مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 12/12/1997

تذكير لليائسين (إن لهذا الدين إقبالاً وإدباراً)

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

إن الآفات والمصائب التي قد تتسرب عن طريق الشيطان ووساوسه إلى فكر الإنسان المؤمن وعقله كثيرة ومتنوعة، ولكن من أخطر هذه الوساوس التي تتسرب كثيراً ما إلى عقل الإنسان وفكره عن طريق الشيطان سواء كان شيطان إنس أو جن. من أخطر هذه الوساوس التي قد تتحكم في العقل: اليأس والقنوت من كرم الله سبحانه وتعالى ووعده وعطائه.

وكثيرون هم الذين لا يتنبهون إلى هذه الآفة الكبرى التي من شأنها أن تزعزع العقيدة الإيمانية بالله عز وجل من حيث لا يشعر صاحبها. والله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه: "إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" وهذه الآية تعني معاني شتى، ولكن في مقدمة ما تعنيه هذه الآفة التي نتحدث عنها.

كثيرون هم الناس لا سيما الشباب الذين يطمحون إلى أن يروا المجتمع من حولهم مجتمعاً خاضعاً لدين الله مصطبغاً بأحكام الله سبحانه وتعالى، ولكنهم بدلاً من أن يروا ما يروق لهم من ذلك يروا نقيض هذا، ويروا ألواناً كثيرة من العبث تمتد إلى دين الله سبحانه وتعالى، ورأوا خططاً لا حصر لها من المكر والبغي تتجه للوقيعة في حياة المسلمين وتمزيق دينهم، وينظر إلى العالم المحيط بالعالم الإسلامي فيجده كله متألباً على الإسلام والمسلمين، يلتفت يميناً وشمالاً وينظر إلى الواقع الذي يعيش فيه فلا يرى إلا ما يكيد للإسلام، ولايرى إلا خططاً تتربص بالإسلام فتتسرب إلى قلبه أو إلى عقله من جراء ذلك اليأس والقنوت، ويهيمن عليه هذا التصور، وربما حدّث نفسه أنّ الإسلام قد أدبر ولن يُقبل بعد اليوم، وأنه لا فائدة قط في أن يسعى الإنسان بأي وسيلة من الوسائل لاستعادة سلطان الإسلام وحكمه وهيمنته.

هذه المصيبة التي تتسرب إلى عقل هؤلاء الناس من المسلمين دون شعورٍ منهم، أخطر من هذه المصائب كلها التي تطوف بالعالم الإسلامي. ليس هنالك أخطر من أن ييأس الإنسان من مولاه وخالقه سبحانه وتعالى، هذا اليأس يتسرب إلى مكمن العقيدة ومن شأنه بعد حين أن يزلزل إيمان المؤمن بالله سبحانه وتعالى، وأن ينسف ثقة هذا الإنسان بمولاه وخالقه سبحانه وتعالى.

ولعل فينا من يقول فما العلاج؟ أليس معذوراً هذا الذي ينظر إلى واقعه الذي يعيش فيه، ويلتفت إلى العالم المحيط بالعالم الإسلامي وينظر إلى كثيرٍ من المسلمين أنفسهم فلا يجد إلا المعاول التي تنحط تهديماً في دين الله عز وجل، ولا يجد إلا وسائل العبث بدين الله عز وجل إن في عقائده وقيمه، وإن في أخلاقياته، وإن في أحكامه وسلوكه.

أليس معذورا ًهذا الذي يرى هذا الواقع الذي يُحيط به؟ وما العلاج الذي يمكن أن يُخرجه من جو هذا اليأس؟

العلاج موجود وماثلٌ في كتاب الله سبحانه وتعالى، ومن قرأ كتاب الله سبحانه وتعالى بتدبر أدرك أن المؤمن لا يمكن أن يتسرب إلى فؤاده يأس بوعد الله سبحانه وتعالى وكرمه، ولا يمكن أن يتصور أن هذا الدين قد تقلص وجوده وفاعليته وأنه لن يعود مرة ثانيةً لألقه ولحكمه ولهيمنته، لا بل سيجد في كتاب الله عز وجل وفي كلام رسوله ما يؤيد أن هذا الدين سيبقى، له سلطانه وله أثره إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن للدين إقبالاً وإدباراً كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهما رأيت نفسك في حالة من إدبار الدين فلتعلم أن مع هذا الإدبار إقبالاً، وأن من وراءه إقبالاً. واذكر قول الله سبحانه وتعالى: "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً".

آياتان ما أعلم أن في كتاب الله آيتين تكررتا دون فاصل إلا هاتين الآيتين: "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً" وما أتصور أن هذا التأكيد جاء إلا ليعالج اليأس الذي قد يتسرب إلى فؤاد الناس لسبب من الأسباب.

أما أن هنالك كيداً كبيراً يتربص بالإسلام والمسلمين فإن هذا مالا نرتاب فيه، بل هذا ما نذكره دائماً ونحذر منه دائما.

وأما أن في المسلمين أنفسهم من تبرموا بإسلامهم ومن أقاموا أنفسهم خدماً وعملاء صغاراً أذلاء لأعداء هذا الدين، فهذا أيضاً شيئاً معروف وشيء نراه جميعاً.

وأما أن هنالك أعداءً قد تسللوا إلينا وتربعوا على أرائك من حقوقنا وأراضينا وأوطاننا ثم تفرغوا للكيد لدين الله سبحانه وتعالى من الداخل إلى جانب أولئك الذين يكيدون له من الخارج، فهذا أيضاً مما لا نرتاب فيه ومما نراه أمام أبصارنا وبصائرنا.

ولكن مهما كثر هذا الكيد، ومهما كثرت الخطط، ومهما كثرت عداوة المعتدين وعبث العابثين فإن دين الله سبحانه وتعالى لن يُقضى عليه، ولسوف يبقى مهيمنا، وما ظاهرة التقلص التي نراها أمامنا أو من حولنا إلا ما يشبه التكتيك الذي يذكرنا بمعنى المد والجزر. والمد والجزر أمران مرتبطان دائماً، مدٌ مع الجزر، وجزرٌ مع المد، وما ينبغي أن تنظر إلى واحد منهما بمعزلٍ عن الآخر.

فلإن رأيت للإسلام جزراً في منطقة ٍأو بلدةٍ أو في مكان ما، فاعلم أن له مداً في مكان آخر. وإذا رأيت أن فاعلية الإسلام قد تقلصت في مكان ما فاعلم أن فاعليته قد ازدادت وهيمنت في مكان آخر. عرف هذا من عرف وجهله من جهل.

فإن لم يستطع هذا الذي أقول أن يزيل الوساوس الشيطانية من فكرك، وأن يُطهر عقلك من اليأس الذي قد يتسرب إليه، فانظر إلى الماضي انظر إلى تاريخ الإسلام والمسلمين من قبل، كانت المكائد موجودة، وكانت الخطط العدوانية موجودة وفي فترات من الزمن كانت أكثر منها اليوم، ومرت فترات وعهود ظن بها بعض الجاهلين أن الإسلام قد قُضي عليه، وأنه قد اختنق، وأن الصليبية قد هيمنت على العالم الإسلامي والعالم العربي، وأن على المسلمين بل على العرب أن يودعوا لغتهم التي كانت لغة القرآن، وعليهم أن يودعوا المبدأ الذي أعزهم حقبة من الزمن، وجد جُهّال تصوروا هذا فماذا كانت النتيجة بعد ذلك؟

عاد الإسلام يُهيمن على هذه الربوع كلها، وعادت لغة الإسلام تعلن عن نفسها فوق أرفع وأعلى ذروة من ذرى هذا العالم العربي والإسلامي، وعاد سلطان الإسلام مهيمناً، وتقلصت ظلال البغي، وتقلصت ظلال العدوان، وطهر العالم الإسلامي والعالم العربي من كل بغي وحقد، وما أتصور أن تلك السلسلة من العدوات والمكائد كانت أقل منها اليوم، بل كانت أكثر بل كانت أكثر بكثير ... ومع ذلك فإن دين الله سبحانه وتعالى عاد ليكون هو المهيمن، وخاب كل باغٍ وكل معتد وكل مخطط للكيد ضد دين الله سبحانه وتعالى.

وهذا المثل الذي أذكر به تكرر تكرر كثيراً وشهد المسلمون حالات من المد والجزر ولكن الله سبحانه وتعالى في كل وقتٍ كان يُذكر عباده بقوله عز وجل " إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ " وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ".

أيها الإخوة مهما كثر البغي ومهما كثرت الخطط العدوانية التي تستهدف دين الله ما ينبغي أن يتسرب وسواسٌ تجعلنا نرتاب في وعد الله سبحانه وتعالى هذا أبداً، أين نحن من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "ليَبْلُغن هذا الأمر ما بلغ اللَّيل والنَّهار" أليس هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

أين نحن من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إنَّ اللهَ زَوَى لِي الأَرْضَ" أي جمعها لي ولخصها وصغر العالم أمامي "فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا". وليس لرسول الله ملك إلا هذا الدين، وليس له ميراثٌ إلا هذا الإسلام، ولسوف ملك أمتي زوي لي منها.

ما ينبغي أن يتغلب وسواس الشيطان على هذا الذي يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياً من لدن ربه.

يقول القائلون: ها هي ذي الدول التي تتحكم بالعالم كما تشاء والتي تنفذ خططها في العالم كما تريد، وها هي ذي الدول بل الدولة التي تسمي نفسها عظمى اليوم تحرك العالم وتخبطهم بعضاً ببعض فلا يتم إلا ما يريد هؤلاء الناس. وهل هنالك بعد هذا مجال لأن نقول: لا بل إن خيراً سيأتي من بعد هذا الشر.

هؤلاء يتحركون وهم جند من جنود الله، ولولا أن المسلمين كانوا يغطون في رقادٍ عميق، ولولا أن المسلمين ابتعدوا عن سلطان الله سبحانه وتعالى وأمره وشردوا عن نهجه وصراطه، لجعل أولئك الجنود خدماً للمسلمين، ولكن لما شرد المسلمون عن واجبهم وتحولوا عن معنى العبودية لله عز وجل إلى البحث عن نظامٍ فوقي رأوه في الإسلام وهذا في أحسن الأحوال، سلط الله سبحانه وتعالى عليهم هؤلاء الذين نقول، وليس بيننا وبين أن يجعل الله منهم جنوداً للإسلام وخدماً إلا أن نعود نحن إلى إسلامنا الحقيقي، وأنا أعني بالعودة إلى الإسلام الحقيقي، أن نعود إلى جزع هذه الشجرة الإسلامية وجزعها إنما هو العبودية لله، وأن لا نحبس أنفسنا من الإسلام في نظام، وأن نتصور أن معنى المجتمع الإسلامي أن تُطبق القوانين الإسلامية، وأن تُطبق فيه الحدود، وإذا بالإسلام يُهيمن، لن يكون هذا ولن يتحقق إن لم نعد إلى جزع الإسلام، وجزع الإسلام إنما هو الاصطباغ بمعنى عبودية الإنسان لله عز وجل.

ولكن لا شك أن هذه العبودية تثمر تبتلاً في حياة المسلمين، تُثمر تذللاً، تُثمر مهابةً، تثمر خوفاً، تُثمر تعظيماً ذكراً، كل هذا من نتيجة إصطباغ الإنسان بمعنى العبودية لله.

المسلمون أو كثيرٌ من المسلمين في أحسن أحوالهم نسوا هذا الجزع ولم يعودوا يتذكرون من الإسلام إلا الأنظمة التي تُقارع الأنظمة الأخرى.

هذا هو العلاج لتحصين العقل ضد الوساوس الشيطانية التي قد تدخل اليأس بين جوانح الإنسان المسلم أو في عقله.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا سواء صراطه المستقيم وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا. فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي