مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 03/04/1998

أذكركم بيوم عرفة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

مرةً أخرى أذكركم بهذه الأيام الفاضلة التي تمر بنا من هذا الشهر المبارك، وهي الأيام والليالي التي أقسم الله عز وجل بها في محكم تبيانه عندما قال: (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ). وقَسَمُ الله سبحانه وتعالى بهذه الليالي ليس إلا تعبيراً عن الفضل الكبير العظيم الذي يكمن في هذه الأوقات، وليس معنى هذا الفضل إلا تنبيه الناس إلى ضرورة انتهاز هذه الفرصة في الإقبال على الله عز وجل بدءاً من التطهر من الآثام والمعاصي ثم سيراً إلى الله عز وجل بأداء الواجبات التي أمر بها والسعي إلى المبرات التي أوصى الله سبحانه وتعالى ورسوله بها.

وكنت قد ذكرت لكم أن الإنسان الذي لم يتح له الحج إلى بيت الله الحرام بوسعه أن ينال ذلك الأجر كاملاً غير منقوص، إن هو انتهز فرصة هذه الأيام، وملأ فراغ هذا الوقت بما يرضي الله سبحانه وتعالى، واصطلح مع الله فاقلع عن المعاصي والسيئات، سواءٌ التي فيها إهدارٌ لحقوق الله أو التي فيها إهدارٌ لحقوق العباد، وهذا هو الأهم. أذكركم بما قد قلت في سبيل أن يكرمنا الله عز وجل بما فاتنا مما قد حظي به إخوانٌ لنا من شعيرة الحج إلى بيته الحرام.

وأقول لكم: إن هذه الطاعات ليست محصورةً في أن يصلي الإنسان كثيراً أو أن يقرأ القرآن كثيراً أو نحو ذلك، وإنما أساس ذلك كله أن يترفع عن المحرمات. وأخطر أنواع المحرمات تلك التي فيها إساءةٌ إلى حقوق عباد الله سبحانه وتعالى. فإذا تاب الإنسان من هذه المعاصي وأصلح ما بينه وبين عباد الله عز وجل وأعاد الحقوق إلى أربابها، ثم سار في الطريق الإيجابي من الأعمال الصالحة والطاعات حسب الإمكان، فالمأمول أن يكتبه الله مع الحجيج وإن هو لم يحضر بجسمه معهم.

ثم أذكركم بيوم عرفة ذلك اليوم الأغر الذي تُتوج فيه هذه الليالي التي أقسم الله سبحانه وتعالى بها، وهو اليوم الذي يقف فيه الحجيج آيبين متضرعين باكين متبتلين إلى الله سبحانه وتعالى في زمانٍ مقدس وفي مكانٍ مقدس وفي دعاءٍ واجف يرتفع إلى الله سبحانه وتعالى، لا فرق بين أن يكون الإنسان في ذلك اليوم واقفاً في عرفة أو في أي مكان آخر، المهم أن يشغل الإنسان وقته ذلك اليوم بالتضرع والالتجاء إلى الله بعد صدق التوبة وبعد صدق الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.

أما صوم ذلك اليوم، فقد ورد في صحيح مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبي داود من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم يوم عرفة فقال: "صوم يوم عرفة كفارة لذنوب سنةٍ ماضية وسنةٍ مقبلة"، هذا إذا تاب الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى ولم يجعل من إقباله على الله غطاءً لأعماله السيئة وهو يظن أنه يمكر بالله عز وجل؛ هذا بعيدٌ عن الشيء الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أن الإنسان الذي يعزم على أن يعصي الله دائما ًفإذا جاء يوم عرفة محى تلك المعاصي بصوم ذلك اليوم، ثم عاد فملأ أيامه بالمعاصي انتظاراً ليوم عرفة الذي سيأتي بعد عامٍ مقبل وهكذا ... هذا ممن يصدق عليهم قول الله عز وجل: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) لن يغلب مكرك مكر الله أبداً، وإنما يصدق هذا الكلام على إنسان فاض قلبه خوفاً من الله سبحانه وتعالى فدفعه خوفه إلى أن يتوب وأن يصطلح مع الله عز وجل وأن يعيد الحقوق إلى أصحابها، ثم انتهز فرصة هذه الأيام فأقبل إلى الله إقبال النادم إقبال التائب، إقبال العبد الذليل الآبق الذي عرف أنه أساء وأساء، هؤلاء هم الذين يصدق عليهم هذا الذي قاله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأقبلوا إلى الله في هذه الأيام المباركة إقبال راغبٍ راهب، إقبال إنسان يرجو رحمة الله عز وجل ويعلم أنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، ولكن أقبلوا إليه أيضاً إقبال راهب إقبال خائف يعلم أنه مقصر في جنب الله وأنه قد أثقل كاهله بالأوزار التي حرمها الله سبحانه وتعالى، وأن الله كما وعد توعد وأنه عز وجل إذا أخذ، أخذ عزيز مقتدر، بهذين الدافعين ينبغي أن يسير الإنسان إلى الله عز وجل.

والعجب كل العجب أيها الإخوة من أناسٍ إذا ذكروا بعذاب الله عز وجل وإذا ذُكروا بمقته ووعيده والعذاب الذي أعده للطالحين من عباده، اشمئز من هذا التذكير وتألم من هذا الكلام وفر بعقله وبأذنيه ربما من أن يصغي إلى هذا الكلام المخيف، وربما قال: لماذا تخوف الناس؟ وما الحاجة إلى أن تخوفهم وترعبهم؟ هؤلاء الذين دللوا أنفسهم إلى درجة الفظاظة على الله عز وجل أمرهم عجيب وغريب.

أليس من رحمة الله بالإنسان أن يخوفه من الأخطار التي هو مقبلٌ عليها حتى يتجنبها؟

وأليس من الحكمة أن يُصغي الإنسان إلى عظة هذا الواعظ المحب عندما يقول له: إياك أن تسير في هذا الطريق، فإنك إن خضت غمار هذا الطريق هلكت لأن فيه أعداءً وفيه سباع ضارية؟

هذا الذي يذكرك هذا الكلام هو محذر في الظاهر ولكنه محبٌ لك في الباطن والله عز وجل عندما يخوفنا لماذا يخوفنا؟ يخوفنا حتى نقلع عن الطريق المهلك ونسير في الطريق المسعد ولذلك يقول: (وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). ويقول في مكانٍ آخر: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). عجيبٌ حال من يؤمن بالله ثم إنه يٌصم أذنيه عما يخيفه من الله عز وجل والله يقول: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). ويقول: (وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

أليس خيراً لك أن يأتي من يهزك ليوقظك من غفلتك قبل أن يأتي الموت فيتخطفك إلى العذاب!؟

أليس أولى بك أن يأتي من يقول لك: ويحك إن قطار العمر وصل إلى المحطة الأخيرة، فقم قم وتدارك شأنك فلم يبقى إلا دقائق ولسوف تقع في مغبة نومك وغفلتك؟

هذا الكلام كلام إنسانٍ محب، ولكن في السكارى من الناس من لا يريديون إطلاقاً أن يأتي إنسانٌ يخوفهم من الغد القريب، وكأنه يقول: دعني والحلم الذي أتقلب فيه، فأنا لا أريد أن يأتي من يوقظني من الحلم الجميل الذي أحلم به، هذا الكلام ليس كلام عاقل.

أقول قولي هذا وأستغفر الله.

تحميل



تشغيل

صوتي