مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 07/08/1998

اخترقوا عالم الأسباب

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله..

دأب كثيرٌ من الناس في هذا العصر على ربط تقلبات الكون أو ما يسمونه بالطبيعة بأحداثٍ كونية مثلها.

فإذا وجدوا أن موجةً من الحرار غير مألوفةٍ قد داهمتهم، قالوا: إنها موجةٌ آتيةٌ من الهند أو من جهة من جهات آسيا مثلاً.

وإذا وجدوا أن وضعاً غير مألوفٍ داهمهم للظواهر الكونية تأملوا ثم قالوا: إن ذلك نتيجة لخرق قد وقع في طبقة الأوزون.

وإذا فوجئ الناس بموجةٍ باردة أو صقيع قالوا: إنها كتلة هوائية باردة آتية من جهة أقصى الشرق.

وإذا مر بهم موسم لم يكرمهم الله سبحانه وتعالى فيه بنتاج الأرض كما اعتادوا قالوا: إنها حشرة انتشرت في الأرض فكان من نتيجة وجودها ما قد حصل.

وهكذا دأب هؤلاء الناس أن يربطوا تقلبات الكون أو الطبيعة كما يقول البعض بأسباب كونية مثلها.

هذا التصور أيها الإخوة أولاً: مظهر من مظاهر الجهل، بل الجهالة البالغة، ثم إنه بعد ذلك مزلقٌ إلى الكفر بالله سبحانه وتعالى، والإيمان بالله عز وجل كان ولا يزال توأم العلم، والكفر بالله سبحانه وتعالى كان ولا يزال توأم الجهل، فكلما كان الإنسان معتزاً بالعلم وحقائقه قاده العلم إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى إيماناً حقيقياً غير تقليدي، وكلما ركن الإنسان إلى الجهالة أو إلى المواقف التقليدية قادته هذه المواقف إلى الكفر بالله سبحانه وتعالى.

هؤلاء الذين ينسبون ما نفاجئ به من تقلبات الكون إلى ظواهر كونية مثلها لم يحلوا المشكلة حلاً علمياً قط، كما أن موجة الحرارة هذه تحتاج إلى سبب نطّلع عليه ونكتشفه، فإن تلك الموجة الآتية من الهند أيضاً بحاجة مثلها إلى سبب نكتشفه ونستبينه، ما الفرق بين الظاهرة التي نراها أمامنا وتلك الكتلة الحرارية التي نربط هذه بها نجعل من تلك سبباً ونجعل من هذه مسبباً؟ وكلاهما سواء، كل منهما يحتاج إلى معرفة السبب.

عندما نقول: إن خرقاً قد وقع في طبقة الأوزون فكان من نتيجة ذلك هذا الذي يجري، كما أن هذا الذي قد وقع نحتاج إلى معرفة سببه، فكذلكم الخرق المزعوم في طبقة الأوزون يحتاج أيضاً إلى معرفة سببه. لماذا تبحث عن سبب ٍلحادثة وقعت على الأرض من حولك ولا تبحث لسبب لهذا الذي تسميه الخرق في السماء، لماذا؟ وما الفرق بينهما؟

لماذا تبحث عن سببٍ لهذه الموجة الباردة التي مدت طبقة من الصقيع على الأرض - مثلاً - تبحث عن سبب لها، ولا تبحث عن سبب لتلك الموجة أو لتلك الكتلة الهوائية الباردة الآتية من أقصى الشرق أو الجنوب أو من أي جهة أخرى؟

لماذا تحتاج الظاهرة التي أمامك إلى سبب ولا تحتاج تلك الظاهرة البعيد عنك إلى سبب؟

أرأيتم إلى هذه الجهالة البالغة أيها الإخوة التي يقع فيها من يحجبون أنفسهم عن رؤية الله سبحانه وتعالى! ولذلك أقول إن كل من أسلم نفسه إلى الجهل أو إلى مظهر من مظاهر العلوم التقليدية التي لا ترتبط بجذور من الحقائق العلمية لا بد أن يزجه هذا الوضع في تيه من العقائب وأن يبعده عن حقيقة الإيمان بالله سبحانه وتعالى.

الأسباب التي نراها في هذا الكون موجودة لا شك في هذا. وقد قالوا وحقاً ما قالوا: إذا أراد الله شيئاً هيء أسبابه، ولكن ينبغي أن نعلم أن هذه الأسباب التي تفور بها الدنيا من حولنا جنودٌ لحكم الله عز وجل وقضائه، فالله سبحانه وتعالى يقضي في ملكه ما يشاء ويتصرف في ملكوته بما يريد، ثم إن الله عز وجل قضى أن يجعل لكل شيء سبباً، هو الذي يشبعك، وجعل للشبع سبباً شكلياً هو الطعام. هو الذي يرويك، وجعل للري سبباً شكلياً هو الماء، الله سبحانه وتعالى هو الذي يرزقك من خيرات السماء ومن نبات الأرض وقضى أن يجعل لذلك سبباً، فالله عز وجل هو خالق الأسباب وهو مبدع المسببات، ينبغي أن نعلم هذه الحقيقة وإنها لحقيقةٌ يقودنا إليها العلم، العلم بحقائق الأشياء كلها.

كم سمعت تعليقاً على هذه الموجة الحرارية الداهمة إلينا، كم سمعت تعليقاً يدل على أن هؤلاء الناس الذين ينطقون بهذا الكلام تائهون عن وجود الله.

ربنا عز وجل يقول: "قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماءٍ معين" ولا شك أننا نعلم أن الله عز وجل عندما يتجه أمره إلى المياه الجوفية المنبثة في باطن الرض أن تغور، تستجيب هذه المياه لأمر الله، ولكن من عادة الله عز وجل أن يجعل لذلك سبباً، فما ينبغي أن نسجن أنفسنا بالأسباب ونحجب أنفسنا بها عن رؤية المسبب الذي هو الله سبحانه وتعالى. ولقد صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه روى عن ربه حديثاً قدسياً يقول فيه: "أصبح من الناسِ مؤمنٌ بي وكافرٌ بي، أما المؤمن فهو ذاك الذي يقول مطرنا بفضل الله وكرمه، وأما الكافر فهو ذاك الذي يقول مطرنا بنوء كذا" كما يقول اليوم كثيرٌ من الناس عندما يربطون الأشياء بأشياء مثلها.

ويا عجباً لهؤلاء كيف يغرقون في شبرٍ من الجهالة؟! يربطون أشياء بحاجةٍ إلى سبب بأشياء أخرى هي الثانية بحاجة إلى سبب، ثم يقفون عند هذه النقطة ولا يتجاوزونها. ينبغي أن نحيل هذه الظواهر كلها إلى الله عز وجل وهذه نقطة هامة من نقاط العقيدة التي ينبغي أن يكون كلاً منا على تنبهٍ لها وذكر بها، أجل، فإذا أكرمنا الله عز وجل واخترقنا ظواهر الأسباب التي يقف عندها السخفاء من الجهال رأينا أنفسنا دائماً أمام الله. وإذا رأينا أنفسنا ببصائرنا طبعاً لا بأبصارنا اليوم أمام الله عز وجل فلسوف تكون أفئدتنا دائماً مليئة دائماً إما بالخوف من الله وتعظيمه وإما بمحبة الله سبحانه وتعالى والتعلق به، ذلك لأنك عندما تربط تقلبات الكون كلها بالله عز وجل وتخترق الأسباب التي تراها أمامك، فأنت إما أمام ظاهرة من نعم الله تقودك هذه الظاهرة إلى محبة الله كما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه"، وإما أن تجد نفسك أمام مظهر من جبروت الله عز وجل ونذره وتهديداته، ولا بد أن يقود هذا إلى المخافة من الله سبحانه وتعالى.

وهكذا فالمؤمن دائماً بفضل عقيدته السليمة وبفضل اختراقه لعالم الأسباب الشكلية كلها ووقوفه ببصيرته أمام الله عز وجل دائماً يقف بين دافعين اثنين: دافع الرجاء ودافع الخوف، لأنك إما أن تجد نفسك أمام مظاهر لألطاف الله وكرمه ونعمه، وهذا يقودك إلى الرجاء والحب، وإما أن تجد نفسك أمام نقيض ذلك مما ترون اليوم، وهذا يقود الإنسان إلى الخوف وتعظيم الله سبحانه وتعالى وللالتجاء إلى فضله ومغفرته وجوده.

فاخترقوا عالم الأسباب أيها الإخوة ولا تغرنكم شعبذة هؤلاء الناس الذين أعموا أبصارهم وبصائرهم بكلمات جوفاء تقليدية ولم يحاولوا أن يطلعوا على ما وراء ذلك.

نسأل الله عز وجل أن يلطف بنا ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وأن يعاملنا بلطفه ولا يعاملنا بما نستحق.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي