مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 02/01/1998

معيار للقبول عند الله في هذا الشهر

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

لقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أبرز صفاته الجود، ولقد كان صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في هذا الشهر المبارك، كان كالريح المرسلة. على أنه صلى الله عليه وسلم، كان في كل أوقاته المثل الأعلى للزهد وللتخلي عن المال ونَشَب هذه الحياة، ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليبقي عنده في ليلة واحدة شيئاً مما أفاء الله سبحانه وتعالى عليه من أموال الدنيا حتى يرسلها ويوزعها بين المستحقين. ولكنه صلى الله عليه وسلم مع ذلك كان أكثر ما يكون جوداً بالمال وتوزيعاً له في هذا الشهر المبارك.

وربما تساءل الإنسان عن العلاقة بين شهر رمضان وكثرة الجود بالمال وتوزيعه بين المحتاجين، ما هي العلاقة السارية بين هذا الشهر المبارك وهذه الصفة التي ينبغي أن يتصف بها كل مسلم؟

العلاقة أيها الإخوة واضحة ومعروفة. في شهر رمضان تكثر الطاعات وتتنوع فهنالك طاعة الصوم وهي عبادة فريدة من نوعها، عبادة سلبية مستمرة من الصباح حتى المساء، وهنالك عبادة الصلاة وقيام الليل أي التراويح التي ندبنا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنالك تلاوة القرآن، وأنتم تعلمون الرابطة الوثقى بين شهر رمضان المبارك وبين كتاب الله سبحانه وتعالى: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَان" ففي شهر رمضان يقبل الإنسان على أنواعٍ شتى من الطاعات متنوعة مختلفة وإذا تكاثرت هذه الطاعات في كيانه، أورثته الثمرة الأولى التي نهدف إليها جميعاً من خلال القربات والطاعات التي يأمرنا بها الله عز وجل. فما هي هذه الثمرة؟ إنها ثمرة الإيمان بالله عز وجل زيادة الإيمان بالله، وزيادة الثقة بالله سبحانه وتعالى، وزيادة اليقين بوجود الله سبحانه وتعالى ووحدانيته وبأنه هو الفعال الوحيد في هذا الكون.

ففي شهر رمضان تكثر الطاعات وتتنوع، ومن ثم فإن الإنسان يقطف ثمار هذه الطاعات إن كان مقبلاً إليها بإخلاص، وإن كان سائراً على صراط الله سبحانه وتعالى في هذا الشهر المبارك، وإذا ازداد إيمان الإنسان بالله، وازدادت ثقته بالله، وازداد يقينه بالله سبحانه وتعالى أورثه هذا الإيمان زهداً في الدنيا، أورثه هذا الإيمان ترفعاً فوق زينة هذه الحياة الدنيا؛ هما أمران متلازمان، كل ما ازداد الإنسان يقيناً بالله عز وجل ازداد زهده في هذه الدنيا وازداد إقباله على الله سبحانه وتعالى وإعراضه عن زينة هذه الحياة الدنيا بكل أشكالها وألوانها، وكلما ضعف إيمان الإنسان بالله عز وجل كلما ازداد تعلقاً بالمال. هذه حقيقة واضحة ومعروفة.

والإنسان في هذا الشهر المبارك من خلال الطاعات المتنوعة الكثيرة التي يقبل إليها، لا بد أن يزداد إيماناً بالله، ولابد أن يزداد يقيناً بالله سبحانه وتعالى، فإذا ازداد يقينه بالله فاض قلبه ثقة بالله عز وجل، ومن ثم فإنه يتعلق بالمعطي ولا يتعلق بالمال الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى إياه.

هذا الإنسان من خلال طاعاته وقرباته يزهد في المال كثيراً كان أو قليلاً الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى ومن ثم فهو يوزعه وينثره بين المحتاجين بين عباد الله عز وجل، تلك هي العلاقة بين شهر رمضان المبارك وبين الجود الذي كان يتصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي ينبغي أن يتصف به كل مسلم بل ينبغي أن يزداد اتصافاً به في هذا الشهر المبارك. من أين يأتي الزهد؟

الزهد لا يأتي من طبعٍ موروثٍ عند الإنسان وإنما يأتي من يقينه بأن الله هو المعطي وهو الذي يخلف وهو الذي يعوض، فكلما ازداد يقينك بأن الله سبحانه وتعالى سيعطيك بدلاً مما أنفقت، كلما ازداد إيمانك بهذا ازددت زهداً بالمال الذي تحت يديك. وهذا معنى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ليست الزهادة في تحريم الحلال ولا في إضاعة المال، ولكن الزهادة أن تكون بما في يد الله أوثق مما في يدك".

الزهد أن تكون واثقاً بأن لك مالاً كبيراً وكثيراً عند الله وأن تكون متعلقاً بذلك لا بالمال الذي جمعته في درجك أو صندوقك أو جيبك. من أين يأتي هذا الزهد؟

يأتي هذا الزهد من كثرة الإقبال على الله من كثرة العبادة من كثرة الطاعة ... ومن ثم فإذا أراد أحدنا أن يتساءل هل قبل الله عز وجل منه عباداته في هذا الشهر؟ هل هو مقبلٌ إلى الله بصدق ومن ثم فإن الله عز وجل يقبل منه طاعاته وعباداته؟ لك على هذا دليل واحد لا ثاني له، إن رأيت أن الشح الذي تتصف به تناقص وأن السخاء الذي أمرك الله عز وجل به تزايد، وإن رأيت أنك زهدت بالدنيا وما فيها وتعلقت بالله وبما عند الله، فاعلم أن طاعاتك مقبولة، واعلم أن صيامك مقبول، واعلم أن قيامك مقبول ... لأن ذلك كله زاد الإيمان الذي بين جوانحك، ومن ثم فقد تعلقت بالله عز وجل بدلاً من أن تتعلق بالمال الذي بين يديك. أما إن رأيت أن عباداتك وأن صومك وأن قيامك في المسجد لم يزدك إلا تكالباً على المال وشحاً به، فاعلم أن هنالك زغلاً قد داخل طاعاتك وعباداتك.

لا يمكن للإيمان إلا أن تكون له شواهد وبراهين وقد قال حارثة ذات يوم وقد سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أصبحت يا حارثة"؟ قال أصبحت مؤمناً حقاً، قال له رسول الله: "ويحك إن لكل شيء حقيقة" أي دليلاً "فما حقيقة إيمانك؟" قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأظمأت نهاري وقمت ليلي، وكأني بعرش ربي بارزة، وكأني بأهل الجنة ينعمون فيها وكأني بأهل النار يتعاوون فيها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبصرت فالزم". هذا البرهان لابد أن نستبينه جميعاً بين جوانحنا عندما نقول: إننا مؤمنون بالله سبحانه وتعالى.

ومهما كان الإنسان بعيداً عن السخاء، ومهما كان الإنسان متكالباً على المال، فينبغي أن تنعكس الآية في هذا الشهر المبارك. ينبغي إذا كان الإنسان مقبلاً إلى الله حقاً أن يزداد سخاء وأن يتحرر من شحه ومن تكالبه على المال؛ لا لأننا لا نحب المال لا بل الله عز وجل يقول عن الإنسان: "وإنه لحب الخير لشديد". ولكن الإنسان الذي يحب المال عندما يكون حصيفاً يتعلق بالمنبع الذي يأتي منه المال، ولا يتعلق بالفروع التي ظهرت فيها الأموال والمنبع الذي يأتي منه المال من هو أو ما هو؟ هو الله سبحانه وتعالى. كل مؤمن يعلم هذه الحقيقة. ألم يقل الله عز وجل: "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ".

فالإنسان الذي يحب المال وهو مؤمن بالله ينبغي أن يتعلق قلبه بمعين المال، والمصدر الذي يأتي منه المال، وإنما المصدر الذي يأتي منه المال هو الله سبحانه وتعالى، يعلم كل عاقل هذه الحقيقة عندما يكون مؤمناً بالله سبحانه وتعالى ومؤمناً بأنه هو الذي يقول هذا الكلام لعباده.

فيا عباد الله راجعوا مقياس قبول الله لعباداتكم متمثلاً في هذا الذي أقوله لكم. إن رأيتم أن الشح قد تحررتم منه، وأنكم قد اتجهتم إلى مزيدٍ من السخاء والجود كما كان عليه حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهنأوا بأن الله قد قبل طاعاتكم وأن هذه العبادة قد أثمرت مزيداً من الإيمان بالله، ومزيداً من الثقة بما عند الله سبحانه وتعالى، وبما يعد الله سبحانه وتعالى به عباده، وما أظن إلا أننا جميعاً نطرق باب القبول بطاعاتنا وعباداتنا.

كونوا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجردوا عن الشح، وأنفقوا ما أكرمكم الله به من مال، إن كان قليلاً فاستزيدوه بالنفقة، وإن كان كثيراً فاشكروا الله سبحانه وتعالى بهذه النفقة.

ولقد كانت عائشة رضي الله تعالى عنها إذا وجدت أن رزقها قد ضاق، وأن المال قد قل بين يديها استقدمت المزيد من المال بالنفقة، كانت تنفق القليل الموجود لديها لتطرق بذلك باب كرم الله سبحانه وتعالى، وأنتم تعلمون أن الله جعل هذه الدنيا دار ابتلاء؛ ابتلى الغني في هذه الدار بالفقير، وابتلى الفقير بالغني، ثم إن الله عز وجل كلف الفقير أن يعف وكلف الغني أن يعطي وأن يكرم.

وما من إنسان إلا وفيه هاتان الصفتان الغنى والفقر، ذلك لأن الأمر نسبي كل من نراه فقيراً هو غني بالنسبة لما دونه، وكل من كان غنياً كان فقيراً بالنسبة لمن كان فوقه، ثم إن الناس جميعا ًإذا نظرت إليهم نظرة كلية، كلهم فقراء، ذلك لأن أحداً منهم لا يملك شيئاً، وإنما هي وديعة استودع الله سبحانه وتعالى أمواله بين عباده. إذاً فكل إنسانٍ مدعوٌ إلى أن يكون كريماً في هذا الشهر، الفقر نسبي والغنى نسبي.

وما من إنسان من الذين آمنوا بالله عز وجل وشرفهم الله بهذا الشهر المبارك وأقبل إلى الله سبحانه وتعالى صائماً قائماً قارئاً كتاب الله عز وجل إلا ومن شأنه أن يلتفت إلى من حوله، وأن يبحث وأن ينبش عن الفقراء، ولا سيما أولئك الأعفاء أولئك الذين اتصفوا بكلام الله سبحانه وتعالى: "لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ".

على كل مسلم أن يبحث عمن حوله من هؤلاء الفقراء وأن يعطيهم من ذات يده، وأن يكرمهم سواء بالمال الذي فرضه الله عليه زكاةً أو بما وراء ذلك من الصدقات والمبرات، وأنا أقولها حقيقة لا ريب فيها والله لا يجرب بل ينبغي أن نثق بسنته وأن نثق بوعده: ما من إنسان حاول أن يستجر المال بواسطة النفقة يقصد بها وجه الله سبحانه وتعالى إلا أكرمه الله سبحانه وتعالى بأضعاف ما أنفق. هذه حقيقة لا ريب فيها ولا شك فيها وهل يمكن أن يساورنا شك في كلام الله عز وجل القائل: "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا

تحميل



تشغيل

صوتي