مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 20/02/1998

لتخلي الأمة عن مبدأ الخلافة الواحدة ... التاريخ يكرر نفسه

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

حكمٌ من أجلّ أحكام الشريعة الإسلامية وأهمها وأخطرها، غدا اليوم غائباً عن أذهان المسلمين جميعاً، وغريباً أو بعيداً عن المجتمعات الإسلامية كلها، ألا وهو حكم الإمامة الكبرى أو الخلافة التي أرساها دين الله سبحانه وتعالى مع بعثة خاتم الرسل والأنبياء سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

نسي الناس أو أكثرهم هذا الحكم الجليل والعظيم الذي يحتل حيزاً كبيراً من مصادر الشريعة الإسلامية، نسوا أو تناسوا أن على المسلمين في كل عصر ووقت أن تكون في أعناقهم بيعةٌ لإمامٍ يجتمع المسلمون كلهم تحت إمرته وقيادته؛ سواءٌ سُمي إماماً أو سُمي خليفة. ولعلكم جميعاً تعلمون دلائل ذلك من كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصاياه، فلقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية".

وهذا حكمٌ تضامني اجتماعي يصدق على كل فردٍ فردٍ من أفراد هذه الأمة، أي إذا مرّ يوم واحد على المجتمع الإسلامي، وليس لهذا المجتمع إمامٌ واحد يلتقي المسلمون جميعاً تحت قيادته ومات واحد من هؤلاء المسلمين على هذه الحال مات ميتة الجاهلية، ذلك لأن كلاً منهم مسؤولٌ عن البحث عن إمامٍ واحد يجتمع المسلمون كلهم تحت مظلته. ومن هنا قال الفقهاء جميعاً: لا يجوز أن يفترق المجتمع الإسلامي إلى دويلات متعددة يرأس كلاً منها إمامٌ مستقل، وأساس ذلك كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يقول فيما يرويه مسلمٌ من حديث أبي سعيد الخدري: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما"، إذا بويع لخليفتين، أي بويع لواحدٍ أولاً ثم بويع لرجلٍ ثانٍ ثانياً فاقتلوا الثاني، ولم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم اقتلوا أسوأهما أو أكثرهما ابتداعاً أو انحرافاً، وإنما قال: فاقتلوا الثاني؛ أي الذي جاء بعد الآخر، وهذا دليلٌ ما بعده دليل على أن المجتمع الإسلامي واحد وينبغي أن يظل واحداً، وينبغي أن تكون إمرة هذا المجتمع إلى إمامٍ واحد.

ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الشيخان البخاري ومسلم من حديث عرفجة رضي الله تعالى عنه يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "من أتاكم وأمركم جميعاً على رجلٍ واحد؛ يريد أن يشق عصاكم ويُفرق جماعتكم فاقتلوه".

ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الشيخان أيضاً من حديث عرفجة: "إنه ستكون هناةٌ وهناة"، أي ستكون أخطارٌ وفتن من بعدي، فمن أراد أن يشق عصا المسلمين وأمرهم جميع على رجلٍ واحد فاضربوه بالسيف كائناً من كان.

هذه الأحاديث أيها الإخوة صريحة واضحة في أن هذه الأمة التي أكرمها الله سبحانه وتعالى بجمع الشمل بعد أن كانت متفرقة في متاهات، وبعد أن أكرمها بحبله الذي كان إليه الفضل في اجتماع شملها، إن هذه الأمة مكلفةٌ بالحفاظ على هذه الوحدة، مكلفةٌ برعاية هذه المكرمة التي أكرمها الله بها من خلال قوله: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا"، وذلك بأن تكون هذه الأمة دائماً متفقةً متحدةً يجتمع شملها وتتظافر قواها تحت مظلة خليفة واحدة يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تحت مظلة إمام واحد يقودها.

ولقد بلغ الأمر في الاهتمام بوحدة هذه الأمة إلى أن يقول رسول الله: وأمركم جميعٌ على رجل واحد، لم يصف هذا الرجل إطلاقاً، المهم أن يكون رجلاً واحداً مسلماً، ذلك لأن تفرق هذه الأمة وتدابرها أخطر بكثير وبكثير من أن يكون إمام هذه الأمة الواحدة مبتدعاً أو فاسقاً أو مخطئاً أو مسرفاً على نفسه. إن وضعت هذه الصفات في كفة، ووضع تفرق المسلمين في كفة أخرى، فتفرق المسلمين أخطر وأسوأ من ذلك كله.

نسي الناس أيها الإخوة في هذا العصر هذا الواجب الذي هو من أخطر الواجبات، ومن أهم الأحكام التي نقرأها في كتب الشريعة الإسلامية، وإني لأخشى أن تكون معصية المسلمين في نسيانهم لهذا الحكم لا يقل خطراً عن معصية هذه الأمة في ترك هذا الحكم. فهما معصيتان:

أولهما: الابتعاد عن تنفيذ هذا الحكم.

ثانيهما: نسيان هذا الحكم وابتعاد هذه الأمة عن ذلك.

والآن ما وجه الخطورة في هذا الأمر، ولماذا يُصر الإسلام إصراره من خلال كتاب الله ومن خلال أحاديث كثيرة كما سمعتم من كلام رسول الله على أن تجتمع هذه الأمة على قيادة رجل واحد ما السبب؟

السبب: هو أن الله عز وجل علم أن الأرض سيظل فيها طغاة وبغاة، وأن هذا الدين مطموعٌ فيه وفي أهله، وأن المسلمين مهما انتصروا ومهما سادوا فإن هنالك أناساً وأمماً ستغلي الأحقاد بين جوانحهم وفي قلوبهم، ولسوف يحاولون أن يقضوا على قوتهم التي أكرمهم الله عز وجل بها، ولسوف يحاولون أن يستنزفوا قواهم وعزتهم التي متعهم الله بها، ولسوف يحاولون أن يسرقوا ثرواتهم التي أكرمهم الله عز وجل بها، ترى ما هو الحصن الذي ينبغي أن يتحصن فيه المسلمون ضد ذلك كله؟ القوة المادية تفيد لكنها فائدة جزئية، التمسك بأوامر الله الفردية يفيد ولكنه يفيد فائدة جزئية، كل ذلك لابد له من حصن، ما هو هذا الحصن؟ هو وحدة الأمة هو اجتماع شمل هذه الأمة، ومن هنا يحذر بيان الله سبحانه وتعالى الأمة في محكم كتابه من أن تتفرق: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"، "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم" إلى آخر الآية.

هذا هو السبب الذي من أجله يُلح كتاب الله ويُلح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يلتقي أمر هذه الأمة على خليفة أو إمام؛ ذلك لأن أطماع الطامعين لا يمكن أن تُرد على أعقابها إلا بهذه الوحدة وبهذه الطريقة وتحت مظلة إمامٍ يجمع شمل هذه الأمة بوازعٍ ديني لا بوازعٍ سياسيٍ مجرد.

وإنكم لتذكرون أن هذه الأمة طالما كانت في تاريخها الغابر متمسكةً بهذا المبدأ، يجتمع شملها تحت مظلة خليفة أو إمام، لم تكن أمم البغي تستطيع أن تخترق سوراً من أسوارها، ولم تكن تستطيع أن تقضي على جانب من عزتها، حتى في أسوأ الظروف، حتى عندما كانت الخلافة الإسلامية تخب وهي مريضة كما يسمونها بالرجل المريض حتى في تلك الظروف لم يكن الغرب يستطيع - وكم كانت له من أطماع - أن يصل إلى أطماعه؛ ذلك لأن طوق الخلافة الإسلامية كان يمنع الطامعين ويصدهم على الرغم من أنها كانت خلافة هشّة وكانت خلافة ضعيفة.

نحن أمة واحدة، هكذا كنا، أما واقعنا فنحن مضرب المثل للتفرق والتدابر والتشاكس من خلال هذا الواقع قُضي على هذه الأمة، من خلال هذا الواقع تتهدد أمتتنا هذه أعمالٌ وحشية وإجرامية ما مثلها وحشية في الغابات أبداً بشكلٍ من الأشكال. ولكن الأعمال الوحشية والإجرامية قسمان اثنان:

أعمالٌ بدائية، كتلك الأعمال الوحشية التي تراها في الغابات، والتي تُقدم عليها الوحوش، وما أيسر صد هذا النوع من الأعمال الوحشية البدائية. أعمال وحشية أخرى تتقنع بقناع من الحضارة، تتقنع بقناع خداع من الشعارات البراقة الزائفة الكاذبة. كحقوق الإنسان، كإقامة العدالة كشعارات كثيرة مما تعرفون. الوحشية والجرائم التي لا يمكن أن تعلم وحوش الغابات مثيلاً لها والتي تطوف حول هذه الأمة، هي من هذا النوع الثاني أيها الإخوة.

ترتفع شعارات حقوق الإنسان كما تسمعون في هيئة الأمم المتحدة، وفي العالم الغربي بشطريه الأمريكي والأوروبي، ولكن اخترقوا هذه الشعارات وانظروا إلى الواقع، تجدون أن الوحشية التي يمارسها أصحاب هذه الشعارات - لا والله - لا تستطيع وحوش الغابات أن تمارسها، تحت هذا الاسم يقتل البرءاء، وليس هنالك من يتحدث عن حقوق الإنسان، ذلك لأن أوراق السلفان هي المطلوبة فقط، أما أن يموت البرءاء، أما أن يموت الأطفال جوعا، ًأما أن يجد العالم أن شعباً بكامله هو عرضة للهلاك بكل معنى الكلمة، فلا أحد يتحدث عن هذا بشكلٍ من الأشكال، ذلك لأن هذا العمل الإجرامي مخبوء تحت اسم حقوق الإنسان.

عندما تجتاح جماعة من الناس بلدةً آمنة مطمئنة يهب الغرب هبة رجل واحد، لأن مصلحته تقتضي انتهاز الفرصة من أجل وضع اليد على ثروات تلك المنطقة، من أجل اقتناص خيراتها كلها، وها هي ذي دولة أخرى تجتاح جارتها كل يوم كتركيا والعراق، ولا نجد من يقول، ولا نجد من يستنكر، ولا نجد من يقول إن العدالة تقتضي أن تتقاسم الأمة الإنسانية حقوقها على السواء، وأن يتحمل الناس كلهم واجباتهم أيضاً على السواء لا نجد.

ننظر إلى من ينادون بحقوق الإنسان ماذا يصنعون؟ يختلقون الأزمات في بقعة من بقاع هذه الأمة التي قُضي عليها بالتفرق والشتات، يختلقون الأزمة هناك لأن لأولئك الناس طمعاً في خيراتهم هناك. أجل الطمع بالكنوز السوداء والصفراء التي جعلها الله ذخراً لهذه الأمة هو الذي جعلهم يختلقون هذه الأزمة قبل سنوات، لكي يضعوا أيديهم على هذه الكنوز كلها، ولكي ينادي مناديهم إن في السر أو في العلن هذه الخيرات ينبغي أن تعود إلينا حقوق الإنسان، أين هي حقوق الإنسان؟ واليوم هذه الأزمة التي تُختلق إنما تُختلق من أجل تعميق الهيمنة الغربية على حقوق هذه الأمة المعنوية والمادية. هذا العمل الإجرامي هذا العمل الوحشي الذي تتنزه عنه الوحوش في غاباتها عدا عن الفارق الوحيد الذي يتمثل في ورق السلفان الذي خبئت هذه الوحشية تحتها، والذي كتب عليه حقوق الإنسان .. العدالة إلى آخر ما هنالك من الكلمات الجوفاء الفارغة ...

ترى ما الذي جعل الغرب يشمر عن ساعد البغي والوحشية، ويكشر عن أنيابه المخبوئة وراء هذه الكلمات ليفعل هذه الأفاعيل بنا؟ هل كان يستطيع إلى ذلك سبيلاً لو كانت هذه الأمة ما تزال مكلوءة بحراسة أعظم مبدئٍ تركه الإسلام لنا، ألا وهو مبدأ اجتماع الأمة على إمام واحد على خليفة واحد.

(الخلافة) هذا هو الأمر الذي ينبغي أن يعود إلى أذهانكم أيها الإخوة، هذا هو الأمر الذي ينبغي أن يعود فيصبح حقيقةً ماثلةً بين جوانحكم وفي مشاعركم، إن لم نستطع اليوم إلى ذلك سبيلاً لأنه قد حيل بيننا وبين السبيل إلى ذلك، فلا أقل إلى أن نعلم أن هذا هو البلاء الأعظم الذي حاق بنا يوم نسينا هذا الواجب، لا أقل من أن يصبح الإنسان ويمسي وهو يقول لمولاه وخالقه: اللهم إني أعترف بأني قد قصرت، فلم أكن حارساً أميناً على هذا المبدأ الذي أمرتنا به.

كل هذه المصائب التي تأتي تباعاً، كل هذه السلسلة المؤلفة من الحلقات التي رأيتموها والتي قد تروها ونسأل الله العفو والعافية، إنما جاءت من وراء هذا الأمر، ومن العجب أن في أبناء جلدتنا من يقف في وجه هذا المبدأ، ومن يناقش ومن يخالف ومن يحارب مبدأ هذه الخلافة، وإنكم تعلمون ونحن نعلم أنه ما من حقيقة سرقها الغرب من حقائقنا الإسلامية إلا واستعان بعملاء منا وفينا، ما من مبدأ من المبادئ حطمه الغرب في مجتمعاتنا إلا واستعان بمعاول منا وفينا.

ورحم الله العرب الذين تركوا من ورائهم المثل القائل: إن قطعة من فأسٍ ألقيت في بستان، فذعرت الأشجار من قطعة الفأس هذه، فقالت شجرة مسنة كبيرة أتت عليها الدهور: لا تخافوا ولا تحذروا من قطعة الحديدة هذه، فلو أنها بقيت ملقاة فيما بينكم دهر كاملاً لن تستطيع أن تمس أياً منكم بسوء إلا إن تبرع غصناً منكم أن يكون مقبضاً لها.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي