مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 26/12/1997

الحوار .. هو رأس مال الجهاد

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

روى ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي في سننه من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يومٍ من شعبان فقال: (أيها الناس قد أظلكم شهرٌ عظيمٌ مبارك، شهرٌ فيه ليلة خير من ألف شهر، شهرٌ جعل الله سبحانه وتعالى صيامه فريضةً وقيامه تطوعاً، فمن صام نهاره وقام ليله احتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) والحديث طويل وفيه الكثير مما ينبه إلى فضائل هذا الشهر المبارك الذي أنتم مقبلون إليه.

ولقد صح أن مراد المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: (من قام ليله) أي من شهد صلاة التراويح في كل عشيةٍ من ليالي هذا الشهر المبارك. ولقد كانت تُسمى صلاة التراويح هذه القيام، وليس المراد بذلك أن يقوم الليل من المساء إلى الفجر، وهذه صورةٌ من الصور التي لا تحصى لرحمة الله سبحانه وتعالى وكرمه وفضله.

فمن صام هذا الشهر محتسباً لله سبحانه وتعالى، ومن لازم القيام بما قد ندبنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة الليل في هذا الشهر المبارك، فقد حقت له الرحمة التي وعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن الله عز وجل يغفر له ما تقدم من ذنبه أجمع.

والمأمول من كل واحدٍ منا ومن سائر الذين آمنوا بوجود الله سبحانه وتعالى، وآمنوا بأن القرآن كلامه، وبأن محمداً صلى الله عليه وسلم نبيه ورسوله، أن يعود مع دخول هذا الشهر المبارك إلى رحاب الله سبحانه وتعالى فيتطهر من أوزاره وسيئاته، ويعاهد الله سبحانه وتعالى على توبةٍ نصوح، وأن يستقيم على الرشد، وما أظن أن إنساناً يُقبل على الله سبحانه وتعالى بهذا القصد خالياً قلبه من الشوائب إلا ويجد أنه مقبولٌ عند الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى يتقبل التوبة من عباده ويغفر السيئات.

ومن أعظم القربات التي ينبغي أن يتقرب بها الإنسان إلى الله في هذا الشهر بعد التوبة النصوح التي ينبغي أن يستعين فيها بالله عز وجل وبعد أن يعاهد الله سبحانه وتعالى على الاستقامة، لا شك أن من أعظم القربات أن يلقى إخوانه الشاردين والتائهين عن صراط الله سبحانه وتعالى بالتذكرة والحوار.

ودين الله سبحانه وتعالى قائمٌ على دعامتين اثنتين:

الأولى: أن يصلح الإنسان من نفسه وأن يراقب ذاته.

والثانية: أن يهتم بإخوانه وأن يكون لساناً داعياً إلى الله سبحانه وتعالى بالتذكرة والموعظة الحسنة.

وليست هذه المهمة مقصورة على طائفةٍ من الناس أو طبقة منهم كما قد يخيل إلى كثير من الناس اليوم. كتلك التي تسمى برجال الدين ونحوها، وهي كلمةٌ زائفة باطلة لا وجود لها في قاموس الإسلام ولا وجود لها في تاريخ الإسلام في يوم من أيامه قط، فكل مسلم صدق مع الله عز وجل رجل دين، وكل إنسان عاهد الله عز وجل أن يكون صادقاً في التزامه بأوامر الله سبحانه وتعالى فقد تحول إلى موظف عند مولاه وخالقه سبحانه وتعالى؛ يراقب نفسه أن لا يشذ وينحرف. يراقب إخوانه يهديهم إلى سواء صراط الله بالتذكرة والموعظة الحسنة وبالحوار الذي هو رأس مال كل إنسانٍ مؤمنٍ يريد أن يخدم دين الله عز وجل، وأن يكون دلّالاً على بضاعة الله سبحانه وتعالى التي شرفنا بها في هذه الحياة الدنيا.

هي مهمة كل مسلم ومسلمة، ولكن جهد استطاعته وبالقدر الذي يستطيع أن يتصرف.

وأقل ما ينبغي أن يعرفه كل مسلم أنه مسؤولٌ عن أهله، مسؤول عن محاورة أهله وأولاده ومن يحيط به أولئك الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاصة عندما قال: (فعليك بخاصة نفسك) كل مسلمٍ مكلفٌ على أقل التقادير مهما قلت بضاعته العلمية من دين الله عز وجل مكلف بهذا.

فإذا وفق الإنسان لأن يملئ هذا الشهر المبارك بالرجوع إلى ذاته يقومها، ويسلك بها سبيل الهداية والرشد ثم إلى إخوانه يحاورهم ويتذاكر معهم ويحاول أن يجذبهم ويشدهم إلى صراط الله سبحانه وتعالى، فما أعلم أن عملاً مبروراً يتقرب به الإنسان إلى الله خيراً من هذا قط، لا سيما في هذا الشهر المبارك.

أيها الإخوة رأس مال الجهاد الذي شرفنا الله به هو الحوار، هو محاورة المسلم المؤمن بربه الذي فاض قلبه يقيناً بالله عز وجل لأولئك المرتابين ولأولئك الذين تطوف بأذهانهم الشكوك والريب أو لأولئك الذين تغلبت عليهم نفوسهم، الحوار هو بوابة كل أنواع الجهاد. وما انبثقت الأنواع الأخرى بعد ذلك كالجهاد القتالي ونحوه إلا بعد المرور بهذه البوابة العظمى.

الحوار .. محاورة التائهين والملحدين والضالين والشاردين عن صراط الله سبحانه وتعالى، واليوم وقد أصبحت كلمة الحوار هذه بحمد الله رائجة، وأصبحت هي الورقة التي يمسك بها المسلم المعتز بإسلامه يدعو سائر الشاردين والتائهين إلى الحوار، لا يلزمهم ولا يسوقهم ولا يكرههم ولا يجبرهم عندما يجبر الناس وعندما يُكره الآخرون وعندما يسوق الآخرون فئات الناس إلى السبل التي يشاؤون. فإن المسلم انطلاقاً من إسلامه لا يدعو إلى شيءٍ من هذا، وإنما يدعو إلى المحاورة، وعندما نقول يدعو إلى المحاورة فلا شك أن رأس مال المحاور إنما هو العلم وإلا فكيف ينجح المحاور إن لم يعتمد على العلم.

وأنتم تعلمون أن بيان الله سبحانه وتعالى إنما يطوف حول حقائق العلم والمنطق، ويهيب بالإنسان أن يلتزم بمبادئ العلم ثم يسلك السبل التي يشاؤها. أليس هذا هو معنى قول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْم إِنَّ السَّمْع وَالْبَصَر وَالْفُؤَاد كُلّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).

وإني لأنظر فأجد - بحمد الله سبحانه وتعالى - أن الذين يظهرون على مسرح الدعوة إلى الحوار في هذا العصر أعزةً يطالبون الآخرين إلى ساحة الحوار وإلى محاريب المذاكرة العلمية، أنظر فأجد أنهم المسلمون الواثقون من حقائق الإسلام المطمئنون إلى أنهم يقفون على أرضٍ صلبة من الحقيقة العلمية الراسخة، وأتأمل في حال الآخرين الذين يعيشون في دروب الظلام والذين يختبؤون في جحور الجهالة التي تتقنع بالعلم، أجد أنهم هم الذين يفرون من الحوار هم الذين يفرون من هذه اللقاءات، ذلك لأنهم يعلمون أن الحوار إذا وقف على مستوىً حقيقيٍ راسخ، فلا بد أن تكون العاقبة للحوار القائم على العلم والمنطق.

وقد ثبت ثبوتاً لا ريب فيه أن الإسلام هو الذي ينهض على دعامتين العلم والمنطق، ومع ذلك فإن كل فئات الناس في هذا العصر لا تستطيع أن تتجاهل أهمية الحوار وقدسيته، وهذا هو الموقف المحرج للتائهين عن صراط الله عز وجل. من ذا الذي يستطيع أن يقول: لا .. أنا لا أؤمن بالحوار بل يجب أن أفر من الحوار، إن الذي يقول هذا إنما يعترف بأنه يفر من العلم، ويفر من المنطق، وأمامنا عِبر وما أكثر العبر التي تخدم دين الله سبحانه وتعالى في هذا العصر أيها الإخوة.

هنالك أقنية تلفزيونية فضائية عربية ولا أتحدث عن الأجنبية تتكاثر، وكلها يتسابق بالظاهر للدعوة إلى الحوار، ذلك لأنه الشيء الذي يتطلع إليه عقول الناس جميعاً الذين يريدون أن يعرفوا الحق، ولكننا ننظر فنجد أن هنالك من يريد أن يتجمل بالحوار ولكنه يريد في الوقت ذاته أن يفر من الحقائق التي تكمن داخل الحوار. يريد أن يتجمل بالحوار مظهراً من المظاهر، وفي الوقت ذاته لا يريد أن يأسر نفسه للنتائج العلمية التي يوصل إليها الحوار.

قناةٌ من هذه الأقنية التلفزيونية في الخليج تعلن عن منهاج تتفاخر به جعلت عنوانه، الرأي والرأي المعاكس، وتحاول أن تعلن بأنها تحاور وأنها تدعو الناس إلى الحوار ليستبين من خلال الحوار الحق من الباطل، وهذا شيء رائع. ولكن انظروا إلى الخداع .. انظروا إلى الذين يسيل لعابهم على ألق الحوار ليتجملوا به ثم يفرون من نتائج الحوار كي لا يحرجوا أنفسهم بالإسلام لدين الله سبحانه وتعالى. ماذا تصنع هذه القناة؟ تستقدم إنساناً أوتي لساناً لسناً، أوتي قدرة على المنطق، أوتي قدرة على التفلسف وعلى التلاعب بالألفاظ باسم العلم، أوتي مكنة من هذا كله؛ يتبنى الشرود عن دين الله، يتبنى الدعوة المعاكسة للإسلام ثم تبحث هذه القناة عن إنسانٍ ملتزم يدعو إلى دين الله لكن شريطة أن يكون محدود العلم محدود القدرات، لا يملك شيئاً من القدرة المنطقية والكلامية والفلسفية التي يتمتع بها ذلك الثاني، تلح على هذا الاختيار اللامتكافئ، ثم تستقدم طرفين زاعمةً إلى أنها تدعو إلى حوار، وزاعمة إلى أنها تخضع للعلم. والنتيجةُ واضحة لكل ذي عينٍ باصرة ولكل ذي فكر متدبر.

النتيجة أن ألق الكلام العلمي وأن مظهر الدجل المنطقي يكون في جانب ذلك الإنسان الشارد عن دين الله الثائر على أوامر الله سبحانه وتعالى، أما الآخر الذي اُنتقي بشرط أن يكون محدود المعارف والعلوم سطحي الكلام النظري والفكري فلا شك أن القدرة تخونه، ولا يستطيع أن يبرز الحق الذي يؤمن به، ومن ثم فإن النتيجة ستكون كما قد خطط لها.

وليست العبرة هنا، إنما العبرة في أن أمتنا لا تُخدع وأنها عالمنا مليءٌ بالمثقفين الذين يدركون الأكمة، ويدركون ما وراءها، يدركون المظاهر المدجلة والخطط الكاذبة من وراء ذلك.

أرسل كثيرون إلى القائمين على تلك القناة الخليجية يفضحون عملهم هذا، ويضعونهم أمام أسماء لأناسٍ هم القادرون على أن يقفوا في وجه هؤلاء الشاردين عن دين الله، إذا أريد الاستعانة بالفلسفة فهنالك من يتكلم بالفلسفة من الملتزمين، وإذا أريد المنطق أو التاريخ أو التاريخ الطبيعي أو النظريات العلمية الجديدة فهنالك من يملك هذا الزمام. لماذا لا تدعون أولئك الذين يتسمون بالإسلام والالتزام وقد أغناهم الله سبحانه وتعالى بهذه القدرات. أرسل كثيرٌ من لا أقول الملتزمين إنما من العقلاء المثقفين إلى القائمين على تلك القناة الخليجية يمزقون هذه الخدعة الدجالة المدجلة ويطالبونهم إن كانوا فعلاً هم أهلٌ للحوار وممن يقدسون الحوار يطالبونهم بأن يأتوا بالكفأين، يطالبونهم بأن يحققوا آداب الحوار وشروطه، وأرسلت إليهم هذه الإنتقادات وهذه المذكرات فماذا كانت النتيجة؟

كانت النتيجة الصمت، الصمت المطبق بل كانت النتيجة الفرار من الحوار الحقيقي واللجوء إلى الحوار المزيف. هذه العبرة ماذا نفهم منها أيها الإخوة؟

نفهم منها أن اللذين يفرون من دين الله عز وجل بأي اسم من الأسماء إنما يفرون من العلم، إنما يفرون من المنطق، إنما يفرون من العقلانية الحقيقية التي هي رأس مال الإنسان والتي هي شرف رأسه وفكره. هذه هي العبرة التي نخرج بها والتي نتمسك بها، وهذه العبرة هي التي تجعل المسلم يزداد شموخاً بإسلامه ويزداد بصيرةً بدينه ويزداد يقيناً بأنه بمقدار ما يتمسك بحبل الله يتمسك بالعلم بكل معانيه وبكل حقائقه.

الحوار الحوار الذي يدلل عليه المدجلون نحن أربابه والديمقراطية التي تعني حقيقةً الشورى، وتعني حقيقةً تعظيم رأي الإنسان واحترام فكره ورغباته، نحن أرباب ذلك أجل. أما الآخرون الذين يحاربون دين الله عز وجل والذين يمارسون عمالةً ذليلةً لأولئك الذين يحاولون أن يقودوا العالم كله إلى الخراب والدمار باسم الحضارة، هؤلاء أبعد ما يكونون عن الديمقراطية الحقيقية كما يدجل أناسٌ على الحوار ويزيفونه فأولئك يدجلون على الديمقراطية ويزيفونها.

ديننا .. الدين الإسلامي العظيم لا يترعرع إلا في مجال الحرية، بمقدار ما تشرق شمس الحرية على العالم يشرق شمس الإسلام، وبمقدار ما تسود الديمقراطية الحقيقية الحقيقية التي لا تترجمها إلا الشورى بمقدار ما يترعرع الإسلام وينمو دين الله سبحانه وتعالى.

كل هذا الذي أقوله أيها الإخوة عبر تلو عبر تلو عبر تُبين أن دين الله سبحانه وتعالى الذي هو الإسلام يقوم على دعامة العلم ولا شيء إلا العلم، يقوم على دعامة المنطق ولا شيء إلا المنطق بكل معاني العلم والمنطق، كل هذا يدل على أننا عندما نُدعى إلى حوار فنحن السابقون إليه، وعندما ندعى إلى الديمقراطية الحقيقية فنحن الذين نسوق الناس كلهم إلى الديمقراطية ونحارب الاستبداد الفكري، وكل هذا دليل على أن الآخرين الذين يشردون عن دين الله باسم العلم إنما يشردون عن العلم، إنما يشردون عن المنطق، هم يدجلون على الناس باسم العلم وباسم المنطق، ومع ذلك فإننا نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولهم جميعاً الهداية، ولا نقول هذا إلا شفقةً على الشاردين، وشكراً لله سبحانه وتعالى أن وفق المستقيمين على صراطه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي