مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 24/07/1998

أول ضحايا خرافات الجن والسحر

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

إن الملحدين والذين يتعمدون الشرود عن صراط الله سبحانه وتعالى، كانت معذرتهم ولا تزال أنهم رجال علم، وأنهم لا يبتغون بالعلم بديلاً. فإن رأيت من يتباهى بإلحاده فعذره أنه لا يستطيع أن ينفك عن العلم ولا يستطيع أن يبتعد مقاييسه وموازينه. وإن رأيت من يتعمد الشرود عن صراط الله سبحانه وتعالى، فعذره عندما تدعوه إلى الله سبحانه وتعالى أنه رجل علم وأنه لا يحب أن يتعامل في هذه الدنيا إلا مع العلم وقواعده.

والغريب أيها الإخوة أن هؤلاء الناس الذين يلحدون في ذات الله باسم العلم، وبدعوى أنهم يتعشقون العلم ولا يريدون أن يبارحوه، وأن هؤلاء الشاردين عمداً عن صراط الله عز وجل الذين يعتذرون عن شرودهم بالعلم وحبهم له، الغريب أن هؤلاء هم أول من يقعون ضحية الخرافة، وهم أول من يفترسهم الدجل بكل أنواعه، وفي هذا دليلٌ ما بعده دليل على أن في الناس اليوم من يسجنون أنفسهم في سجون الجهالة، ولكن نُقش على هذه السجون اسم العلم، وأن في الناس من يختنقون في بحار الجهالة، ولكنهم يسمون اختناقهم سباحة في ميادين العلم. هؤلاء الناس هم أول من تفترسهم أنواع الدجل، وأول من تفترسهم الخرافات.

وآية ذلك أننا جميعاً نلاحظ أن أحاديث السحر والسحرة وأحاديث الجن وأعمال الجن وتَلبُسات الجن قد شاعت وذاعت في الآونة الأخيرة جداً، وما من مجلسٍ يجلسه أحدنا في مجتمعٍ صغيرٍ أو كبير إلا ويطرح فيه هذا الموضوع باهتمامٍ بالغ، وأنظر فأتأمل فأجد أن أول من يهتمون بهذا الموضوع هم الشاردون عن صراط الله، وأول من يُشعرك بالقلق والاضطراب والجذع من احتمال أن يكون قد مسه طائفٌ من الجن أو أن سحراً قد رُصد له، أول هؤلاء الذين ينالهم الاضطراب والقلق ويسألون هذا ويسألون ذاك هم أولئك الذين ابتعدوا عن صراط الله، ملحدين أو ضالين وتائهين.

فانظروا إلى الذين يلحدون في ذات الله عز وجل باسم العلم، وبدعوى تعشقهم للعلم، وبدعوى أنهم لا يريدون أن يستبدلوا بالعلم بديلاً، ومن ثم فهم يشعرون إن آمنوا بالله فلا بد أن يكلفهم الإيمان بالله أن يتركوا العلم، ولذلك فهم مضطرون أن يؤثروا العلم على الله عز وجل، ولكن ها أنتم ترونهم كيف أنهم يُضحون بالعلم وقواعده وموازينه في سبيل الخرافة، في سبيل الدجل، وفي سبيل الأوهام التي لا حقيقة لها.

ولكن مع هذا ينبغي أن نتسائل أيها الإخوة: لماذا تجد أن الفئات التي تهتم بموضوع السحر في هذا العصر والجن وما يتعلق بالجان، لماذا نلاحظ أن الذين يقومون ويقعدون بهذا الموضوع في خوف ووجل، هم الشاردون عن صراط الله سبحانه وتعالى؟

الجواب: هو أن السحر له وجود، وإن كان وجوده ضئيلاً ضئيلاً جداً وسط يمٍ من الدجل والدعاوي الكاذبة والجان موجودون وإن كان الحديث عن مس الجن واحداً من عشرات الأقوال الكاذبة والأوهام التدجيلية التي لا أصل لها، ولكن الله عز وجل بين لنا أن السحرة إن أرادوا أن ينالوا من أحدٍ من الناس منالاً فلا يستطيعون أن ينالوا من إنسانٍ قد لازم صراط الله سبحانه وتعالى وتحصن بحصنٍ من اتباع أوامره والابتعاد عن نواهيه، لا يمكن، وأن الجان وإن وقع منهم فعلاً مسٌ كما ورد في آيات قرآنية وأحاديث نبوية صحيحة فإنهم لا يستطيعون أن ينالوا بمسهم هذا إلا الشارد عن صراط الله، إلا الشارد عن حصن العبودية لله سبحانه وتعالى، تماماً كالذئب، إنما تأكل الذئب من الغنم القاصية.

فالسحرة إن وجدوا ولم يكن الأمر دجلاً وكذباً، فإنما ينالون من غنم الناس القاصين والبعيدين والتائهين عن صراط الله سبحانه وتعالى. تأملوا في قول الله عز وجل: "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99 ) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ" هذا كلام الله سبحانه وتعالى: "إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ" أي ليس للشيطان وزمرته "لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ".

ما سمعنا لا قديماً ولا حديثاً أن إنساناً سار على صراط الله، وآمن بالله إيماناً حقيقياً، ولازم ورداً من قراءة كتاب الله سبحانه وتعالى، ولازم ورداً من الأذكار التي يأمر الله سبحانه وتعالى بها، ثم إنه كان ثابتاً مستمراً على أداء فرائضه، أوامره التي أمره الله عز وجل بها، وكان رقيباً على نفسه، فإن شردت به نفسه مرةً أو مرات عاد وتاب وآب إلى صراط الله عز وجل، ما سمعنا أن واحداً من هؤلاء مسه طائف من الجن. أو أن أين من السحرة قد نالوه بأي أذىً بشكلٍ من الأشكال، ذلك لأن هذا شيءٌ ألزم الله عز وجل به ذاته العلية "إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ".

ولكن لاحظوا وتأملوا من هم الذين يطرقون أبواب العلماء، علماء الدين؟ من هم الذيم يطرقون أبواب من يثقون بهم من الذين يعرفون حقائق هذه الأمور، يطرقون أبوابهم في اضطراب في وجل في خوف، هذا قد انتابه قلق نفسي، يخيل إليه أن سحراً قد هيمن عليه، وذاك ناله اضطراب بليله ونهاره يُخيل إليه أن مساً من الجن قد هيمن عليه، وتلك يُخيل إليها أن سحراً قد كُتب لها، وأنها بسبب ذلك قد حيل بينها وبين أن تسعد بأسرةٍ مسعدةٍ تسعد بها وهكذا ... انظر إلى هؤلاء الذين ينتابهم القلق، ويأخذ منهم الاضطراب مأخذه، والذين تشيع في أنفسهم الوساوس ويسألون عن هذه الأمور، تجدهم جميعاً شاردين عن الله عز وجل، بعيدين عن صراط الله سبحانه وتعالى وأوامره..

ولكن الأدهى من ذلك والذي يُضحك، هو أنك تتأمل في واحدٍ من هؤلاء فتجده أنه هو الذي كان بالأمس يتباهى بابتعاده عن أوامر الله لأنه رجل علم، يتباهى بشروده عن صراط الله عز وجل لأنه رجل علم ولأنه لا يحب أن يؤمن بالخرافة، أن يخضع لله عز وجل بالعبودية خرافة، ولذلك فهو يتأبى على هذا الإيمان باسم علمه أما أن يستسلم لأوهامٍ باطلةٍ لا وجود لها، أما أن يستسلم لقلقٍ نفسي يفسره بأن مساً من الجن انتابه، أو أن أناساً من الدجاجلة قد كتبوا له في أوراقٍ ونحو ذلك سحراً فهذا لا يتنافى مع العلم.

وهكذا تظهر آيات الله باهرة لننظر إلى هؤلاء الذين يتباهو بالعلم، وقد تمزقت الحجب التي ستروا بها أنفسهم زوراً وبهتاناً، ونظرنا إلى ما دون هذه الحجب وإذا هي الجهالة العفنة التي فاحت رائحتها. وننظر إلى هؤلاء الذين يتشدقون باسم العلم وإذا بهم أناسٌ يوجلون ويرتعبون وترتعد فرائصهم من الأوهام الكاذبة من الخرافات التي لا أصل لها، ولعل هذا الذي يشيع بين الناس اليوم، ولعل هذا الذي يدخل الفزع والاضطراب والقلق في نفوس كثيرٍ من الشاردين له ثمارٌ مفيدة غداً، بل ثماره المفيدة واضحة جلية اليوم اليوم، نحن الذين آمنا بالله عز وجل، نحن نتحرك في مناخ العلم، ومن ثم لا يستطيع الدجل أن يفترسنا، لا تستطيع الأوهام والخرافات سواءٌ تجلت باسم السحر أو باسم الكهانة أو باسم الجان لا يستطيع شيءٌ من ذلك أن يفترس عقولنا وأن يزجنا في متاهات وخوفٍ واضطرابٍ ووجل ونحو ذلك. ما الحصن الذي يقينا؟ إيماننا بالله عز وجل، لأن منبع العلم هو الإيمان بالله وكل من شرد عن الإيمان بالله عز وجل شرد أيضاً عن العلم.

ولكن رب قائلٍ يقول: إنهم أيضاً مؤمنون أو فيهم كثير من المؤمنين، أنا لا أتحدث عن الإيمان التقليدي الأجوف الرخيص الذي لا قيمة له عند الله عز وجل، أتحدث عن الإيمان الفعّال، أتحدث عن الإيمان الذي يقود صاحبه سيراً على صراط الله، أتحدث عن المؤمن الذي يدفعه إيمانه إلى أن يحافظ على صلواته الخمس، يدفعه إيمانه إلى أن يكون رقيباً على نفسه فلا يرتكب شيئاً من المحرمات إن ارتكب عاد وتاب وآب إلى الله سبحانه وتعالى. أعني بالمؤمن ذاك الذي يتخذ لنفسه ورداً كل يوم من قراءة كتاب الله سبحانه وتعالى، هذا هو حصن المؤمن. أروني أي إنسان كان مؤمناً وساقه إيمانه إلى هذا السلوك، هل تجدون أن في يومٍ من الأيام ذهب أو كاد أن يذهب ضحية شيءٍ من هذه الخرافات؟ إطلاقاً ما سمعنا بهذا.

ربما كاد له كائد وحاول أحد الدجاجلة أن يؤذيه، ولكن الأذى يمر به مر الكرام ولا يقف عنده بشيء من الأشياء. تماما ًكما حاول اللبيد بن الأعصم ذلك اليهودي أن يسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر السحر به مرّ الكرام، وأنبأه الله بكل ما فعله لبيدٌ بن الأعصم وهذا شأن كل مسلم.

وانظروا أيها الإخوة إلى قصة الأمس كيف تتكرر اليوم، دائماً الشاردون عن صراط الله إنما يشردون عن صراط الله لأنهم يتباهون بالعلم الذي سكروا به، وهو أي علم؟ علمٌ لا قيمة له أمام علم الله بل أمام جذور الإيمان العلمية التي ينبثق عنها الإيمان بالله عز وجل. انظروا إلى قول الله عز وجل: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ" كأنه يتحدث عن الذين يتباهون بالعلم اليوم: "فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون" حاق بهم هذا الدين الذي كانوا يستهزئون به.

ها هو ذا يحيق بأولئك الذين يتحدثون باسم العلم عندما يذكرهم بالله، ثم إنهم يرفعون أيديهم وأقدامهم وقد نالهم الاضطراب، قد نالهم القلق كل منال وهم يتحدثون عن خرافات تتعلق بمس الجن وتتعلق بالسحرة وما إلى ذلك، أجل.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يتعاملون مع حقيقة العلم، لا ممن شموا رائحة العلم فسكروا به، هؤلاء الناس هم أبعد ما يكونون عن العلم وإذا تنطع أحدهم بكلمات من العلم فاذكر قول الله عز وجل عنهم "يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ". أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي