيسر السبل، وكل الوسائل التي يلجئ إليها الطغاة فوق هذه الأرض، وكل القوى التي تتباهى بها الجبابرة فوق هذه الأرض كل ذلك يذهب أدراج الرياح، لكن الآن في سبيل ماذا يُذهب الله قوى أولئك الجبابرة أدراج الرياح؟ في سبيل ماذا يهلك الله سبحانه وتعالى تدبير أولئك المدبرين؟ من أجل من؟ من أجل أناسٍ جعلوا من الإسلام مطايا ذلولة لأغراضهم!؟ من أجل أناسٍ جعلوا من الإسلام وسائل يستحلبون منها الرزق لأنفسهم!؟ من أجل أناسٍ عز عليهم أن يجدوا سلماً يمتطوه إلى مكانة باسقة إلى زعامة فلم يجدوا خيراً من الإسلام يمتطونه ويجعلونه سلماً لهذا!؟ من أجل هذا يهلك الله جبابرة الأرض؟!! ومتى كان هؤلاء الناس مدللين إلى هذا الحد عند الله؟ أين هم الذين يصدق عليهم قول الله عز وجل: "ٰ ذلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ"؟ أرني هؤلاء الذين يندفعون إلى طاعاتهم قرباتهم أعمالهم جهاداتهم بدافعٍ يرتكز على أفئدتهم وبين جوانحهم مخافةً من الله، مخافة من وقوفهم غداً بين يدي الله سبحانه وتعالى أريك كيف يكون هلاك الجبابرة، أريك كيف يكون هلاك هؤلاء الطغاة. أجل يا عباد الله، نطالب الله سبحانه وتعالى بما تعهد به ولا نطالب أنفسنا بما ادعينا أننا نتمسك به. "ٰ ذلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ"

ولعمري إنها لدقة بالغة في بيان الله عز وجل إذ لم يقل ذلك لمن كان يؤدي وظائف الدين على وجهها، ذلك لمن كان ينشط هنا وهناك داعياً إلى الله سبحانه وتعالى آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لم يقل ذلك. قد تمتلئ الأرض من هؤلاء الناس ولكنك تخترق هذه الصورة وإذا بالدوافع رغبات دنيوية، شهوات آسنة شخصية، ليس هذا هو المقصود، المقصود أن تنظر إلى ما قد استقر في القلب فإن كان الذي استقر في القلب خوفاً يأخذ بمجامع القلب خوفاً من وعيد الله اليوم وخوفاً من الوقوف بين يديه غداً، عندئذٍ الصور تكون مطابقةً للواقع الحقيقي. العبرة بهذا الذي بينه لنا الله سبحانه وتعالى.

قولوا لهؤلاء الإخوة الذين ينشدون نصر الله للمسلمين: عندما يكثر المسلمون الصادقون مع الله المخلصون دينهم لله، لا بد أن يتحدوا وعندما يتحدون ستجد الوعد الذي قطعه الله عز وجل على نفسه نافذاً.

أما اليوم تنظر فماذا تجد؟ تجد أن قوى الشر لم تعد تستعمل أسلحةً كالأسلحة التطبيقية السابقة لتحارب بها دين الله لا، بل هي اليوم تتخذ من الإسلام نفسه أسلحةً تحارب بها دين الله عز وجل كيف؟ كيف نفتح أبصارنا اليوم لنجد أن دول البغي التي كانت إلى الأمس القريب تحارب دين الله عز وجل بالوسائل التقليدية التي تعرفونها، قد ألقت اليوم وسائلها ظهرياً وراءها وراحت تقاتل المسلمين بالمسلمين، راحت تقاتل المسلمين بالإسلام، ألا ترون ذلك؟ ألا تنظرون إلى بريطانيا وأنتم تعلمون طرقها التقليدية بالأمس القريب والبعيد للكيد للإسلام ولعداوة الإسلام ولمحاربته اليوم بريطانيا كيف تحارب الإسلام وبماذا تحاربه؟ تحاربه بالمسلمين تحاربه بالإسلام مجسداً بجنودٍ في بلادها، وهذا شيء يجعل الإنسان يشيب وهو في شرخ الشباب.

المسلمون أصبحوا جنوداً اليوم ليكونوا أسلحة حديثة وجديدة بعد الأسلحة التقليدية القديمة لمحاربة دين الله سبحانه وتعالى، والمسلمون يصبحون اليوم جنوداً للكيد للإسلام باسم الإسلام ذاته؟! كيف هذا؟ عندما ننظر فنجد أن الإسلام قد تصدع وتشظى كما يقول أحدهم إلى شظايا متناثرة هنا وهناك، وعندما تنظر فتجد أن الذين لا يزالون على العهد ولا يزالون يسيرون على صراط الله عز وجل أقل من القليل، أقل من القليل جداً. أما الكثرة الكاثرة هنا وهناك فشيعٌ وفئات وأحزاب وتنظر إلى قوى الشر وقد أقامت لنفسها عرساً من هذا التشرذم الذي تراه، إذ جعلت من هذا التشرذم من هذا التناقض القائم بين المسلمين سلاحاً فتاكاً، وبريطانيا كانت ولا تزال أم الخبث والخبائث في هذا العالم، أجل وجدت الطريق معبداً إلى عملٍ بسيطٍ جداً تضرب فلولاً من المسلمين بفلول من المسلمين، تضرب فئات من المسلمين بفئات من المسلمين وإذا برحى الهلاك يدور عليهم جميعاً. عندما يكون حال المسلمين هكذا بأي حجة تريد أن تحتج على الله وتقول أين هو تنفيذ وعده؟

"وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ" إلى الرسل، أجعلتم أنفسكم في محل أولئك الرسل، كونوا لا كأولئك الرسل كونوا سائرين على قدمهم ينجز لكم الله ما وعد " فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ" ذلك تأكيد حتى لا يحتج إنسان على الله كما يحتج بعض الناس اليوم "ٰ ذلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ".

ولا والله أيها الإخوة لن تجد ثلة من المسلمين فاضت أفئدتها مخافة من وعد الله اليوم ومخافة ًمن وقوفها بين يديه غداً إلا وتجد أول ثمرة من ثمار هذا الخوف، الاتحاد الذي يجمع شملنا ومن ثم يسقط حواجز الفرقة مما بينهم، أول أثر من آثارها أول ثمرة من ثمار هذا الصدق الذي اشترطه الله عز وجل هو هذا، فأين هو هذا التلاقي؟

فئات من المسلمين شتى كل فئة تكيد للفئة الأخرى، أسماء حركية غريبة عجيبة تتحرك في أحضان دولٍ تكيد للإسلام وتجد المظلة الواقية الكافية لها هناك، كيف يكون ذلك؟

مرةً أخرى أقول أيها الإخوة صدق الله وكذب المدعون في هذا العصر والله لا يخلف وعده، أجل صدق الله إذ يقول: "وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ" خيبة الجبارين واقعة ولكنها لا تتبدى إلى على شكل، والشكل الذي تتبدى عليه خيبة الجبابرة شكلٌ واحد لا ثاني له هو إيمان المؤمنين، صدق الصادقين إخلاصهم لله سبحانه وتعالى، أجل أرأيتك إلى أشعة الشمس مهما تلألأت هل تجد العين صورة لهذه الأشعة إلى بعد أن تنعكس على جدر؟ لا يمكن إذا لم يوجد هذا الجدار الذي تنعكس عليه أشعة الشمس لن تجد حقيقة لهذه الأشعة. وكذلكم الخيبة التي وعد الله بها أو توعد بها الجبابرة موجودة ولكن هذه الخيبة الموجودة لا يمكن أن ترى إلا إذا انعكست على حقيقة، والحقيقة التي إذا انعكست عليها هذه الخيبة تراها الأعين شيء واحد، صدق المسلمين مع الله عز وجل، وأول معنى لصدق المسلمين هو هذا أجل "ذلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ".

أنا أعلم أن أفئدة كثير وكثير من المسلمين الذين يرفعون لواء الحركة والدعوة الإسلامية أفئدتهم خالية فارغة من شيء اسمه الخوف من مقام الله، من شيء اسمه الخوف من وعيد الله عز وجل، أولئك الذين كانت تفيض قلوبهم بهذه المخافة هم الرعيل الأول، هم أولئك الناس الذين قد لا ترى لهم هذه الحركة بفورتها العجيبة اليوم، ولكنك تنظر إلى أفئدتهم فإذا هي كالمرجل خوفاً من الله سبحانه وتعالى. عندما يكون المسلمون صادقين مع الله يتحدون وعندما يتحدون يتلألأ على واقعهم مظاهر خيبة الجبابرة وصدق الله القائل " وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ " أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي