مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 20/03/1998

الحجاج المزيفون

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله..

إن الله سبحانه وتعالى جعل السبيل إلى قبول الطاعات والقربات التي يتقرب بها الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى محصورةً في سبيل الإخلاص أولاً، ثم في أن يستعين الإنسان على هذه الطاعة إن كانت من الطاعات المالية بالكسب الحلال، الذي جمعه من طريقٍ مشروع واكتسبه بوسائل قد أذن الله سبحانه وتعالى له بها؛ فالعبادات التي مزجت بمالٍ محرم مرفوضة معادة إلى صاحبها، والإنسان الذي يظن أنه يستطيع أن يجعل من عباداته وقرباته الجسدية شفيعاً بين يدي اكتساباته المالية المنحرفة إنسانٌ مخدوع وإنسان قد تلبس به الشيطان ووسوس إليه الباطل. لم يجعل الله سبحانه وتعالى إطلاقاً من عبادةٍ من العبادات شفيعاً لوزرٍ ماليٍ قد يرتكبه الإنسان. يجب أن يعلم كل منكم هذه الحقيقة.

فلا يتخيلن مسلمٌ أنه إن غش الناس بمعاملاته وإن سرق أو تلصص أو ارتشى أو خدع وخادع فلسوف يطهر نفسه غداً من ذلك كله بركعات أو بحجٍ إلى بيت الله الحرام، ذلك لأن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل فلتعلم أنك مهما رفعت يديك تبسطهما إلى السماء بالدعاء لن يُقبل دعاؤك ولسوف يرد الله سبحانه وتعالى دعاءك عليك. ألم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلم في آخر هذا الحديث ذاته ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يبسط يديه إلى السماء يقول: يا رب يا رب ومأكله حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له.

كثيرون هم أيها الإخوة الذين حمّلوا كواهلهم أوزاراً ثقيلة من المحرمات المالية، جنوا أموالاً بغير وجهٍ شرعي، اقتنصوا أموالاً بغير الطريق الذي أذن الله سبحانه وتعالى به، ظلموا أناساً بغشٍ وخديعة أخذوا بهما أموالهم، حتى إذا جاء موسم الحج فكر هذا الإنسان وأمثاله أنه يستطيع أن يلقي هذه الأوزار كلها عن كاهله إن هو ذهب حاجاً إلى بيت الله الحرام وطاف مع الطائفين وسعى مع الساعين .. ولسوف يستطيع عندئذٍ أن يلقي هذه الأثقال كلها في بيت الله الحرام ويرجع خفيفاً معافاً قد تاب الله عز وجل عليه.

لا يتصورن إنسانٌ هذا، إنها رقية شيطان، بل إن حجه لن يكون مقبولاً كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني بالأوسط من حديث أبي هريرة مرفوعاً ورواه الأصبهاني مرسلاً من حديث سالم بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا خرج الحاج حاجاً بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز وقال: لبيك اللهم لبيك. نادى منادٍ من السماء يقول: لبيك وسعديك نفقتك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرورٌ غير مأزور. وإذا خرج الحاج حاجاً بنفقة خبيثة ووضع رجله في الغرز قائلاً: لبيك اللهم لبيك. نادى منادٍ من السماء يقول: لا لبيك ولا سعديك نفقتك حرام وراحلتك حرام وحجك مأزورٌ غير مأجور"، هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وليت أن هؤلاء الذين يلهثون وراء جمع المال من كل جهة من كل حدب وصوب من حلالٍ أو حرام، سواء اقتضاهم ذلك أن يظلموا أناساً برئاء أو أن يخدعوا أناساً مغفلين أو أن يغشوا أو أن يرتشوا، هؤلاء الذين يتصورون أن الحج إلى بيت الله الحرام بمثابة مغتسلٍ أو ماء يغسلون به قذارة أعمالهم وتصرفاتهم، فليعلموا أنهم بحجهم هذا يزدادون بعداً من الله سبحانه وتعالى؛ إذ إنهم في ذلك كالذين يخادعون الله سبحانه وتعالى، (يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، يراؤون الناس)، كم ينطبق هذا الكلام على حالِ كثيرٍ ممن يفيض بيت الله الحرام بهم في كل عام.

ينبغي أن نعلم أيها الإخوة أن القاعدة التي نكررها كثيراً بكل مناسبة هي المحكم بسير الإنسان في هذه الحياة الدنيا مع الله، حقوق الله مبنية على المسامحة، لو أن إنساناً أمكنه أن يحج إلى بيت الله الحرام بهذا العصر ولم يحج، أغلب الظن أن الله لن يحاسبه ولن يحمله مسؤولية عدم ذهابه حاجاً إلى بيت الله الحرام، لو أن إنساناً مات وقد قصر في بعض عباداته، وقد قصر في بعض قرباته التي بينه وبين الله عز وجل، فأغلب الظن أن الله عز وجل سيعفو، ولن يؤاخذه. ولكن فلتعلموا أن حقوق العباد مبنية على المشاحة، لو أن الإنسان رحل من هذه الدنيا وعليه درهم؛ درهم واحد لعبد من عباد الله سبحانه وتعالى اقتنصه منه ظلما ًأو بغشٍ أو بخداعٍ أو رشوة فلا والله لا بد أن يبقى في الموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى حتى يعاقب لقاء هذا الدرهم الذي اقتنصه بدون حق أو حتى يعفو صاحب هذا الحق منه.

فما بالكم بالأموال الطائلة التي تقتنص من أصحابها ظلماً؟! ما بالكم بالملايين التي يكدسها كثيرٌ من الرجال والتجار بوسائل محرمة من غش من خديعة من تلاعبٍ بالشريعة وتلاعبٍ بالقوانين أيضاً ..؟ من اتفاقات بينهم وبين كثيرٍ من الموظفين؟؟ ويذهب ضحية هذه الاتفاقات برءاء مساكين فقراء.

أيظن هؤلاء الناس أنهم إن توجهوا إلى القبلة ببعض الركعات غفر الله لهم وتجاوز عن حقوق العباد التي تراكمت في أعناقهم!! بئس ما يتصورون.

أيتصور أحدهم أنه إذا ذهب حاجاً إلى بيت الله الحرام ورجع بلقب الحاج فلان يزدهي به بين الناس فإن الله سبحانه وتعالى سيذيب جرائمه التي ارتكبها في حق عباد الله عز وجل!! بئس ما يتصورون هؤلاء الناس لا سيما الجرائم المالية. ينبغي أن نعلم هذه الحقيقة أيها الإخوة.

وهاهنا حكمٌ شرعي يلتبس على كثيرٍ من الناس ينبغي أن نشير إليه. لعل قائلاً يقول: فإذا اجتمعت لدي أموالٌ جمعتها من طرق محرمة أما يحق لي أن أحج بها؟ أما يحق لي أن أتصدق بها؟ أما يحق لي أن أنفق منها على أهلي وعلى أولادي؟ ما الجواب عن هذا أيها الإخوة؟

لاحظوا القاعدة الفقهية التي ينبغي أن يعلمها كل مسلم، المال الخبيث الذي جمعه إنسان بوسائل محرمة، لا يملكها هذا الإنسان، هو وضع يده عليها ولكنه لا يعد في شريعة الله مالكاً لها، ومن ثَم فإن سائر التصرفات التي يتصور بها مالك هذا المال ظناً ووهماً منه؛ سائر ما يعود به هذا الإنسان على من كلفه الله بالإنفاق عليهم ما ينبغي أن يُصرف المال إلى شيء من ذلك. هو مكلف بأن ينفق على أهله لا يجوز أن ينفق من هذا المال على أهله، لأنه ليس مالكاً له، وإنما ينفق الرجل على أهله وأولاده مما امتلك.

لا يجوز له أن يحج به لأنه إنما يحج بالمال الذي يمتلكه، أما هذا المال الخبيث فإنه لا يمتلكه، ولذلك لا يجوز أن يمتلكه لا يجوز أن يحج به.

جاء ميقات الزكاة وأراد أن يزكي، لا يحق له أن يزكي بهذا المال، لأنني إن عندما أزكي أزكي من المال الذي أملكه، أما هذا الذي اقتنصته اقتناصاً بالوسائل التي حدثتكم عنها فأنا لم أملكه، فكيف أزكي مالي منه وهكذا ... إذاً ما مصير هذا المال؟

مصير هذا المال أنه ينبغي أن يعود إلى أصحابه الذين هم ملاكه، فإن عرفت هؤلاء الناس الذين غششتهم وخدعتهم أو اقتنصت المال بالطرق المحرمة منهم بعلمٍ منهم أو بغير علم، ينبغي أن تعيد هذا المال إليهم بأي طريقة أمكنك. أما إن لم يكن هنالك سبيل إلى إعادة المال إلى أصحابه كأن يكون أصحابه متناثرين بين سمع الدنيا وبصرها لا تعرفهم ولا تعرف مصائرهم، فقد قال علماء الشريعة: إن هذا المال يصبح في حكم الأموال الضائعة، أنت لا تملكه على أي حال لا تستطيع أن تشتري به لنفسك طعاماً ولا لأهلك ولا لضيوفك لأنك لا تملكه، ولن تستطيع أن تعيده إلى أصحابه، ما السبيل؟ السبيل أن نعود بهذا المال إلى ما ينبغي أن تعود إليه الأموال الضائعة، والأموال الضائعة التي لا نعرف أصحابها يجب أن تعود إلى مصالح المسلمين المتنوعة المختلفة، وفي مقدمة المصالح الفقراء.

ولكن إياك أن تتصور أنك عندما تعطي هذا المال للفقراء تكون بذلك قد أحرزت لنفسك أجراً بهذه الصدقة، هذا لو كنت مالكاً لهذا المال أجل عندئذٍ تحرز بذلك لنفسك أجراً، ولكنك مؤتمنٌ أن تعيد هذا المال إلى أصحابه، أنت مجرد مقتنص ومهمتك أن تعيد المال إلى أصحابه، لم تعلم أصحابه تعيده إلى مصالح المسلمين، مصالح المسلمين هي التي تملك هذه الأموال، وفي كلتا الحالتين ليس لك على هذا أي أجر بشكل من الأشكال.

ينبغي للتجار الذين يصفقون في السوق أن يعرفوا هذا الحكم، ينبغي أن يعرفوا أحكام الحلال والحرام، ما ينبغي أيها الإخوة لمسلم يخادع الله بركعات يخادع الله بالذهاب إلى العمرة أو الحج ثم إنه يمضي العالم كله لاهثاً وراء المال يسيل لعابه على صفقات تجارية من أي وسيلة جاءت وبأي طريقة جاء المال ودخل جيبه. وكم من مظلومين في هذه البلدة يأنون ويرزحون تحت الظلم، لا ظلم دولة ولا ظلم قانون ولكن ظلم حجاج مزيفين يزعمون أنهم حجاج إلى بيت الله الحرام، يقتنصون منهم الأموال بالخداع وبالغش وبالوسائل العجيبة المتنوعة، ينبغي أن يعلم هؤلاء الذين يسيل لعابهم على المال الحرام من أي جهة لاح، ينبغي أن يعلموا أنهم آيلون إلى الله، وأنهم راجعون إليه، وأن لهم وقفة بين يديه، عندئذٍ لن ينفعهم المال ولا البنون. ولكن الذي ينفعهم شيء واحد هو أن يكونوا قد طهروا أنفسهم وجيوبهم وصناديقهم في دار الدنيا مما قد حرم الله سبحانه وتعالى.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي