مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 17/04/1998

متى يطيب الاحتفال بذكرى جلاء المستعمر؟!

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

ليس خطأً أن يحتفل الناسُ بهذه الذكرى المباركة، بل ليس خطأً أن يتخذوا لأنفسهم من هذا اليوم عيداً. ولكن ينبغي عندما نتذكر أهمية هذه النعمة أن نعود فنتذكر حجم تلك المصيبة التي حاقت في يومٍ من الأيام في بلدتنا هذه، ثم إن الله عز وجل جلى هذه المصيبة ورفعها عنا.

ما هو حجم هذه المصيبة؟ هل تتمثل في احتلال أناسٍ غرباء عن بلدنا لبقعة من هذه الأرض؟

إن كانت هذه المصيبة، فأهون بها وذلك لأن العدو مهما طال أمده في احتلال بقعةٍ من البقاع لابد أن يرحل عنها. يجب أن نعلم أن المصيبة التي حاقت آن ذاك لم تكن تهدف إلى أرضٍ تُأخذ ولا إلى حقوقٍ مادية تُستلب، وإنما كان الهدف إفساد نفوس أهل هذه الأمة، كان الهدف إفراغ عقولها وأفئدتها من القيم والمبادئ التي شرفها الله سبحانه وتعالى بها وملءُ الأفئدة والقلوب بأمورٍ أخرى وبعادات وبطبائع وبقيمٍ هابطةٍ أخرى. كان أثر هذه المصيبة الخطير هو هذا الحجم الذي ينبغي أن لا يغيب عن بالنا قط، وإذا أدركنا أن مصيبة أمةٍ وقعت في نير الاستعمار إنما تتمثل في عمل ذلك المستعمر على تغيير نفوس أصحاب تلك الأرض وتغيير أفكارهم وسلب القيم التي يعتزون بها منهم.

إذا أدركنا ذلك فلنعلم أن كمال النعمة لا يتمثل في أن تعود الأرض إلى أصحابها، ولا تتمثل في أن تعود الحقوق المادية إلى أربابها، وإنما النعمة تتم وتتكامل عندما تعود هذه الأمة إلى نفسها فتجد أن قيمها لا تزال ثابتةً، وأن ما قد شرفها الله عز وجل به من مبادئ الإيمان والانضباط بالرشد الذي شرفنا الله عز وجل به والسير على الصراط الذي أكرمنا به ودعانا إليه.

عندما نجد أن تلك السحابة قد مرت بعد أن جثمت فيما بيننا ردحاً من الزمن مرت ونحن لا نزال بحمد الله على العهد، لم نرجع إلى الوراء، لم ننحرف يمنة ولا يسرة، لم نخن العهد الذي عاهدنا الله عز وجل عليه، ما فسدت أخلاقنا ولا ذممنا، ولم يتسرب إلى عقولنا ريبٌ بعد إيمان ولا شكٌ بعد إسلام. عندما نجد أن تلك السحابة قد مرت وذهبت ونحن ولله الحمد سالمون من هذه الجوانب كلها، قد سلم لنا ديننا وسلم لنا إسلامنا وسلمت لنا أخلاقنا وقيمنا، عندئذ يحلو الابتهاج ويحلو الاحتفال والابتهال إلى الله سبحانه وتعالى بالشكر.

إنني أتمنى لو أن الناس الذين يحتفلون بهذه الذكرى وحق لهم أن يحتفلوا كما قلت لكم أتمنى أن يتحسسوا مكان القيم في حياة هذه الأمة وأن يتساءلوا هل ما زلنا أمناء على هذه القيم؟ هل مازلنا أمناء على هذا العهد؟ هل ما زلنا متمسكين بكتاب الله سبحانه وتعالى نظاماً دستوراً شرعةً ومنهاجاً عندئذٍ نعلم أننا قد تحررنا فعلا ًمن الاستعمار الذي هبط ذات يوم بكلكله على هذه الأرض؟

أما إذا تساءلنا وانتهينا بعد التساؤل إلى أن جيوباً من الفساد الأخلاقي قد استشرت فيما بيننا، وأننا لم نعد مثابرين على ذلك العهد كما كنا من قبل، وأن الفساد قد توغل واستشرى فيما بيننا، الفساد أشكالاً وألواناً. عندما نتساءل ونقف على هذا الجواب، فلنعلم أن المستعمر لم يرحل في حقيقته عنا، رحل شخصه ولكن ظله لم يرحل بعد.

ولعلكم سمعتم عن ما يسمى اليوم بالاستعمار الجديد الاستعمار القديم انتهى أمده، ذلك لأن الظروف لم تعد صالحة لذلك اللون من الاستعمار القديم، وإنما حل محله ما يسمى بالاستعمار الجديد، والاستعمار الجديد يعني أن يكون المستعمر بعيداً بعيداً في شخصه لا تراه ولا تشعر به، ولكنه يفرض عليك سلطانه من بعيد، يفرض عليك سياسته من بعيد، يشل فاعليتك الاقتصادية دون أن تراه، يشل وحدتك التي أكرمك الله سبحانه وتعالى بها وجعل منها مبعث قوتك ومبعث عزتك وفخارك على الآخرين، يمزق هذه الوحدة التي أكرمك الله بها وهو بعيد عنك، يبعث عبر الأقنية الخفية بالشكوك وبالريب بإيمانك الذي كان حصن عزتك وسر وحدتك، وإذا بهذا الإيمان قد بدأ يدخل إليه الفساد، وبدأت حقائقه الجاثمة في الذهن تتبخر، وإذا الناس مختلفون حول الدين والإيمان بالله عز وجل، وإذا الناس بعد أن كانوا يجتمعون من الإسلام على حبلٍ واحد إذا بهم يتفرقون منه إلى حبالٍ متنوعةٍ ومختلفة شتى. ننظر وإذا الإسلام الواحد قد تحول إلى إسلامات متناقضة متصارعة...

إذا نظرنا فوجدنا أننا قد ابتلينا بهذا كله فلنعلم أن الاستعمار لا يزال جاثماً على أرضنا، ولكنه استعمارٌ حديث بشكلٍ أخبث وأسوء وليس هو الاستعمار القديم الذي مضى أوانه وزال سلطانه، عندما نحتفل بهذه الذكرى المباركة ينبغي أن نطرح فيما بيننا هذا التساؤل.

هنالك مقولةٌ قالها كثيرٌ من العلماء والمفكرين وهي مقولة صائبة: ليست المصيبة في استعمارٍ يلتصق بأرض ولكن المصيبة أن تكون العقول قابلةً للاستعمار أي تلتصق بهذه العقول قابلية الاستعمار، المصيبة أن تكون هذه الأمة المسلمة المؤمنة التي ذاقت عبر القرون نشوة العز من وراء إيمانها، نشوة الفخار من وراء إسلامها، هذه الأمة التي ما تزال يطوف برأسها الطرب من تلك الوحدة التي لم تأتي من وراء فلسفة من الفلسفات ولا من وراء زعامة من الزعامات، ولكنها جاءت من وراء هذا الدين، هذا الإسلام. أجل إن المصيبة أن تكون هنالك عقول قد خرجت من هذا الحصن وابتليت بقابلية الاستعمار، ابتليت بحب تقليد أولئك المستعمرين، ما من عادةٍ تنشئ عندهم وما من فكرة تجوب فيما بينهم وما من فلسفة تظهر في بلادهم وما من مذهب من المذاهب الفكرية يتألق عندهم إلا وتجد هنا من يدلل على البضاعة ومن يسيل لعابه عليها، تلك هي المصيبة قابلية الاستعمار، أي قابلية الإنسان الحر لأن يكون عبداً ذليلاً.

عندما يتحرر الفرد المسلم في هذه البلدة أو في غير هذه البلدة من هذه العبودية، فلنعلم أن الاستعمار بظله وبكل آثاره قد رحل، ولكن عندما نجد - وهذا ما نجده اليوم - أن الأمة قد أخذت تسيح فيما بينها هرجاً ومرجاً خلافات مستشرية أفكار متناقضة خصومات مستمرة متسلسلة وهذا هو النهج الذي خُطط له. عندما تجد الأمة مستسلمة لهذا الواقع فما ينبغي أن نتصور أن الاستعمار في واقعه الحقيقي قد رحل.

ولعلكم سمعتم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: "ستتبعون سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخل أحدهم جحر ضبٍ لدخلتموه". قال أحد الصحابة آالروم تعني يا رسول الله؟ "قال فمن إذاً"، أي إذا لم يكن هؤلاء هم الذين أعنيهم من عسى يكونون، والروم هؤلاء، هؤلاء الذين فعلاً يسيل لعاب كثيرٍ من أفراد هذه الأمة لاتباعهم، لتقليدهم للسير ورائهم في كل ما تسمعون من أُحدوثات جديدة تظهر في حياتنا.

لا يمكن لهذه الأمة أن تعد نفسها مستقلةً حرةً أبيةً إلا إذا رجعت إلى مقياس في العقل لا مقياس على الأرض، ألا وهو مقياس العقل المتحرر عن سلطان تلك الدول، العقل المتحرر عن الفساد المستشري هناك والمخبوء تحت أوراق متألقة خداعة وبراقة، عندما تتحرر عقولنا عن التبعية عندئذٍ نعلم أن الاستعمار الذي ولى قد ولت ظلاله أيضاً معه. هذا المعنى ينبغي أن يقال في مثل هذه المناسبات وفي مثل هذه الذكرى.

أجل هي نعمة كبرى أن رحّل الله سبحانه وتعالى ذلك الذي جثم فوق هذه الأرض، ولكن الله الذي أنعم علينا بهذه النعمة ينتظر منا أن نتمم هذه النعمة بعمل نقوم به نحن، وكأنه يقول أما العدو في شخصه فقد رحّلته عنكم وبقي أن ترحلوا أفكاره من عقولكم، أنتم أحرار وهذا ما لا أتدخل في شؤونكم فيه، فأنا لم أكلفكم أن تدخلوا في ديني جبراً وكرهاً ولكني دعوتكم إلى ذلك طواعيةً (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)، أما الجزاء فلسوف يكون يوم القيامة، أكرمنا الله عز وجل بترحيل ذلك الذي كان جاثماً على هذه الأرض ثم قال لنا: والآن ادفعوا قيمة هذه النعمة بأن تُطهروا عقولكم مما تركه زرعةً فيما بينكم، مما تركه أفكاراً ووساوس تسري وتتنامى في عقولكم ونفوسكم وقلوبكم.

ما قيمة أن يرحل المستعمر مشرقاً أو مغرباً إذا كنا نجد في عقر دورنا من ينتقص دين الله سبحانه وتعالى من يتأفف من الارتباط بأوامر الله سبحانه وتعالى؟

ما قيمة أن يرحل عنا المستعمر إذا كانت هذه الأمة التي شرفها الله خلال أربعة عشر قرناً بعزة ما مثلها عزة وقوة ما مثلها قوة، تتأفف اليوم لأنها تشكي من التحديات التي تواجه الإسلام؟ تحديات لا قبل لنا بالوقوف في وجهها.

كلام مكرور مكرور كل ذلك مقدمة بين يدي إعلانٍ يوشك أن يظهر: هو أن علينا أن نترك هذا الإسلام لأن التحديات التي تواجهنا أثقل من أن نتغلب عليها.

أهذه أمة تحررت عن رقة الاستعمار؟! التحديات التي يواجهها المسلمون اليوم أشد ثقلاً أم التحديات التي واجهها أصحاب رسول الله كانت أشد ثقلاً!؟

أناسٌ كانت العادات الجاهلية جاثمة على صدورهم تطوقهم وتكاد تخنقهم من سائر الأنحاء، الحضارة الفارسية والحضارة الرومانية واليونانية كل ذلك كان يُطبق على الجزيرة العربية ،كل ذلك كان عبارةً عن تيارات من التحديات تواجه حفنةً من عرب الجزيرة العربية، تلك التحديات كانت أشد وأثقل أم التحديات التي يشعر بها المسلمون المتدللون على الله اليوم؟

كانت تلك التحديات أضعاف أضعاف أضعاف ما يشعر به المسلمون من تحديات أكثرها تخيلات وأكثرها أحلام لأمانٍ نفسية، إسلامنا اليوم ورثناه كابراً عن كابر، تيار الإسلام اليوم يسير عبر خمسة عشر قرناً إلى يومنا هذا، إسلامنا اليوم تكامل بنياناً حضارياً، إسلامنا اليوم تكامل مدنيةً إنسانية باسقة، إسلامنا اليوم تكامل شرعةً تنغض الأمم كلها لها الرؤوس ... ومع ذلك يشكو المسلمون اليوم الذين يملكون كل هذا من أن التحديات التي ترسل إلينا عبر رياح الغرب أو الشرق تحديات مؤلمة لا نكاد نستطيع صبرا ًعليها.

عندما تجد هذه الأمة أنها اخترقت هذه التحديات الوهمية وجعلتها تحت أقدامها واعتزت بإسلامها وإيمانها كما اعتز بهذا الإسلام والإيمان أسلافها من قبل، عندئذٍ يطيب الاحتفال بزوال الاستعمار لأن معنى ذلك أن الاستعمار قد ذهب وأن ظله قد لحق به أيضاً. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيد هذه الأمة إلى سابغ عزها.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي