مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 30/01/1998

هل انتصر الغرب على الإسلام!؟..

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

لعل الذين سمعوا حديثي بالأمس وأنا أتكلم عن طغيان الدول الغربية، وعن خططها المتآمرة على هذه الأمة العربية والإسلامية، وعن تخاذل هذه الأمة وتدابرها والضعف الذي استشرى فيما بينها ... لعل الذين سمعوا حديثي هذا بالأمس يتصورون أن ذلك يعني أن الغرب بطغيانه قد تغلب أو سيتغلب على دين الله سبحانه وتعالى، وأن الإسلام قد أصبح مهزوماً في حلبة هذا الصراع القائم المهتاج بين الغرب وبين الأمة العربية والإسلامية. هذا التصور إن تسرب إلى بال أيٍ منكم خطأٌ كبير، ووهم خطير، ما ينبغي أن يستقر في ذهن إنسانٍ مسلمٍ قط.

لو كانت هذه الأمة العربية والإسلامية اليوم مظهراً يُجسد حقيقة الإسلام في معتقداتها الجامعة وفي سلوكها وأخلاقياتها، إذاً لكان هذا الاستنتاج في محله. ولكن ينبغي أن نعلم كما قد قلت بالأمس أن هذه الأمة العربية والإسلامية اليوم لم تعد مظهراً للإسلام الحق لا في معتقداتها الجامعة ولا في سلوكاتها المتفقة مع دين الله سبحانه وتعالى وآدابه وشرعه. غلبة الغرب إذاً على واقع هذه الأمة وليست على الإسلام الذي لا وجود له في هذا الصراع قط. هذا ما ينبغي أن يعلمه كل واحد منكم.

إن الغرب اليوم إنما يصول ويجول في حلبة هذا الصراع وينتشي بانتصاراته المتلاحقة بسبب أن المسلمين قد تجردوا عن إسلامهم الحقيقي فلم تبقى له فاعلية في حياتهم. لو كان للإسلام سلطانٌ حقيقيٌ في حياتهم إذاً لاتحدوا، لأن الإسلام من شأنه أن يوحد المسلمين أينما كانوا وفي أي عصر عاشوا، لو كان للإسلام سلطانٌ مهيمنٌ على حياتهم إذاً لتفجرت في كيانهم القوة من الجهات كلها، لأن الإسلام حيثما وجد وجدت فيه القوة ووجدت فيه العزة والمنعة، ولكن الإسلام لما انحسر سلطانه - وأقول سلطانه ولا أقول انتماؤه - عن هذه الأمة، تبددت هذه الأمة وتفرقت أوزاعاً إلى فئاتٍ متدابرةٍ شتى، ذلك لأن المحور الجاذب لم يعد له وجودٌ مهيمنٌ فيما بينهم، ومن ثم فإن قوتهم آلت إلى ضعف وعزتهم آلت إلى ذل. في هذه الساحة صال العدو وجال، في هذه الساحة يتغلب الغرب.

أما الإسلام .. ترى هل إذا انتصر الغرب على هذه الأمة التي ودّعت إسلامها إلا فيما يتعلق بانتماءاتٍ تقليدية في أكثر الأحيان، هل إذا ودعت هذه الأمة إسلامها وانحسر سلطان الإسلام عنها .. هل معنى ذلك أن الإسلام دفن في الغياهب فوق هذه الأرض؟ وأن الإسلام لم يعد له وجود في عالمنا المعاصر اليوم؟

هل معنى هذا أن الأمة التي شرفها الله بالإسلام هي العرب فقط؟ فإما أن يكون العرب هم الحملة للواء الإسلام؛ إذاً يعز الإسلام بهم ويعزون به، وإما أن يترك هؤلاء الناس الإسلام فتيتم الإسلام ولا يبقى له أحدٌ يرثه؟ هل هذا هو ما قرأتموه في كتاب الله عز وجل؟

أهذا هو معنى قول الله سبحانه: "وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم"؟

أهذا هو معنى قوله عز وجل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ"؟ ما ينبغي أن يخطر هذا ببال أحدٍ أيها الإخوة.

إن الغرب في صولته هذه وفي طغيانه هذا، بل في تغلبه الذي نراه، لا يتغلب أبداً بسبب قوة خارقة يتمتع بها، وإنما يتغلب بسبب ضعفٍ خارقٍ آل إليه حال هذه الأمة، فلتعلموا هذه الحقيقة.

الغرب مهما بلغ في شدته ومهما استشرى في قوته، لن يبلغ إلى القوة التي بلغتها أمم من قبل. إلام آل حالهم؟! انظروا إلى كلام الله عن هذه الحقيقة: "أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا". وكم وكم يتكرر هذا المعنى في كتاب الله عز وجل: " أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً". صدق الله .. وتلك هي آثار تلك الأمم التي يتحدث عنها بيان الله عز وجل لا تزال قائمة، ولا تزال تقنيات العصر الحديث جاهلةً حيرى أمام تلك الظاهرة الحضارية التي لا تزال أطلالها باقيةً إلى اليوم. فماذا كانت عاقبة أولئك الأشداء؟ رحلوا وآل أمرهم إلى هباء تحت سلطان الله سبحانه وتعالى.

أولم تقرأوا قول الله عز وجل: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ" كل شيء ولم تتفتح أبواب كل شيء أمام الغرب اليوم كما تفتحت أبواب كل شيء للأمم سابقةٍ خلت من قبل،"فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ".

أجل أيها الإخوة الغرب، عندما يتغلب بطغيانه على هذه الأمة إياكم أن تتصورا إنما يتغلب بقوته الخارقة علينا، وإنما هو يتغلب بالضعف الخارق الذي حاق بنا بعد أن تجردنا عن دين الله سبحانه وتعالى. أما الإسلام فلإن تقلصت أشعة شمسه عن هذه المنطقة فلسوف تسري هذه الأشعة ذاتها إلى مكانٍ آخر في عالم الغرب، وانظروا ولاحظوا حركة التاريخ، أليس الغرب يتربص بالإسلام؟ أليس الغرب هو الذي يضع الخطط للكيد بالإسلام في بلاد الإسلام هذه؟ والله لسوف يتفجر الإسلام تحت أقدام الذين يتربصون به سوءً، هؤلاء الذين يتربصون بالإسلام المكائد ويرسلون الخطط من هناك إلى هنا، وينظرون بمناظيرهم الدقيقة المدققة إلى مآل الإسلام هنا، لسوف يفاجئون بأن خطر الإسلام قد تفجر فيما بينهم، أجل وتلك هي سنة رب العالمين سبحانه وتعالى في عباده.

لأن كان واقعنا يبعث اليأس، فهذا ما ينبغي أن يبعث يأساً في قلوبنا اتجاه الإسلام لا، سيبلغ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار هذا كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق.

ولعل فيكم من يقول: لماذا تتصور أن الإسلام قد خبى نوره وتقلص سلطانه عن المسلمين، وها هو ذا شهر رمضان قد جدد الآمال بين جوانحنا، ها هي ذي المساجد تأبى إلا أن تكون شاهدةً على إقبال الإسلام، ها هي ذي الفئات التي كانت تزحف إلى المساجد قائمةً مصليةً راكعةً ساجدةً، كل ذلك دليل على أن الإسلام في بلادنا الإسلامية بخير، أجل الإسلام بخير هذه حقيقة. أما أن الإسلام له سلطانه المهيمن على هذه الأمة فذلك شيء آخر.

أريد أن تلاحظوا ما قد لاحظت وألاحظ أيها الإخوة، هل حاولتم أن تتعقبوا هذه الحشود التي كانت تفيض بها المساجد من أي طبقةٍ كانت، إذا كانت هذه الحشود تمثل الطبقات كلها فالآمال قوية، ولكن لو عدتم بذاكرتكم وتأملتم في تلك الحشود لرأيتم أنها من طبقة واحدة أو من طبقتين اثنتين فقط، أما الفئات الأخرى فقد كانت غائبة وكانت لها سهراتها الأخرى.

قلت مرةً: إنني عندما أنظر فأجد الصورة التالية يفيض بقلبي الأمل عندما أجد الأغنياء المترفين المترفين الذين أكرمهم الله بالغنى الكبير والكبير يتصدرون صفوف المساجد؛ ركعاً سجداً قد استدبروا تجاراتهم، ونفضوا أفكارهم وأيديهم عن دنياهم، وانتشوا بهذا القيام وبهذه الركعات وبتلاوة كتاب الله عز وجل، أستطيع أن أرى الآمال قد ازدهرت بين جوانحهم، ولكنكم تعلمون كما أعلم، أن جُل - ولا أقول كل - هؤلاء الذين أكرمهم الله بالمال الوفير، بالغنى الذي كاد أن يخنقهم، هؤلاء كلهم كانوا في غيبوبة عن هذا الذي نعتز به، عن هذا الحشد الكبير الذي كانت تطوف به مساجدنا كلها.

أجل أيها الإخوة ... هنالك أناسٌ كانوا راكعين ساجدين يتلون أو يُصغون إلى كتاب الله عز وجل، وفي أماكن أخرى كانت ثمة سهرات أخرى عامرة، الحديث عن المال، والحديث عن التجارة، والحديث عن الخطط المستقبلية لتنمية المال ومضاعفته، أجل هذه طبقة من الطبقات كانت غائبة، وهنالك طبقات أخرى أيها الإخوة.

أنا كنت ولا أزال أقول: منظران اثنان يبعثان النشوة الغامرة في رأسي، منظر شخصية قيادية كبيرة جداً جداً أجدها واقفةً بين يدي الله عز وجل وقد تجلبب هذا الإنسان برداء العبودية لله على الرغم من شموخه وعلى الرغم من مكانته؛ أجده يتمرغ ساجداً راكعاً متبتلاً بين يدي الله عز وجل، منظرٌ يثير بين جوانحي نشوةً ولا كنشوة الخمر. المظهر الآخر: مظهر إنسانٍ كان بالأمس القريب مسرفاً على نفسه، يلغُ في الدنيا وشهواتها وأهوائها تماماً كما تريده أهواؤه وشهواته له، وأنظر وإذا به قد خلع ثوباً وارتدى ثوباً آخر، وانظر وإذا هو متبتل بين يدي الله يقول: اللهم لبيك وإليك ها أنا عائد إليك.

منظران اثنان يثيران نشوة ما مثلها نشوة، أن تجد إنساناً ذا مكانةً باسقة إن بسبب غنى أو بسبب رتبة أو بسبب قيادة أو سببٍ من الأسباب ... تجد أنه قد حطّم مكانته كلها بين يدي الله عز وجل ووقف صاغراً متبتلاً بين يديه، الدنيا نسيها، التجارة تركها، عندما ننظر فنجد أن إقبال الحشود إلى مساجد الله يتمثل في هذه الفئات والطبقات كلها، فاعلموا أن الآمال قد ازدهرت وهذا سيكون مصداقاً لقول الله عز وجل: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ".

لتمنيت لتمنيت أن أجد خلال هذا الشهر المبارك ثلة من هؤلاء الذين أكرمهم الله وبسط لهم ما بسط من المال الوفير.

لتمنيت لو أن هؤلاء هُرعوا وهم يشكرون الله على بعضٍ من نعمه.

لتمنيت لو أنهم أسدلوا حجاباً لساعات بينهم وبين هذه النعمة التي أكرمهم الله بها وقالوا إن بلسان القال أو لسان الحال: يا رب ها أنا ذا مقبلٌ إليك أكرمتني بالمال الوفير أفلا أقبل إليك بالعبودية الضارعة، أكرمتني بالعطاء، غمرتني بالمنن .. أفلا أسجد أفلا أركع أفلا أبيت الليل قائماً، إذا كان الفقراء يُهرعون إلى بيوت الله عز وجل وقد نسوا غُصص فقرهم أفلا يُهرع إلى بيوت الله هؤلاء الذين يلعبون بالمليارات! الذين يقولون الإسلام بخير عليهم أن يتخيلوا هذا الذي أقول عندما يكون هذا الإقبال إلى بيوت الله سبحانه وتعالى متمثلاً بهذه الفئات كلها فالإسلام بخير.

ومع ذلك فأنا أسأل الله عز وجل أن يجعل إسلامنا مقبلٌ غير مدبر وأن يجعلنا نحن الذين نتشرف بعزة الإسلام وأن لا يجعله ميراثاً لغيرنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي