
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


(باطن الإثم) داء وبيل أعرض عن دواءه المسلمون!
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله..
إن مشكلاتنا الإجتماعية والدينية كثيرةٌ جداً في هذا العصر، ومردُّ هذه المشكلات كلها إلى آفاتٍ نفسية يُعاني منها اليوم أكثر المسلمين.
من هذه الآفات النفسية العصبية التي تتحكم في كثيرٍ من الأحيان بأصحابها، فيستخدمون الإسلام أو الدين من أجل إرواء وإشباع عصبياتهم.
ومن هذه الآفات قسوة القلب التي من شأنها أن تحجب الإنسان عن استيعاب خطاب الله سبحانه وتعالى، وعن الانصياع لأوامره، وعن التأثر بنذره ومهدداته.
ومن ذلك امتلاء القلوب والأفئدة بمحبة الدنيا بكل أشكالها وأنواعها، والدنيا ليست محصورةً في درهم ولا دينار، بل حب الشهوات من الدنيا، حب الشهرة والزعامة والرئاسة من الدنيا، التعلق بالمال من الدنيا.
هذه الآفات لو عددناها لاستغرقت منا وقتاً طويلاً ...
هذه الآفات التي توضعت في نفوسنا نحن المسلمين في هذا العصر هي التي تفرز المشكلات الإجتماعية الكثيرة التي نعاني منها، هي سبب تفرقنا نحن المسلمين وهي سبب الضعف الذي آل حالنا إليه بعد تلك القوة التي عُرفنا بها، هي سبب الذل الذي انحط في كياناتنا ومجتمعاتنا بعد ذلك العز الذي سما الإسلام بنا إليه.
هذه المشكلات الكثيرة التي نقوم ونقعد كثيراً بالحديث عنها، إنما أفرزتها تلك الآفات النفسية، الكبرياء، العصبية، قسوة القلب، استخدام الدين وأحكامه وأموره من أجل إرواء الغرائز وإشباع النهم الذاتي، وزيادة تحقق الإنسان بذاته والدفاع عن كينونته إلى آخر ما تعرفون من المشكلات التي كثيراً ما نتحدث عنها ...
ولعل فينا من قد يسأل: فهذه الآفات النفسية التي تُفرز تلك المشكلات الإجتماعية التي انحطت فيما بيننا ما علاجها؟ كيف يستطيع المسلم أن يتحرر من هذه الآفات النفسية التي يجمعها بيان الله عز وجل بكلمة واحدة هي "باطن الإثم"؟ كيف السبيل إلى ذلك؟
السبيل إلى ذلك أيها الإخوة معلومٌ وميسور، ولكنا معرضون عن هذا الأمر المعلوم والميسور جداً.
السبيل إلى أن نتطهر من هذه الآفات وأن نعتق أنفسنا وقلوبنا من عقابيلها هو الإكثار من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي كلمة ٌما أظن أن فينا من يُقدرها حق قدرها، ولعل كلاً منكم يتصور أنني أريد أن أشير إلى دواءٍ خطير لا يخطر بالبال، لا .. الأمر أهون من ذلك والأمر أيسر من ذلك أيضاً. الإكثار من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى، وهذا الدواء لا أشك أننا معرضون عنه، ذلك لأنا لو كنا نأخذ أنفسنا بهذا الدواء كما يأمر الله سبحانه وتعالى إذاً لتحررنا من هذه الأمراض النفسية الداخلية التي سماها الله "باطن الإثم"، إذاً لتحررنا من عصبياتنا، من كبريائنا، من اهتمامنا بتحقيق ذواتنا على حساب الدين ومبادئه وأحكامه وقيمه. إذاً لتقلصت علاقتنا بالدنيا، بالمال بالرئاسة بالزعامة ... ولتغلبت محبة الله عز وجل على نفوسنا، كل ذلك كان يتم بسهولة لو أنا كنا نأخذ أنفسنا بهذا الدواء، الإكثار من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى.
وما منا إلا وقد وعى أمر الله سبحانه وتعالى بهذا الدواء إن كنا نقبل إلى كتاب الله تلاوة أو إصغاءً بين الحين والآخر. ألم يقل الله عز وجل: "وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا" وكم كرر وكرر هذا الأمر. لو لم تكن هنالك ضرورة قصوى لانقياد المسلمين لهذا الأمر لما أمرنا الله بذلك بدءاً من مخاطبته لرسوله إلى الناس جميعاً من بعده، ولكن لمّا علم الله عز وجل أن تلاوة المسلم لكلام الله المنزل عليه هو الذي يغسل أرجاس نفسه، وهو الذي يطهر فؤاده من باطن الإثم ومن الموبقات، لمّا علم الله ذلك أمره بهذا.
والآن تعالوا نتساءل كم عدد الصفحات التي نتلوها من كتاب الله عز وجل في كل يوم؟ دعونا من الشباب الذين يقبلون إلى حفظ كتاب الله، دعونا من المعاهد التي تتكاثر بحمد الله والتي تسمى معاهد الأسد لتحفيظ القرآن، هذه جيوب موجودة هنا وهناك في مجتمعاتنا. ولكني أسأل وأنا أقبل إلى عامة المسلمين على اختلاف فئاتهم من أعلى القمة إلى القاعدة، ما هو نصيب كتاب الله عز وجل منا في بياض كل يوم؟
التجار الذين يصفقون في الأسواق، والذين يستغرقون في أعمالهم التجارية، ما هو الحزب أو الورد الذي يتمسكون به دائماً من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى، وما هو أو ما هي حصيلة ما يقرأونه في كل يوم من هذا الكتاب؟
ما هو القدر الذي يقرأه الموظفون والعمال وغيرهم من كتاب الله عز وجل بتدبر في كل يوم على أنه ورد يلزمون به أنفسهم؟
ما هو القدر الذي يتلوه الطلاب - طلاب المدارس الثانوية أو طلاب الجامعة أو الطلاب الذين يدرسون اختصاصاتهم المتنوعة المختلفة من وراء الجامعة؟ ما هو القدر الذي يلزم كل واحد من هؤلاء الناس نفسه بتلاوته كل يوم؟
ما هو القدر الذي يتلوه الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى ممن يسمون الإسلاميين؛ الذين يتحركون هنا وهناك وهم يحلمون بإقامة المجتمع ويرسمون الخطط لذلك، ويجتمعون ويتفرقون ثم يجتمعون ويتفرقون ابتغاء ذلك؟ ما هي عدد الصفحات التي يُلزم كل واحد منهم نفسه بتلاوته من كتاب الله سبحانه وتعالى؟
لو تأملتم لعلمتم أن الجواب مخزٍ ومؤلم ويبعث على الخجل من الله عز وجل الذي يقول لكل فردٍ فردٍ منا: "وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا".
كثيرون هم الذين يحجبون أنفسهم عن الإقبال إلى كتاب الله بالعمل الإسلامي الذي يحلمون به، وما أغرب هذا وأعجبه!
كثيرون هم الذين يشتغلون بأمر الدعوة - فيما يقولون ويزعمون - وهم أبعد الناس عن الاهتمام والالتزام بوردٍ دائمٍ دائم من كتاب الله سبحانه وتعالى.
أما أولئك الآخرون الذين يصفقون في الأسواق من تجارٍ على اختلاف درجاتهم وفئاتهم، أما أولئك المسلمون الذين غرقوا في أعمالهم الوظيفية المختلفة، أما أولئك الآخرون العاملون في حقولهم المتنوعة من صناعة أو فلاحة أو نحوها، أما أولئك المسؤولون على اختلاف درجاتهم وطبقاتهم ... فما أبعدهم عن القرآن وما أبعد القرآن عنهم. أجل.
هذا الواقع أيها الإخوة هو الذي تسببت عنه هذه الآفات التي توضعت في نفوسنا، وهذه الآفات هي التي أفرزت المشكلات الاجتماعية المختلفة، بل الدينية أيضاً التي نتشاكى منها ونتألم منها، ومن أبرز آثار ذلك هذا التفرق الذي مني به المسلمون. قسوة القلب لا دواء لها إلا الإقبال إلى كتاب الله عز وجل، مهما ناقشت قساة القلوب ومهما حذرتهم ومهما ذكرتهم ومهما كنت تملك لساناً زلقاً وبياناً فصيحاً لن تستطيع أن تبدل قسوة قلبه رقة، إنما الذي يذيب قسوة القلب هو كتاب الله، هو الإقبال إلى كتاب الله سبحانه وتعالى بتدبر، واتخاذ ذلك غذاءً، غذاءً مستمراً مستمراً يأخذ الإنسان بذلك نفسه. هذا هو الذي يذيب قسوة القلب. الذي يذيب العصبية من كيان تلك العصبية التي أستعملها للانتصار لذاتي لتغذية أنانيتي ولو على حساب الدين باسم الدين باسم الانتصار للدين، باسم تخطئة الآخرين أغذي " أنا أعلم دوافعي" أغذي العصبية الكامنة في كياني.
مرض ... ما الذي يشفيني من هذا المرض؟ الإقبال على كتاب الله؛ لا بين الحين والآخر إطلالة على كتاب الله كل أسبوع، لا لا وإنما شفائي يتمثل في أن يكون لي ورد، وردٌ دائمٌ منظمٌ آخذ نفسي به يتمثل في الجلوس مع الله من خلال الإصغاء إلى كلامه، الذي يقلص حب المال، حب الدنيا، بل ربما يزيلها نهائياً من القلب ويجعل الإنسان متوجهاً إلى الله، متوجهاً إلى شأنه الذي هو مقبلٌ إليه، إنما هو الرجوع إلى كتاب الله سبحانه وتعالى، أن يقرأ منه مقداراً محدداً في بياض كل يوم كما كان يفعل أصحاب رسول الله، كما كان يفعل التابعون وتابعوهم، السلف الصالح بل إلى عهدٍ قريب.
وإني لأذكر أيها الإخوة عهداً قريباً أعرفه بنفسي، كنت إذا ذهبت إلى أبرز سوقٍ من الأسواق التجارية في دمشق أنظر ذات اليمين وذات الشمال فأجد أصحاب هذه المحال، وكثير منهم كانوا من كبار التجار إما أن يكون مشتغلا ًمع زبون وإما أن يكون مشتغلاً بكتاب الله عز وجل، إذا لم يكن أمامه من يساومه في بيعٍ أو شراء أقبل إلى كتاب الله سبحانه وتعالى وهو موضوعٌ دائماً على كرسيٍ أمامه يقرأه. أين هم التجار الذين يلزمون أنفسهم بهذا؟ انظروا كيف كانت حياة المسلمين قبل خمسن عاماً وكيف آلت حال المسلمين اليوم؟
السبب هذا .. الدعاة إلى الله عز وجل كان غذاؤهم في الدعوة القيام في الأسحار، كان غذاؤهم في الدعوة الإكثار من تلاوة كتاب الله عز وجل، أجل: "أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا".
نحن اليوم أيها الإخوة أصبحنا بعيدين عن كتاب الله، وإياكم أن تتناسوا هذه الحقيقة بتذكر الجيوب التي لا أشك فيها، لكنها كما قلت لكم جيوب. هنالك شباب يحفظون كتاب الله لكن كم هم بالنسبة لمجموع هذه الأمة؟ هنالك معاهد تسمى معاهد الأسد لتحفيظ القرآن، ونحمد الله على أن هذه المعاهد في تكاثر، ولكن هل التجار هم الذين يترددون على هذه المعاهد؟ هل الموظفون؟ إنهم الأطفال الصغار، ثم كم هم عدد هؤلاء الأطفال الصغار بالنسبة لمجموع هذه الأمة؟
ما تلوت ساعة أيها الإخوة من كتاب الله إلا ووجدت فيه دواء لنفسي، عندما أعاني من عصبية أجد كتاب الله قد غسل هذه لعصبية من كياني، عندما أجدني أعاني من تعلقٍ بالدنيا أو أيٍ من شهواتها أجدني قد رجعت إلى الحقائق الكونية وسما بي القرآن صعداً. انظروا إلى الآية التي تلوتها الآن انظروا إلى ما ورائها كم تجلب الإنسان وتأسره: "وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