مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 27/03/1998

سر العبادة في معناها لا مظهرها

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

إن السر في العبادة لا يكون في صورها ومظاهرها، وإنما يكمن في معانيها، ومعاني العبادة سرٌ يصل ما بيننها وبين فؤاد الإنسان الذي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى.

للعبادات كلها صورٌ وأشكال يمكن أن تكون هذه الصور والأشكال تقرباً إلى الله ويمكن أن تكون تقرباً وزلفى إلى غاية من الغايات الدنيوية. أما أسرار هذه العبادات أي معاني العبودية لله سبحانه وتعالى فيها هذه المعاني التي إنما تتجلى بقصد المتعبد ودوافعه التي تسري به إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى فلا تكون إلا قربى لله عز وجل ولا تكون إلا صافية عن الشوائب. ولعل هذا من معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم" وفي رواية: "ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم".

ليس معنى هذا الحديث الصحيح أن الإنسان إذا صفى قصده وخلصت نيته لم يبال الله سبحانه وتعالى بتقصيره في أداء العبادات كما قد يظن بعض الواهمين، ولكن المعنى أن العبادة إذا كانت شكلاً ومظهراً فارغين من السر الذي هو مبعث القبول فإن الله سبحانه وتعالى لا يبالي بهذه العبادة، ويرميها بوجه صاحبها، يلقيها كالثوب الخَلق كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن عندما تكون هذه العبادة التي تحققت فيها أركانها وشروطها الشكلية مقرونة بصفاء القصد، مقرونة بسر التقرب إلى الله عز وجل فتلك هي العبادة المبرورة التي يتقبلها الله سبحانه وتعالى، وهذا ينطبق على سائر القربات والعبادات ومنها الحج إلى بيت الله الحرام.

كثيرون هم الذين يتسابقون ويتزاحمون على أسباب الحج إلى بيت الله الحرام، يؤدون هذه الشعيرة بمظهرها وشكلها، وربما يصلون من وراء ذلك إلى مغانم يبحثون عنها، هذا هو المظهر وهذا هو الشكل، وليست القيمة لا في المظهر ولا الشكل أبداً، وإنما القيمة في سر هذه العبادة وسر العبادة أن يكون الإنسان مندفعاً إليها ابتغاء غرض واحد لا ثاني له ألا وهو تحقيق مرضاة الله سبحانه وتعالى، التقرب إلى الله عز وجل، عندما يكون هذا هو الدافع يكون عندئذٍ القبول، ولكن كيف يتبين الدافع الحقيقي؟ ومتى يظهر أن سعي الإنسان حاجاً إلى بيت الله الحرام إنما هو ابتغاء تحقيق شعور العبودية لله سبحانه وتعالى؟ ومتى تكون العلامات والدلائل ناطقةً بأن سعي هذا الإنسان إلى الحج إنما هو لهدفٍ دنيويٍ ولغرض ماديٍ، ومن ثم فإن الله سبحانه وتعالى يرمي عبادته في وجهه كما يرمى الثوب الخَلق؟

عندما ننظر فنجد أن طريق هذا الحاج إلى بيت الله الحرام خالٍ من الشوائب نظيف من المحرمات، فهذا دليلٌ من الأدلة على أن سعيه إنما هو ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، أما إن نظرنا فوجدنا أن طريقه المسلوك إلى هذا الحج مليءٌ بالمحرمات، مليءٌ بالانحرافات، مليءٌ بالتجاوزات، فذلك دليلٌ ناطق على أن هذا الإنسان ليس له من عبادته إلا هذا المظهر إلا هذا الشكل، أما التقرب إلى الله عز وجل فذلك شيءٌ لا علاقة له به.

