مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 12/06/1998

أساس رقي الأمم يتمثل في دعامتين

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

إن أساس رقي الأمم كلها يتمثل في دعامتين اثنتين لا ثالث لهما.

أما الدعامة الأولى: فهي العلم، العلم بمعناه المطلق، والعلم بمعناه الحقيقي.

وأما الدعامة الثانية: فهي الخُلق، الخُلق الإنساني الرشيد.

هاتان الدعامتان هما أساس رقي الأمم كلها في سائر العصور وفي مختلف الأزمنة والأمكنة. وعندما أكرم الله سبحانه وتعالى عباده بهذا الدين الحق الذي ابتعث فيه الرسل والأنبياء، إنما جعل الرسالة التي أوحى بها إلى هؤلاء الرسل والأنبياء دائرةً على محور هاتين الدعامتين. بهذا السر تقدمت الأمم التي انقادت لوحي الله سبحانه وتعالى وأوامره، وبهذا السر ترقت الأمة العربية التي ابتعث الله سبحانه وتعالى فيها آخر رسله محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

كلكم يعلم أن الجزيرة العربية كانت مضرب المثل في التخلف، وفي التراجع، وفي كل ما يمكن أن تُنعت به الأمة التي تتراجع سلبياً إلى كل معاني التخلف الإنساني والاجتماعي. فما هو إلا أن انقاد أهل الجزيرة العربية لما ابتعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تحول تخلفهم الذي كان مضرب المثل إلى رقي، ولكن فما هو السر الذي ابتعث تلك الأمة من رقادها وأيقظها ووضعها في أولى مدارج التقدم والرقي؟

إن السر هو هذا الذي ذكرته لكم، الوحي الإلهي الذي ابتعث الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم والذي خاطب به العرب أولاً ثم الناس جميعاً ثانياً، هذا السر يدور على محورٍ من هاتين الدعامتين، الأولى العلم، وإنكم لتقرأون في كتاب الله سبحانه وتعالى الآيات الكثيرة التي يحبب الله سبحانه وتعالى فيها عباده إلى العلم، ويغرس في قلوب الناس تعشق العلم وشدة التعلق به، ولا داعي إلى أن نستقصي هذه الآيات. ربّى القرآن الناس الذين خاطبهم كتاب الله سبحانه وتعالى على أن يتجهوا إلى العلم بالتعلق والحب والتعشق. انظروا إلى قول الله سبحانه وتعالى: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ"، "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ"، بل انظروا إلى أول آية تنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ".

بل إن القرآن ذهب إلى أبعد من هذا، فتح أمام الملحدين والجاحدين سبيل المحاجة والنقاش في الله عز وجل على أن يدور هذا الحجاج على محور العلم: "قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ"، "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ"، "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ".

وهكذا فقد رُبي العرب وهم الفئة الأولى التي خاطبها رسول الله بوحي الله عز وجل رُبوا على الالتفات إلى العلم والتعلق به وتعشقه هذه هي الدعامة الأولى.

أما الدعامة الثانية فهي الخلق الرفيع الخلق الإنساني الذي يتمثل في تزكية النفس من الشحناء والبغضاء والأحقاد المتنوعة، والذي يتمثل في التعاون الإنساني الصاعد الذي يرتقي فوق مستوى الأثرة ويسمو إلى درجة الإيثار.

الخُلق الإنساني الذي يتمثل في تضحية الإنسان بمصالحه من أجل مصالح الأمة أي يُضحي بمصلحته الفردية الجزئية في سبيل حماية المصلحة الكلية الاجتماعية العامة، وكتاب الله سبحانه وتعالى مليء بالآيات التي تدعو إلى التخلق بالأخلاق الإنسانية المثلى، وما الأخلاق الإسلامية إلا الأخلاق الإنسانية المثلى التي فطر الله سبحانه وتعالى الإنسان عليها. ومن أجل هذا ابتعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم عيناً من عيون الأخلاق الإنسانية السامية، حتى يتعشق الناس فيه هذا الخلق، فيجعلوا من ذلك مثلهم الأعلى لأنفسهم. ألم تقرأوا قول الله عز وجل: "وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ"؟

وانظروا أيها الإخوة كيف يلفت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنظارنا إلى هاتين الدعامتين اللتين ابتُعث بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أجل ينتشل الناس بهما من قاع التخلف ويرقى بها بهذه الأمة إلى أعلى درجات التقدم. يقول مرةً: "إنما بُعثت معلماً" ويقول في الوقت ذاته: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق" انظروا إلى هاتين الدعامتين، أي: هما الأساسان اللذان لا بد منهما لنهضة أي أمة من كبوتها، ولكي تعلو في مدارج الرقي الحضاري السليم.

وعندما انقادت هذه الأمة في فجر بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذين الأساسين، فتشبعت بالعلم بعد أن تعلقت به، وتشبعت بالأخلاق الإسلامية الحميدة بعد أن تعشقت هذه الأخلاق، لا سيما في شخص سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحولت من مثلٍ كان يُضرب بالتخلف والجهالة إلى المثل الذي أصبح يُضرب بالرقي في العالم كله.

أقول هذا أيها الإخوة لألفت نظركم إلى شيء كثيراً ما يُدلس به المدلسون:

الشريعة الإسلامية حسب التعبير الإسلامي الذي نردده، أو الأنظمة والقوانين حسب التعابير الوضعية المألوفة، هل لها دورٌ في تصعيد الأمة إلى مستوى التقدم الباسق؟ ليس لها أي دور.

الشريعة والنظام ثمرةٌ لرقي الأمة وليستا - الشريعة والنظام - سلماً يرقى به الناس إلى درجة التقدم والرقي، وفرق كبير بين الأمرين، الشريعة ثمرةٌ للتقدم تتقدم الأمة عن طريق العلم وعن طريق الخُلق، ثم تتقدم، ثم تتقدم، ثم تتقدم إلى أن تجد نفسها قد وصلت إلى أوجٍ من الرقي عندئذٍ تشعر بحاجتها الماسة إلى صياغةٍ للقوانين والأنظمة التي ينبغي أن تربطها وأن تجمع شملها، وهكذا فالشريعة إنما هي من مفرزات ونتائج تقدم الأمة، ولذلك كانت الأحكام الشرعية التي تنزلت من عند الله عز وجل في خاتمة المطاف. تعلم الناس وتمسكوا بالعلم، ثم ساروا على صراط الخلق، فلما انعتقوا من التخلف بهذين السببين جاء التشريع ليكون ترجماناً للرقي الذي أكرم الله سبحانه وتعالى تلك الأمة به.

أقول هذا كي لا يلبس عليكم ملبس، ويدجل عليكم مدجل قائلاً: إن هذه الأمة ينبغي أن تجدد رقيها عن طريق تطوير شريعتها، ينبغي لهذه الأمة أن تجدد رقيها، لأنها تخلفت وتراجعت، وإنما سبيل ذلك أن تعود إلى متن هذه الشريعة الإسلامية المثلى، فتتلاعب بها، وتغير منها. ألا تسمعون إلى هذه الدعوة؟

هذه الدعوة أيها الإخوة إن أحسنا الظن بقائليها فإنهم إذاً لجهّال ينبغي أن نتوقى جهالتهم، إنها جهالة عمياء. وإذا لم نحسن الظن وتخوفنا من الدوافع قلنا: إنهم يعلمون ما نعلم، ولكنهم يريدون أن يتلاعبوا بثمرة تقدم هذه الأمة، فقد حاق بنا التخلف فعلاً لأننا أعرضنا عن العلم الحقيقي الذي هو أساسٌ من أسس التقدم، ولأننا أعرضنا عن الأخلاق الإنسانية الإسلامية الراشدة كما تعلمون؛ تحطمت الأخلاق وتمزقت مما بيننا وواقعنا ناطقٌ بليغ بهذا الواقع.

إذاً نحن فعلاً متخلفون لأننا أرضنا عن العلم الحقيقي وأعرضنا عن الخلق. وهؤلاء يريدون أن يدفوننا في قبرٍ من التخلف لا انبعاث من وراءه، يريدون أن نتمم تخلفنا فلا نبقي حتى على البقية الباقية التي هي ثمرة التقدم في الأمة التي ابتعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا وهو التشريع، تعالوا نبدل التشريع .. تعالوا نجدد التشريع .. إن كنت صادقاً يا هذا في غيرتك على الأمة قل: تعال نجدد حبنا للعلم، تعال نجدد بيعتنا للعلم، للعلم الحقيقي لا للفرضيات والنظريات والأوهام الكاذبة التي تُلبس لباس العلم.

إن كنت حرصاً فعلاً على تقدم هذه الأمة قل: تعال نصطلح مع الخُلق الإنساني الرشيد. انظر إلى ما آل إليه حال هذا المجتمع، انظر إلى الأثرة التي حلت محل الإيثار، انظر إلى التضحية بالأمة وبمصالح الأمة في سبيل مصلحة الفرد بل في سبيل مصلحة رعناء، قل: تعال نعالج الخُلق الذي يتمثل في انتشار الفساد ألوانا وأشكالاً، والرشوة لونٌ من هذه الألوان. لماذا تُعرض عن السبب الأسود الذي هو سر تخلف الأمة، وتمد غواشي الستر على هذين السببين اللذين نعاني منهما، ثم تتلاعب بشيءٍ آخر لا شأن لنا به؟

الشريعة الإسلامية نتيجة التقدم، وليست سلماً للتقدم حتى نعود فنتلاعب به.

وأقول لكم أيها الإخوة: أما التخلف فقد ران بكلكله على صدورنا، وأما سببه فهذان السببان، لقد أعرضنا عن العلم واستعضنا عنه بأشباه العلم، بما يمكن أن يكون مظهراً لعلمٍ كاذب. انظروا إلى كلمات العلم كم هي كثيرة وكبيرة في مجتمعاتنا، ولكن اخترق هذه الكلمات، وانظر إلى ما وراءها تجد نفسك أمام فقاقيع عندما تتفجر لا تجد شيئاً من ورائها، هذا هو السبب الأول.

السبب الثاني: الخلق الذميم الذي حل محل الخُلق الإنساني الذي ابتعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رأيتم من يتنطع ويتمشدق مرةً إثر مرة بالحديث عن ضرورة تطوير الشريعة وإخضاع القرآن للقراءات المتطورة والمتجددة والمعاصرة وما إلى ذلك .. فاعلموا أن هذا الإنسان إما جاهلٌ يحتاج إلى حقنة من العلم تبصره بالحقيقة، وإما أنه عميل، ولا أدري أيهما الحقيقة.

تحميل



تشغيل

صوتي