
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


التراحم .. وقاية من غصص الحرمان !
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله ..
إن الله عز وجل ابتعث رسوله محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم رحمةً للخلائق أجمع، وقد قرأتم في ذلك قول الله عز وجل: (وما أرسلناكَ إلا رحمة ًللعالمين) فلا عجب وقد أرسل الله عز وجل محمداً رحمة للعالمين أن يكون في مظهره معلماً للرحمة بلسانه وبسلوكه معاً، لا غرو ولا عجب أن يكون محمدٌ صلى الله عليه وسلم في سلوكه الذي عرفناه معلماً للرحمة، وأن يكون في أقواله التي وعيناها معلماً أيضاً للرحمة.
ولقد أمرنا الله عز وجل أن نجعل من نبيه محمد قدوة لنا: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) والأحاديث التي نبه الرسول صلى الله عليه وسلم من خلالها الناس إلى أن يتراحموا والدعوات المختلفة التي دعاهم من خلالها إلى التراحم كثيرة، ولا أريد في هذا الموقف أن أحصي الأحاديث الواردة والتعليمات المتكررة من فمه صلى الله عليه وسلم للناس بالتراحم، ولكني أذكركم بنماذج. منها:
يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه مما رواه الشيخان: (من لا يرحم لا يُرحم)، قال ذلك في مجلسٍ قبّل فيه الحسين بن علي رضي الله عنهما. فقال الأقرع بن حابس: إن لي عشرةً من الأولاد ما قبلت واحداً منهم قط. فقال له صلى الله عليه وسلم: (من لا يَرحم لا يُرحم) وفي رواية (وهل أملك إن نزع الله سبحانه وتعالى من قلبك الرحمة).
ثم إن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان نموذجاً تطبيقياً لهذا الذي كان يأمر به في سلوكه، في علاقته مع الناس جميعاً كباراً وصغاراً رجالاً ونساءً مؤمنين وغير مؤمنين، أما رحمته بالمؤمنين فكانت تتمثل في العطف والشفقة وحسن المعاملة الدائمة، وأما رحمته بغير المؤمنين فكانت تتمثل في دعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى وموعظته لهم دائماً ونصيحته لهم دائماً، وإن ذلك لمظهر من أجل مظاهر رحمة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهم.
والأمة التي تنفذ وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجعل من سلوكه قدوةً وأسوةً لها لابد أن تعيش في كنفٍ من رحمة الله سبحانه وتعالى وفضله.
الأمة التي تشيع فيما بينها التراحم لن تعاني من غصص الحرمان أبداً.
والأمة التي ترى أن الله عز وجل يأخذها بالشدائد ينبغي أن تراجع حالها، هذا فيما بينها وينبغي أن تعلم أنها قد حادت عن وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتعدت عن نهجه وسلوكه، وما أجدر بالمسلم أن يراقب حاله دائماً من هذا الجانب، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون ذلك، كانوا يحاسبون أنفسهم لدى الشدائد التي يُأخذون بها، وكان التابعون ومن بعدهم السلف الصالح كلهم كانوا على هذه الشاكلة.
ونحن اليوم أيها الإخوة نعاني من الحرمان الذي ترون، بل نعاني من حرمان لا أذكر أني رأيت مثيلاً له في حياتي الماضية قط؛ إنكم لترون كيف أن الصيف امتد إلى الشتاء ليقضي على الشتاء وأيامه الباقية، وأنتم تعلمون أن هذا الحرمان إذا استمر على هذه الشاكلة فلا بد أن يأخذ الظمأ بالحلوق، ولا بد أن تظهر قيمة الماء الذي لا تظهر قيمته اليوم عند كثيرٍ من الناس، ولابد أن يأتي وقتٌ يعلم فيه الناس جميعاً أن كأساً من الماء يساوي أكثر مما تساويه الجواهر المتألقة. ولكن رحمة الله سبحانه وتعالى هي التي تجعلنا لا نزال جاهلين بهذه القيمة الحقيقية.
إذا لم نشأ أن نلتجئ إلى الله الالتجاء الذي علمنا إياه رسول الله الالتجاء الجماعي بالآداب وبالشكل الذي عرفتموه في بابٍ في أجل أبواب الشريعة الإسلامية، باب صلاة الاستسقاء إذا لم نشأ أن نلتجئ إلى الله سبحانه وتعالى هذا الالتجاء العام في هذا الشكل فهنالك دواء آخر، هذا الدواء الآخر هو أن نتراحم وأن تشيع فيما بيننا صلة التراحم، يرحم الكبير الصغير، يرحم الغني الفقير، يرحم القوي الضعيف، وأنا على يقين أن هذه الأمة إذا تراحمت فإن الله سبحانه وتعالى يغدق عليها من شآبيب إكرامه، وأن أعلم أن الله سبحانه وتعالى يسامح بحقوقه ولكنه لا يسامح بحقوق العباد.
وكم قلت وأعدت القول، القاعدة الفقهية المشهورة والمعروفة: "إن حقوق الله مبنية على المسامحة، ولكن حقوق العباد مبنية على المشاحة". الالتجاء إلى الله حقٌ من حقوق الله، ولكن رحمة الغني بالفقير، ولكن رحمة القوي بالضعيف، ولكن رحمة القوي بالعاجز .. من حقوق العباد، وإذا أدى الناس الحقوق السارية فيما بينهم فأغلب الظن أن الله سبحانه وتعالى يتجاوز عن حقه المنوط بأعناقنا، ألا وهو صدق الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى. فلماذا لا نتداعى إلى الرحمة التي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أيها الإخوة ليت أن هذا الحديث يبلغ آذان كل الفئات التي تمثل هذه الأمة في هذه البلدة المباركة، ليت أن وصايا رسول الله بالتراحم تبلغ آذانهم، وليت أنها تمخر الآذان إلى قلوبهم وأفئدتهم كي يتراحموا قبل فوات الأوان.
وإنكم لتعلمون أن بلدنا هذا يعاني من تناقضات مثيرةٍ للأسى، مثيرةٍ للحزن في الفؤاد؛ إنك لتنظر فتجد مظهر الغنى البازخ البازخ الذي لا يكاد الخيال يتصوره، وإلى جانبه الفقر والضنك والحرمان، ما أيسر أن ترى هذا إلى جانب ذاك، إنك تستطيع أن تلاحظ حال الرجل الذي يعيش في دارٍ فارهة وفي نعمةٍ تطوف به بل تتراقص من حوله ألواناً وأشكالاً، والنعم أنواعاً شتى كما تعرفون، وإلى جانب هذا الإنسان أسرة أخرى تبحث عن كن تأوي إليه عن عشٍ تستر نفسها فيه كما يستتر الحيوان في أكنانه، فلا تجد هذه الأسرة ذلك، تجد شاباً قد التهبت غرائزه بين جوانحه يبحث عن وسيلةٍ تُرضي الله ليتخلص من لظى غرائزه هذه، فلا يجد لأن ذلك يحوجه إلى قدرٍ من المال، يحوجه إلى مالا يقل عن خمسين ألف ليرة أو مئة ألف ليرة، وهكذا يتقلب في لظى الحرمان، وينظر عن يمينٍ وشمال فيسيل لعابه وهو يرى المنعمين المترفين، وهو يرى أخيلة النعمة كيف تتحقق من حوله وكيف تفر من داره. هذه الظاهرة موجودة، هذه التناقضات متزاحمة في بلدتنا هذه أيها الإخوة لو كان هنالك تراحم أفكنت ترى شيئاً من هذا التناقض؟ معاذ الله.
ولماذا أمرنا المصطفى بالتراحم؟ بل لماذا أمرنا الله بأن نتراحم من أجل أن تسد هذه الفجوات، ومن أجل أن تزول هذه التناقضات، ومن أجل أن تعود هذه الأمة كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
إذاً نحن نعاني من مصيبة كبرى ألا وهي غياب الرحمة التي أمرنا بها المصطفى عندما أمرنا بها الله سبحانه وتعالى، والقلة لا قيمة لها، القلة من الناس لا تصلح فاسداً ولا تقوم إعوجاجاً بعد أن قال الله عز وجل: (واتقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصّة) فما هي العاقبة إن استمر بنا الأمر على هذا المنوال؟ ما هي العاقبة إذا كان الناس يضحون بكل شيء في سبيل مصالحهم الشخصية وتعشى عيونهم عن رؤية إخوانهم الذين يعانون من ألوان الضنك والحرمان الذين يوصلان إلى الهلاك؟ كيف يكون حال هؤلاء وقد سمعوا قول رسول الله يقول: (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائعٌ إلى جانبه) ما المآل إيها الإخوة؟
المآل أن يُزج بهذه الأمة كلها في الحرمان بعد ذلك، وعندئذٍ لا تجد فرقاً بين غنيٍ ولا فقير، بين قويٍ ولا ضعيف؛ ذلك لأن الله عز وجل إذا استلب إكرامه وفضله من أمةٍ لا تتراحم، فلن يبقى معنى لغنى الغني أبداً، ولن يبقى معنى لترف المترفين أبداً، ماذا عسى أن تفيدهم القصور البازخة إذا أخذ الظمأ بحلوقهم؟ ماذا عسى أن تفيدهم الأموال المكتنزة إذا عض الجوع عليهم؟
تصورا أيها الإخوة إنساناً أكرمه الله بالمليارات وجعل الدنيا ترقص من حوله، ولكن الله حرمه من جرعة ماءٍ عند حاجته إلى هذا الماء، ماذا عسى أن تصنع له هذه الكنوز كلها؟ ورحم الله طاووساً اليماني وقد كان جالساً عند هارون الرشيد فطلب جرعة ماء، جيء إليه بكأس من الماء، قال له طاووس: مه يا أمير المؤمنين، أي انتظر قال نعم، قال لو حرمت هذا الماء على ظمأ بماذا كنت تشتريه؟ قال: بكل ما أملك، قال: فاشرب هنيئاً، شرب، ثم قال له يا أمير المؤمنين: لو حرمت خروج هذا الماء من جسدك بماذا كنت تشتري إخراجه؟ قال: بكل ما أملك، قال: فاتقي الله في ملكٍ لا يساوي جرعة ماء.
ليت أن الأغنياء والميسورين الذين تاهوا عن وضع إخوانهم في هذه البلدة ليت أنهم يدركون هذه الحقيقة التي قالها طاووس، أجل إذا حاق الحرمان بهذه الأمة عندما يبقى الجو على هذه الشاكلة التي ترون، ماذا عسى أن يفيد الغنى أصحابه؟ ماذا عسى أن يفيد الترف أصحابه؟ الكل عندئذٍ يتساوون ولكن لن يتساووا في السعادة وإنما سيتساوون في الشقاء.
فيا عجباً لأمةٍ تجد أمامها دوائين ولكنها لا تريد أن تلجئ لا إلى الدواء الأول ولا إلى الدواء الثاني، وهي ترى شبح الحرمان والشقاء يدنو إليها رويداً رويداً! الدواء الأول الالتجاء إلى الله حسناً، إن كان هنالك من يشعر بأن هذا الالتجاء يجرح كبريائه، هنالك دواء آخر التراحم فإذا كنا لا نريد أن نتراحم ليرحمنا الله ولا نريد أن نلتجئ إلى الله سبحانه وتعالى ليكرمنا الله عز وجل فما النتيجة التي ينبغي أن ننتظرها؟