عندما يجد الإنسان نفسه مضطراً إلى أن يحج إلى بيت الله الحرام أن يقدم الرشوة تلو الرشوة ثم لا يبالي فيفعلها أو يقدمها فذلك دليلٌ على أن زغلاً قد تدخل في قصده ونيته ذلك لأنه لو ابتغى وجه الله في ذلك لعلم أن المال الذي يدفعه يحمله من الأوزار أكثر ما يعود به من الأجور عندما يعود من حجه لبيت الله الحرام إلى داره. وما أكثر الذين يجعلون من هذه الأعمال المحرمة جسوراً وطرقاً للحج إلى بيت الله الحرام. لا يمكن أن يكون هذا الإنسان منطوياً في دوافعه القلبية على نية سليمة أبداً، ما من مسلمٍ إلا ويعلم أن الرشوة من أشد المحرمات بل هي من الكبائر كما قال العلماء، وليس هنالك مسلم لا يعلم هذه الحقيقة.

ثم إن الله سبحانه وتعالى لم يلزم الإنسان بالحج إلا عندما يكون مستطيعاً، والاستطاعة هي الاستطاعة البدنية والمالية والاستطاعة الدينية أيضاً، فالمرأة التي توفي عنها زوجها وهي لا تزال تمر في مدة العدة أو الإحداد ما ينبغي أن تفكر في الحج إلى بيت الله الحرام، لأنها ليست مستطيعة، لأنها قد فقدت الاستطاعة الدينية، لا يجوز للمرأة وهي في هذه المدة خلال الأربعة أشهر والعشرة أيام بعد وفاة زوجها لا يجوز لها أن تخرج من دارها إلا لضرورة أو حاجة ماسّة، عندما تلح هذه المرأة وأمثالها إلى ضرورة أن تحج لأنها متشوقةٌ إلى أن ترى بيت الله الحرام ثم لا تبالي بمن يُحذر، فلنعلم أنها ليست مندفعةً في ذلك لمرضاة الله، وإنما هي مندفعة في ذلك إلى هوى يطوف بنفسها. كذلكم أصحاب الرغبات المتنوعة المختلفة الكثيرة ولا نريد أن نضرب الأمثلة فالأمثلة كثيرة.

لقد عاد الحج إلى بيت الله الحرام مثابة لمغنم مادي، عاد الحج إلى بيت الله مثابة الاستئناس مع الرفقة والأصحاب، عاد نزهة كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاد الحج إلى بيت الله الحرام سبيلاً من سبل الشهرة وسبيلاً من سبل تعريف الناس بالذات، عاد الحج إلى بيت الله الحرام سبيلاً من سبل الاتصال بجهات عبر جهات، وما أكثر الأهداف الدنيوية المتنوعة التي زاحمت القصد إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى.

وبالأمس قلنا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبا"، الإنسان الذي اكتسب مالاً من طريقٍ محرم ولا أتحدث عن الشبهة، المال الذي اختلط فيه الحلال والحرام ولم يتبين صاحبه الحلال من الحرام، هذا المال المشبوه لا أتحدث عنه وكلنا ابتلينا بذلك، ولكني أتحدث عن إنسانٍ جنى المال من طريقٍ محرم كله محرم، لا يجوز لهذا الإنسان أن يعتبر نفسه مالكاً لهذا المال، هو ليس مالكاً له، هو كمن وضع يده على مالٍ مغصوب، فليس له أن ينفق منه على أهله لأن الإنسان لا ينفق على أهله إلا مما يملك، ليس له أن ينفق منه على أولاده، ليس له أن يقول سأزكي منه لأنك تزكي من مالك الذي تملك، ليس له أن يقول سأحج به إلى بيت الله الحرام، لأن الإنسان عندما يحج يجب أن يعطي نفقة حجه من المال الذي يملك، أما المال الذي جناه الإنسان من طريق محرم فإنه لا يملك شيئاً من هذا المال إطلاقاً، وكم قلنا وكررنا إن عليه أن يعيد هذا المال إلى صاحبه أو إلى أصحابه، فإن تعسر أو تعذر ذلك ولم يتأتى له أن يعيد هذا المال إلى صاحبه إذاً فحكمه كحكم المال الضائع. المال الضائع إذا لم نجد سبيلاً لإعادته إلى أصحابه يوضع في مصالح المسلمين، لا على وجه التصدق ولا على وجه التمنن، ولكنه مالٌ ضائعٌ كان ينبغي أن يعاد إلى أصحابه فلم نتمكن إذاً نضعه في مصالح المسلمين.

لا يجوز لإنسان جنى مالاً من حرام أن يتصور أنه سيطهر هذا المال الحرام غداً بأن يحج به إلى بيت الله الحرام، أي رقية شيطانية هذه، دين الله عز وجل كان ولا يزال قائماً على العلم، قائماً على الفقه، (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) حتى يعلم كيف يتصرف، ثم إن الإنسان المتحرق للحج إلى بيت الله الحرام يطرق باب مرضاة الله عز وجل فإذا وجد أن السبل المشروعة قد سدت في وجهه، فليعلم أن الله سبحانه وتعالى سيكرمه بهذا الأجر كله إن بقي في دويرة أهله وهو يشهد الله عز وجل لو استطاع لحج، إنما الأعمال بالنيات، وله من الفرص السانحة ما يجعله يفوز بأجر الحج ذاته إن كان مخلصاً في قصده لله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى كريمٌ ورحيمٌ وعادل لا يفتح الفرص للتقرب إلى الله لأناسٍ دون أناس، إذا فتح الفرصة فتحها للجميع. الذين أتيح لهم أن يذهبوا حجاجاً إلى بيت الله الحرام فتحت أمامهم فرصة الحج والذين لم يتمكنوا من ذلك فُتحت أمامهم فرصة أخرى مشابهة.

هذه الأيام التي ستأتي عما قريب والتي ينبغي أن نستقبلها الاستقبال المناسب، العشر الأول من شهر ذي الحجة، أليست فرصة ذهبيةً ليفوز الإنسان بها بمثل الأجر الذي يفوز به الحاج؟ أليست هي الليالي التي أقسم الله عز وجل إذ قال: "والفجر وليالٍ عشر والشفعِ والوتر والليلِ إذا يسر هل في ذلك قسمٌ لذي حجر"؟ قال جمهور الصحابة والتابعين سلفاً وخلفاً: إن هذه الليالي التي أقسم بها ربنا سبحانه وتعالى هي العشر الأولى من ليالي شهر ذي الحجة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري من حديث عبد الله بن عباس: "ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيهنّ أحب إلى الله من هذه الأيام". قال أحد الصحابة: حتى الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟ قال: "حتى الجهاد في سبيل الله إلا رجلٌ خرجَ بنفسهِ ومالهِ فلم يعد من ذلك بشيء".

معنى هذا الكلام أن العمل الصالح في هذه الأيام خيرٌ من الحج، لأنه إذا كان خيراً من الجهاد المبرور في سبيل الله فلا شك أنه خيرٌ من الحج أيضاً. الحج الذي لم يفرضه الله عليك، لأن الاستطاعة التامة الكاملة الدينية والدنيوية لم تتحقق عندئذٍ يصبح الحج نافلة، العمل الصالح تنتهز القيام به في هذه الأيام بمثابة الحج بل إن أجره يعلو عن الحج إلى بيت الله الحرام.

فمن كان مخلصاً لله في قصده لم يبالي عندما لم يتح له أن يذهب حاجاً إلى بيت الله الحرام، وعندما يجد الزحام لا يحاول أن يتجاوز الحد المشروع في سعيه، لا يطرق الأبواب هنا وهنا وهنا، لا يوسط هذا وهذا وذاك، لا يدفع لهذا ولذاك، ما ينبغي أن يدفع رشوة أو على طرق أخرى من أجل أن يفوز هو الآخر بالحج، هذا الذي يقع أيها الإخوة مما تعرفون ومما لا ينبغي أن أقوله ليس عملاً خالصاً لله سبحانه وتعالى. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يطهر قلوبنا من الشوائب وأن يجعل أعمالنا كلها خالصةً لوجهه الكريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي