مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 13/03/1998

دواء المصائب الذي أعرض عنه المسلمون

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

لا شك أن المصائب التي تطوف بالمسلمين اليوم كثيرة ومتنوعة، ولكن ما من مصيبةٍ يبتلي الله سبحانه وتعالى بها عبداً له أو عباده إلا وإلى جانبها الدواء الذي يُنجي الإنسان من هذه المصيبة أو من وقعها الأليم. وكما أن القاعدة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله داءً إلى وأنزل لهُ دواءً إلا السام أي الموت"، فكذلكم الأمر بالنسبة للمصائب. ما من مصيبة يبتلي الله عز وجل عباده إلا وفتح أمامهم نافذةً للتخلص من هذه المصيبة إن هم رأوا هذه النافذة واستعملوها كما أمر الله سبحانه وتعالى.

والمسلمون على مر العصور كانوا ولا يزالون دائماً يلاحَقون بالمصائب، وتلك هي سنة الله سبحانه وتعالى في عباده، وذلك هو قانونه الذي يمضي في كون الله سبحانه وتعالى كما نقرأ في كتاب الله عز وجل، ولكن المصيبة الكبرى التي يعاني منها المسلمون اليوم، أنهم يرون المصائب أمامهم ولا يلتفتون إلى الدواء الناجع، الذي وضعه الله سبحانه وتعالى بين أيديهم، وهنالك علاجات وأدوية كثيرة، ولكننا معرضون عن أهم هذه الأدوية وهذه العلاجات.

أنا لا أتحدث عن الأدوية الشكلية والمادية التي نستوي نحن والجاحدون وأعداء الدين فيها، نحن نلجئ إليها كما يلجؤون ونستعملها ربما كما يستعملون، ولكن الله عز وجل خصص المسلمين بدواءٍ ناجع آخر لا يوجد نظيره عند أعداء الله سبحانه وتعالى، هذا الدواء نحن في شغلٍ شاغل عنه، إلا قلةً مما رحمها الله سبحانه وتعالى. فهل علمتم ما هو هذا الدواء الذي هو أول علاجٍ إن استعمل ضد المصائب ذاب وقع هذه المصائب، وغاب عظيم تأثيرها عن المسلمين، ولم تستطع هذه المصائب أن تفعل فعلها المسيء في حياتهم قط؟ هل تعلمون ما هو هذا الدواء؟

هو اللجوء إلى الله عز وجل بالدعاء، الدعاء الذي جمع آدابه والذي توفرت له شرائطه وضرورياته، هذا الدواء الذي يقف على رأس قائمة العلاجات التي تقي الإنسان من المصائب وشرورها ونتائجها. المسلمون اليوم إلا من رحم الله وقليلٌ هم في شغلٍ شاغل عن استعمال هذا الدواء.

نحن نتحرك كما يتحرك أعداء الله عز وجل الذين يحيطون بنا من كل حدبٍ وصوب، نتحرك كما يتحركون ونستعمل العلاجات التي يستعملونها مع فارق ما بيننا وبينهم في تلك القدرات المادية، أما ما خصنا الله عز وجل به مما لا يوجد نظيره عندهم فنحن في شغلٍ شاغل عن ذلك نهائياً.

أيها الإخوة ينبغي أن تلاحظوا سنةً أقام الله عز وجل عليها جميعاً حتى الرسل والأنبياء، ما هي هذه السنّة؟

هي أن الله عز وجل جعل قدرات عباده محدودة؛ تقف عند حدٍ لا تتجاوزه قط، ولكن الله عز وجل جعل طموحات عباده واسعةً جداً، جعل قدرات الناس محدودة بحيث تتغلب سمة الضعف على الإنسان دائماً، في حين أن الله عز وجل جعل طموحات الإنسان طموحات واسعة اتساع الكون كله ربما. فالإنسان إذا حاول أن ينسق بين قدراته المحدودة الضعيفة وطموحاته العالية جداً يشعر بالتخاذل، ويشعر بخيبة الأمل.

ما الحكمة؟ الحكمة أن تنقدح هنا بين جوانحه مشاعر الحاجة إلى الله، أن يشعر بأنه بأمس الحاجة أن يمد يده إلى الله عز وجل، لأن طموحاته عالية جداً، فإذا التجئ إلى قوته رآها ضعيفة جداً ماذا يصنع؟ الحكمة هنا تكمن في هذا المعنى، إذا بحث وبحث الإنسان إضطرته هذه الحالة إلى أن يلتجئ إلى الله. وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى: "ففروا إلى الله إني لكم منه نذيرٌ مبين"، لم يقل اتجهوا إلى الله لم يقل سيروا على أوامر الله ولكن قال: "ففروا إلى الله". ومعنى ذلك أن الله عز وجل يأمرنا أن نهرب من شيء نخافه، يأمرنا أن نهرب من شيءٍ يلاحقنا، ما هو هذا الشيء؟

هذا التناقض بين الضعف الذي رُكب في كياننا وبين الطموح العالي الذي أغدقه الله سبحانه وتعالى علينا، فالله عز وجل يقول: يا ابن آدم عندما تجد نفسك وقد كدت تقع في خيبة أمل بسبب ضعف قوتك أمام عظيم طموحاتك، التجئ من هذه الحالة إلى الله، فرّ من وضعك الذي تعاني منه كي لا تقع في خيبة أمل فرّ إلى الله سبحانه وتعالى.

كيف الفرار إلى الله؟ كيف يكون الفرار إلى الله؟ وأنا لا أتحدث عن الواجبات المتكررة التي يؤديها المسلم من صلاةٍ وصيامٍ وحجٍ وزكاةٍ ونحو ذلك، وليس هذا هو المعنى المراد، وإنما المعنى فرّ إلى الله عز وجل بالدعاء الواجف بين يديه بالضراعة، بأن ترفع يديك إلى الله سبحانه وتعالى تلوذ من ضعفك بقوته، تستجير من المصائب التي تطوف بك، برحمة ربك سبحانه وتعالى وكرمه، ولكن لا بد من أن تطرق باب الكريم، لا بد من أن تدعوه. هذا المعنى الذي هو لباب الإسلام والذي هو العمود الفقري لمعنى عبودية الإنسان لله، معنى يكاد يكون غائباً عن حياة المسلمين اليوم لا سيما الذين يمارسون أعمال القيادة فيهم، لا سيما الذين ينهجون منهج التخطيط الدعوي في حياتهم، يتحركون على كل المستويات ويعالجون مصائبهم بكل الوسائل المادية كما يعالج أعدائنا مصائبهم. حتى إذا نظرنا إلى باب الالتجاء إلى الله رأينا المدخل إليه فارغاً ولرأينا الطريق إليه ليس فيه أحد إلا من رحم ربك كما قد قلت لكم.

أيها الإخوة أما تقرأون كتاب الله!؟ أما تدبرون ما قد تقرأون في كتاب الله عز وجل؟! انظروا كيف يحدثنا كتاب الله عن الصفوة الكبرى من عباده وهم الرسل والأنبياء المؤيدون بنصر الله، المؤيدون بقوةٍ من عند الله سبحانه وتعالى، عندما يحدثنا بيان الله عنهم تنظر فتجد جامعاً مشتركاً بينهم كلهم، ما هو هذا الجامع المشترك؟ الالتجاء الدائم إلى الله، الدعاء الضارع بين يدي الله عز وجل، وأنت عندما تقرأ ما يرويه بيان الله عز وجل من أدعية هؤلاء الرسل والأنبياء ليخيل إليك أنهم قد عصوا الله معصيةً كبرى أو أنهم ارتكبوا أمراً شنيعاً اقتضاهم أن يدعوا هذا الدعاء الضارع الواجف مع ما نعلم من نقيض هذا تماماً، فهم إنما جعلهم الله عز وجل خيرة الناس في عباده، وهم المصطفون الأخيار، وهم المعصومون من كل الذنوب ... ومع ذلك فهم دائماً يلجؤون من الشدائد التي تطوف بهم إلى هذا الدواء قبل كل دواء، ألا وهو الالتجاء إلى الله.

ألم تقرأوا دعاء سيدنا ابراهيم: "رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴿83﴾ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴿84﴾ وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ﴿85﴾ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ﴿86﴾ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴿87﴾ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿88﴾ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿89﴾".

ألم تقرأوا دعاء سيدنا نوح في سورة نوح، وكل هذه السورة رواية لدعائه، انظروا إلى دعائه وتخيلوه وهو يتجلبب بأدنى وأدق معاني الذل والصغار لله سبحانه وتعالى، وانظروا إلى قول الله عز وجل معلِّقاً على دعائه هذا: "وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ"، انظروا إلى الدواء وانظروا إلى استعمال نوحٍ له، انظروا إلى الداء وانظروا إلى دواء الدعاء: "وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ". ألم تقرأوا قول الله سبحانه وتعالى في مكانٍ آخر: "كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ"، إلام فر سيدنا نوح عندما وقعت به هذه المصيبة؟ "فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ(10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ".

ألم تقرأوا دعاء سيدنا أيوب عندما حدثنا ربنا عن المصيبة التي طافت به؟

ألم تقرأوا دعاء ذي النون: "وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ"

ألم تقرأوا دعاء سيدنا زكريا؟

ألم تقرأوا قصص الرسل والأنبياء في القرآن وتقفوا على أول دواءٍ استعملوه للوقوف في وجه المصائب التي كانت تطوف بهم؟ إنه الدعاء.

أين نحن أيها الإخوة من استعمال هذا الدعاء؟ لكأننا ونحن ننظر إلى فرق ما بيننا وبين أولئك الرسل والأنبياء لكأن الخيال يرينا الواقع التالي: أولئك الرسل والأنبياء مغموسون بكثيرٍ من المعاصي والأوزار والتقصيرات في جنب الله ولذلك يدعونه ويتضرعون، أما نحن فملائكةٌ مقربون، لم نعص الله ولم نسئ إلى أنفسنا ولم نشرد عن صراط الله عز وجل شروى نقير فلماذا ندعو؟ وهل هذا التخيل صحيحٌ أيها الإخوة!؟ الواقع تماماً هو الصحيح.

النتيجة التي ينبغي أن نصل إليها من هذا الكلام هي أن المصائب التي تحتوشنا وتطوف بنا ما عظّم من شأنها أنها خطيرة وعظيمة، ولكن الذي عظّم من شأنها ومن خطورتها إدبارنا عن الله عز وجل وعدم التجائنا إلى الله باستعمال هذا الدعاء. هذا هو الذي جعل هذه المصائب خطيرةً تبدو أمام أبصارنا، لا العدو الذي يقبل إلينا من الغرب متمثلاً في أمريكا ومن معها، ولا الذي يقبل إلينا من الشرق، ولا الذي يتفجر في داخل بلادنا، كل هذه المصائب لا قيمة لها، ولكن الذي جسدها وعظمها هو أن يبدو وكأن الكبر حال بيننا وبين أن نلتجئ إلى الله عز وجل بمسكنة وضراعةٍ ندعو الله سبحانه وتعالى كما كان يدعو أولئك الرسل والأنبياء.

تأملوا .. تأملوا في حال المسلمين ولا تستثنوا القادة فيهم، ولا تستثنوا الدعاة بينهم إلى الله عز وجل والحركيين فيهم، لا تستثنوا أحداً، أروني كم هم الذين يلتجؤون إلى الله عز وجل في ظلمات الليالي ركعاً وسجداً وقد تضائلوا وقد تجلببوا بجلباب الصغار بين يدي الله يدعونه بصدق وبمشاعر وقلوب منكسرة كم هم؟ إنهم لقلة إن لم أقل إنهم معدومون. والله عز وجل يستجيب.

"أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ" هو الله سبحانه وتعالى، وكم وكم دعا من قبلنا ممن ابتلوا بشرٍ من المصائب التي ابتلينا نحن بها فاستجاب الله لهم.

كلكم سمع بمحمد الفاتح الذي فتح الله على يديه القسطنطينية فماذا كان سلاحه؟ لم يكن سلاحه تلك التقنية التي يفتخر بها الغرب اليوم على أنه كان يستعملها، لم يكن سلاحه الاعتماد على جنودٍ كثر على أنه كان له هذه الجنود، ولكن اعتماده الأول على هذا الدعاء الواجف على هذه الضراعة، كانت غرفة عملياته محراب دعاءٍ وبكاء كان يدعو الله سبحانه وتعالى من أول الليل إلى آخره، وقد عفّر وجهه بتراب الأرض يدعو الله سبحانه وتعالى أن يستجيب دعاءه وأن يحقق رجاءه وأن يفتح على يديه وأن ينصر الإسلام بهؤلاء الجنود. بهذا نصره الله عز وجل.

أما المسلمون اليوم فلا أكاد أجد فيهم من يرفع يديه في ساعة خالية بينه وبين الله للدعاء، بل لقد قلت لكم قبل أسبوعين: كنت أدعو الله عز وجل وكنتم تؤمنون وأنظر فأجد أناساً من أصحاب اللحى يسمعون الدعاء ولا تتحرك منهم مشاعر، لا ترتفع أيديهم إلى الله سبحانه وتعالى بدعاء على الرغم من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تؤكد أن الله يستحي أن يرد يداً امتدت إليه بالدعاء أن يردها خائبة.

أسأل الله عز وجل أن ينبهنا إلى هذا الدواء الذي لا دواء من قبله ولا من بعده إن تركناه يُصلح أحوالنا.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم

تحميل



تشغيل

صوتي