مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 13/02/1998

أصل أمراض المجتمع والسبيل إلى صلاحه

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله

إن من شأن الإنسان السويِّ في تفكيره وعقله أنه إذا شعر بأعراض مرض يسري في كيانه، سرعان ما يعود إلى الأطباء الذين بوسعهم أن يشخصوا مرضه، وأن يبينوا له سبب ما قد حل بجسمه، ثم أن يضعوه أمام الدواء الناجع الذي يخلصه من مرضه. هذا هو شأن كل إنسانٍ عاقل عندما يتعرض لمرضٍ من الأمراض أياً كان.

ومجتمعنا الذي نعيش فيه اليوم يعاني من أمراض لا من مرض واحد، يعاني من أمراضٍ كثيرة، والكل موقنٌ بذلك والكل معترفٌ به. مجتمعنا يعاني من مرض تضييع الأمانة، يعاني من مرض إهمال المسؤولية، يعاني من مرض التعامل بالغش والخديعة، يعاني من مرض التسيب بكل أنواعه، يعاني من مرض الأثرة بدلاً من الإيثار الذي هو خُلُق كل إنسانٍ سويٍ وشريف، يعاني مجتمعنا من الفساد بأكثر أنواعه وأشكاله ... وهذا مرض.

والمرض كما يمكن أن يسري في بدن إنسان يمكن أن يسري مثله أيضاً في كيان مجتمع. والمفروض أن يتنبه المجتمع من خلال أشخاصه ومن خلال أفراده ومن خلال الذين يديرون شؤونه، من المفروض أن يتنبه المجتمع إلى هذا المرض، ثم أن يتساءل عن السبب، ثم أن يتجه إلى الدواء؛ الذي إن استعمله تخلّص من عقابيل هذا الداء وآثاره.

أما الشعور بهذا المرض فأعتقد أن مجتمعنا يعلم ويدرك أنه مريضٌ بهذه الآفات كلها، بل إن كل من في هذا المجتمع على اختلاف فئاتهم مدركون ومعترفون بأنه يعاني من هذه الأمراض. الدعاوي الكلامية تفيض بها مجتمعاتنا، فإذا بحثت عن مصداق هذه الدعاوي سلوكاً لم تجد نفسك أمام سلوكٍ يتفق مع هذه الدعاوي قط. التبجحات الكلامية بضرورة التضحية في سبيل القيم والمبادئ والأرض والوطن والحقوق ما أكثرها، ولكنك عندما تبحث عن الواقع الذي يُصدق ذلك لا تجد أثراً لهذا كله. الحديث عن الثغرات وأنواع الفساد الذي يستشري في هذا المجتمع، حديثٌ لا نهاية له ... إذاً فالكل معترف بأن مجتمعنا يعاني من أمراض ويعاني من انواعٍ من الفساد مقتضى هذا الشعور وهذا اليقين أن يبحث هؤلاء الذين شعروا وعرفوا وأيقنوا ثم اعترفوا، مقتضى ذلك أن يبحثوا عن السبب ومن ثم أن يبحثوا عن الدواء ثم أن يستعملوا هذا الدواء كما يفعل أي مريض عندما يُهرع إلى طبيبه ثم ينصحه بالدواء الناجع الذي ينبغي أن يستعمله وها هنا نقطة الغرابة والعجب.

أكثر الناس التائهين وأكثر الناس الواقعين في تيارات هذا الفساد يقفون من حديثهم عن المجتمع عند الإقرار بوجود هذه الأمراض، ثم إنهم لا يتجاوزون ذلك إلى أي معالجة وإلى أي بحث. فما السبب؟

نحن نعلم أيها الإخوة أن هذه الأمراض التي من شأنها أن تسري في كيانات المجتمعات المختلفة لها سبب واحد لا ثاني له، هو فساد الأخلاق، عندما تفسد الأخلاق تسري هذه الأمراض في كيان المجتمع، وعندما تصلح الأخلاق وتستقيم تغيب هذه الأمراض.

وقديماً تحدث الناس عن أهمية الخلق وكونه الدعامة الأولى للمجتمع السوي وللتقدم الإنساني الحقيقي ولكن من أين ينبثق حسن الخُلق؟ وما هي الضمانة لأن يتمتع أفراد مجتمعٍ ما بحسن الخُلق لا سيما مجتمعاتنا العربية التي كانت في يومٍ من الأيام مثال الفساد الأخلاقي ثم لم يقومها إلا دين الله سبحانه وتعالى؟ عندما أكرمها الله سبحانه وتعالى ببعثة خاتم الرسل والأنبياء - كما يقول ابن خلدون. هذه الأمة العربية لا يقومها إلا شيءٌ واحد هو الدين، هنالك أمم أخرى يمكن أن تقومها عوامل مختلفة، ولكن هذه الأمة يستعصي أي سبب من الأسباب على تقويمها إلا أن يكون هذا السبب متمثلاً في دين الله سبحانه وتعالى.

الأخلاق الفاضلة لا يمكن أن تنبثق إلا من معين التدين، لا يمكن أن تنبثق إلا من معين الإيمان بالله سبحانه وتعالى والانضباط بأوامر الله عز وجل، ولعل كثيراً من الناس في مجتمعاتنا يغصون بهذا الكلام وبالاعتراف به لأنهم مازالوا يستمرئون البعد عن حظيرة الإسلام، ما زالوا يتخيلون أو يحبون أن يتخيلوا أن هنالك علاجات أخرى يمكن أن تفيدهم، ولعلهم جميعاً أدركوا أن لا علاج يُصلح حال هذه الأمة بذاتها إلا علاجٌ واحد، ألا وهو علاج هذا الدين.

لا سيما وكما قلت أكثر من مرة لقد جرب الكثيرون من فئات مجتمعاتنا هذه أدوية وعلاجات شتى، جربوا دواء اللجوء إلى القومية وزخمها وإيحاءاتها، فلم يغنِ عنهم هذا الدواء شيئا وما زادهم إلا بلاءً. جربوا اللجوء إلى فلسفات أجنبية خارجة عن مجتمعاتنا وعن طبيعتنا بل عن الفطرة الإنسانية السوية، جربوا ذلك وساروا في هذا الطريق أشواطا ًفلم يستفيدوا من ذلك شيئاً.

جربوا الكلمات الكبيرة التي تتحدث عن الوطنية، والتي تتحدث عن الغيرة، والتي تتحدث عن التراث، والتي تتحدث عن الاعتزاز بتراث الآباء والأجداد فما أفادهم ذلك كله شيئاً.

تحدثوا عن كلمة الأخلاق، ولكن بعيدة عن جذورها، بعيدةً عن معينها، بعيدةً عن ضماناتها، فلم تجدهم كلمات الأخلاق شيئاً ولم تفدهم إلا تصديعاً في الرؤوس وبقيت الأمراض مستشرية وبقي الفساد ممتداً والكل معترف بهذا الفساد.

إذاً لقد آن الأوان أن نعترف بأن لا دواء - بعد التجربة وبعد الاستقراء - إلا دواء واحد، هو أن نعود إلى معين هذا الإسلام، ونحول انتمائنا التقليدي إليه إلى انتماء فعّال.

لقد آن الأوان أن يدرك هذه الحقيقة كل الناس بكل فئاتهم إن كانوا ممن يضيقون ذرعاً بهذا الفساد، وإن كانوا ممن يبحثون عن وسيلة للإصلاح، أما الذين يستمرؤون الفساد لأنهم يربحون من وراءه، وأما الذين يطيب لهم الإعوجاج لأنهم يستفيدون من وراءه فوائد ولو كانت على حساب أمتهم، فأولئك لا حديث لنا معهم ونسأل الله لنا ولهم الهداية.

أما أولئك الغيارى على هذه الأمة ولا شك أنهم كثيرون أما أولئك المتحرقون على صلاح هذه الأمة ولا شك أنهم كثيرون، فقد آن أن يعلموا أن الأخلاق لا تزدهر أبدا ًإلا في تربة الإيمان بالله والتربية الإيمانية الصحيحة. إذاً ينبغي أن تتنامى التربية الإسلامية على كل المستويات في مجتمعاتنا، ينبغي أن يرتبط هذا الجيل ارتباطاً عقلانياً ووجدانياً بدين الله سبحانه وتعالى، ينبغي أن نُجند لذلك سائر وسائل إعلامنا، سائر الأدوات الثقافية التي نجعلها زاداً يسري فيما بيننا، ينبغي أن نجند ذلك كله من أجل أن يتحول انتماؤنا الإسلامي من الوضع التقليدي إلى الوضع الحيوي الفعّال. هذا ما ينبغي أن نعلمه وينبغي أن نتبينه.

ما ينبغي أن يستحي المتحدثون والكاتبون في وسائل الإعلام عن الاعتراف بهذه الحقيقة، يعلمون وتغص أفواههم عن الاعتراف بما يعلمون يتبينون ولعلهم في السر يقولون أيضاً إن هذه الأمة لا يصلحها إلا أن تعود إلى دينها، حتى إذا خرج الكلام عن السر إلى العلن اختفت هذه الألفاظ عن الألسن. من هم الذين يستحي منهم هؤلاء الناس؟ وفيما الخجل من حقيقة أصبحنا جميعاً ندركها وأصبحنا جميعاً نعلمها! ينبغي أن تكون الجرأة التي يعتز بها القائمون على أمر هذه الأمة متمثلةً في عودٍ حميد إلى هذا المبدأ الذي نقوله.

جربنا كل الوسائل ولا مانع أن نزيد التجربة تجربة، وليحاول من يحاول .. ولكن ها هي ذي الحقيقة الناصعة ظهرت، لا يمكن أن تعود هذه الأمة فترقى إلى عزتها التي كانت قد عرفت بها، ولا يمكن أن تنهض نهضتها التي يحلم بها كل واحد منا إلا إن رجعت إلى هذا الدين الحنيف. وإنها لحقيقةٌ أدركها عمر بن الخطاب إدراكاً ثاقباً يوم قال: "نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام فمهما طلبنا العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله".

كثيرون هم الذين ربما يقولون ها هي ذي أمم الغرب تتعامل فيما بينها بالأخلاق الحميدة وتتفق حيث ينبغي أن تتفق كما نرى دون أن تعتمد في ذلك على دين حق، فلماذا لا نملك ما يملكون؟ ها هنا السر العظيم الغريب هذه الأمة العربية كانت كما قلت لكم مثلاً يُضرب في التفرق والتشتت والحطة في الفكر والأخلاق والولوغ في أنواع الرذيلة، ما الذي أنقذها؟ ما الذي حولها إلى النقيض؟ ما الذي جعلها مضرب المثل للأخلاق الفاضلة وللوحدة وللإنسانية وللمعارف وللثقافة؟

شيءٌ واحد .. هو الانضباط بحبل الله عز وجل والتشرف الحقيقي بدين الله.

من حكم الله عز وجل أنه يريد أن تصبح هذه الحقيقة واضحة جليةً مع الزمن، هذه الأمة بالذات التي أصلحها الإسلام بعد الفساد إن تركت سر صلاحها ألا وهو الدين لا بد أن ترجع إلى ما كانت عليه، تلك هي الحكمة وهذا هو فرق ما بيننا وبين الأمم الأخرى، لباسٌ ارتديناه فأعزنا الله عز وجل فيه، عندما نخلع هذا اللباس بشكلٍ أو بآخر لا بد أن نعود إلى الوضع الذي كنا عليه قبل أن نتشرف بهذا اللباس، هكذا كنا إذاً هكذا ينبغي أن نعود عندما نخلع هذا الثوب الإسلامي الذي أعزنا الله عز وجل به. هذا لا ينطبق إلا على هذه الأمة أما تلك الأمم الأخرى فلها شأنها الآخر.

فليعرف هذه الحقيقة كل من أراد أن يقيس نفسه على الأمم الأخرى.

أقول قولي هذا وأسأل الله عز وجل أن يهدينا إلى سواء صراطه المستقيم، فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي