مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 21/11/1997

مياهكم تقلصت .. والسبب؟

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

منذُ أسبوعين حدثتكم عن ظاهرةٍ مخيفةٍ يأخذ الله سبحانه وتعالى بها عباده في هذه البلدة، هي ظاهرة من ظواهر تربيته وتأديبه لعباده الذين يتقلبون بين الحين والآخر في حالات من اللهو والنسيان، والإعراض عن الله سبحانه وتعالى، والعكوف على المعاصي والمُحرّمات، ولفتُّ النظر إلى الدلائل التي تتجسد فيها هذه الظاهرة، ومنها تقلص المياه على حين غِرة ودون سابق إنذار، ودون أن يخضع ذلك لشيء من المقاييس العلمية التي يعرفها ويتحدث عنها علماء الري، ونبّهت إلى أن علينا أن نرعوي وأن نتوب إلى الله سبحانه وتعالى حتى يُصلح الله شأننا ويبدل شدتنا رخاءً.

فقال بعض من قد سمع كلامي هذا مستفسراً أو مستنكراً: ها هي ذي أولاء أمم البغي من حولنا وقد استغرقت استغراقاً تاماً في حالات مستمرة من البعد عن الله والإعراض عن حدوده؛ وهي ماضيةٌ في ارتكاب الموبقات دون أي إلتفاتة إلى الله عز وجل، بل هي ماضية في عدم إقامتها لوجود الله سبحانه وتعالى - فضلاً عن أوامره - أي وزن، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتليها بما قد ابتلانا به، فماؤها موفور، ونعيمها موصول، وهي تتقلب في حالات مستمرة من الرخاء.

وهذه القالة أو هذا الاستنكار يتكرر كلما نبهت إخواننا في هذه البلدة إلى ضرورة الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى. فما هو الجواب الذي ينبغي أن يعرفه أولئك المستفسرون أو المستنكرون؟

أقول ما قلته مراراً في الجواب عن هذا، ولكن هنالك مشكلات لا تُحل إلا من خلال التكرار والتأكيد: ويبدو أن كثيرين هم المسلمون الذين لا يقرأون كتاب الله أبداً، وإن قرأوا شيئاً منه لا يتدبرونه إطلاقاً ولو قرأوا وتدبروا لما احتاجوا إلى هذا الاستفسار ولا إلى هذا الاستنكار، ولعلموا أن سنة الله سبحانه وتعالى لا خُلف فيها ولا اضطراب.

هذا الذي يأخذنا الله به الآن من الشدائد، إن بالنسبة للماء وإن بالنسبة لغير الماء، أهو تربيةٌ وتأديب، أم هو إهلاك؟

كلكم يعلم الجواب. هذه الظاهرة تدخل في معنى التربية والتأديب، وأنتم تعلمون أن التربية تعتمد آناً على الشدة، وتعتمد آناً على الرخاء، وكلٌ منا يعلم أن قانون التأديب والتربية سار على هذا المنوال، ومبدأ التربية والتأديب إنما هو من خصائص العباد الذين يغار الله على مصيرهم، والذين أحبهم الله سبحانه وتعالى فلم يرتضي لهم الهوان، ولم يرتضي لهم أن يسلكوا الطريق الذي إن استمروا فيه أودى بهم إلى الهلاك.

الناس الذين يأخذهم الله بالتربية أي بالشدة آناً وبالرخاء آناً ليستيقظوا إنما يخاطبهم خطاب مُحب، وإنما يأخذهم بمعنى من معاني رحمته، فهل تتصورون أن أمم البغي وأن المجتمعات التي قطعت صلتها بالله عز وجل ومضت في ارتكاب الموبقات وهي مستكبرة بذلك على الله عز وجل، أفترون أن تلك الأمم تستأهل أن يأخذها الله سبحانه وتعالى أخذ المحب بالتأديب والتربية فيبتليها بالشدة آناً والرخاء آناً لعلها ترعوي، لعلها تعود إلى خطة الرشد!؟

تصوروا أيها الإخوة الأمر على هذا النحو تجدون مدى الجهالة الجهلاء التي تدفع هؤلاء الناس إلى مثل هذا السؤال. نحن ولله الحمد لا نزال أمةً مسلمة مؤمنة، ومجتمعنا لا يزال مصطبغاً بأسمى معاني العبودية لله عز وجل، فمساجدنا عامرة ودروسنا متواصلة، والمقبلون إلى الله عز وجل شيباً وشباناً، رجالاً ونساءً كثرةٌ كاثرة بحمد الله سبحانه وتعالى، ولكن يشيع بين ذلك ظلامٌ من الفسوق، ظلامٌ من العصيان قد يتكاثر آناً وقد يتقلص آناً، هذا الذي يشيع ضمن هذا المجتمع شيء يغضب الله سبحانه وتعالى، وفي هذه الحالة يربينا الله عز وجل برحمته، يُأدبنا الله سبحانه وتعالى بلطفه؛ كي نستيقظ. ونحن لم نصل إلى الدرجة التي قضى الله سبحانه وتعالى فيها بالإهلاك، ونسأل الله عز وجل أن لا نصل إلى تلك الدرجة.

أولئك الناس الذين لا يزال بعض الجاهلين أو المتجاهلين يقارنون بيننا وبينهم، مجتمعات البغي في أقصى الغرب أو الشرق تلك المجتمعات التي طوت من ذهنا مسألة الله والإيمان بالله، تلك المجتمعات التي اتخذت من هواها آلهة من دون الله سبحانه وتعالى، أي فائدة يُفيدها التأديب وأي معنىً بقي في حياتها لعصى التربية؟ إنها تنتظر شيئاً واحداً ألا وهو الهلاك. وهذا هو فرق ما بيننا وبين أولئك الناس.

قلت: إن الذين يستشكلون مثل هذه المشكلات لا يقرأون كتاب الله ولو أنهم قرأوه لما سألوا. انظروا إلى كلام الله سبحانه وتعالى "ربما يود الذين كفروا" يقول: كفروا؛ لا يتحدث عن الفاسقين المؤمنين العاصين " رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ" أي ما أهلكنا من أمة من هذا القبيل كفروا وقطعوا ما بينهم وبين الله من صلات إلا وجاء إهلاكنا لهم على ميقات "مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ" هكذا يقول الله سبحانه وتعالى. فهل يريد هؤلاء الناس أن نقف وراء الطوابير التي تنتظر الهلاك والتي حاق بها قرار الله سبحانه وتعالى؟ تلك هي سنة الله عز وجل، الذين قطعوا ما بينهم وبين الله من صلات، واستكبروا على الله وعلى الإيمان به، واتخذوا من شهواتهم وأهوائهم آلهة لهم من دون الله عز وجل، قرار الله في حقهم هو التالي: أن يفتح لهم أبواب المتع على مصارعها، وأن يجعلهم يزدادون في طغيانهم وبغيهم كما قال الله عز وجل إلى الميقات المحدد المعلوم عند الله سبحانه وتعالى، وعندئذٍ إذا أخذ، أخذ أخذَ عزيزٍ مقتدر.

من الذي يتمنى أن نكون مثل أولئك الناس؟ نحن لم نصل إلى ذلك الوضع المزري، بل لن نصل إليه بتوفيق الله سبحانه وتعالى.

نحن أيها الإخوة ينبغي أن نقرأ كتاب الله لنتبين سنن الله في عباده، انظروا إلى قوله عز وجل وهو يتحدث عن ظاهرة من ظواهر سننه: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ" كما هو شأننا، لعلهم يتضرعون ... الأمل معقود لا يزال لايزال احتمال الرجوع إلى الله والارعواء إلى دين الله قائم، أخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون. "فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" أي لما انقطع الأمل ولما قطعوا أوهى الخيوط بينهم وبين الله "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ" اقرأ كتاب الله لتجد كيف أن واقع المجتمعات اليوم مصداقٌ دقيقٌ لهذا الكلام الرباني العجيب.

هذا هو قانون الله سبحانه وتعالى: "فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" أفنحن كذلك؟ لا، لا ولله الحمد لم تقسو بعد أفئدة هذه الأمة ككل وكمجتمع، لا، لا تزال هذه الأمة بخير، ولا يزال فيها الشباب الذين تذوب أفئدتهم خشيةً من الله، ولا يزال هنالك الرُكع السُجّد الذين يجأرون إلى الله بالدعاء ضارعين في الغدو والآصال، ولا يزال هنالك شيوخٌ رُكّع، وأطفالٌ رُضّع، وأطفالٌ آخرون يهرعون قبل آبائهم إلى المساجد. مجتمعنا مليءٌ بهذا كله والمأمول أن يشفع الله سبحانه وتعالى للطالحين بفضل هؤلاء الصالحين.

إذا كنت تنتظر أن تكون مثل أولئك الناس، فاذهب إلى حيث يقيمون، وانتظر الهلاك الذي ينتظرون والهلاك آتٍ عما قريب ينبغي أن نعلم هذه الحقيقة.

نحن لسنا كهؤلاء الناس "فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا" فينا من يتضرع، وفينا من يلجئ إلى الله، وفينا من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, إذاً لسنا من هؤلاء الناس، أما أولئك الذين تذكرهم فلا يتذكرون، تُنبههم فلا يتنبهون قست قلوبهم فأصبحت كالحجارة، كما قال الله سبحانه وتعالى: أولئك الذين حاق عليهم قوله سبحانه وتعالى: "حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً" قبل ذلك يقول: "فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ". وهذا هو الواقع الذي ترون، فتح الله عليهم أبواب كل شيء ولكن إلى حين "وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ" أي ميقات معلوم "مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ"

كثيرون هم الذين يقيسون أعمار المجتمعات بأعمار الحيوانات أو بأعمار الأناسي، الإنسان يعيش إن طال عمره سبعين عاماً أو يزيد قليلاً مهما طال عمره، كثيرون هم الأغبياء الذين يقيسون أعمار المجتمعات بأعمار الأشخاص، لا، عمر المجتمع ليس سبعين عاماً حتى تنظر إلى مجتمع البغي وأنت تضبط ساعتك وتقول: ها هم لم يُهلكوا بعد، مر يوم ولم يُهلكوا، مر شهر ولم يُهلكوا، مر عامٌ ولم يُهلكوا، مر عامان عشرة أعوام ولم نجد قرار الله قد حاق بهم ... هذا من الغباء بمكان.

للمجتمعات أعمار غير أعمار الأشخاص، وإذا كانت العين هي التي ترصد عمر الشخص ما بين طفولة وشباب وكهولة وشيخوخة، فالتاريخ هو الذي يرصد أعمار المجتمعات، إذا أهلك الله مجتمعاً بعد أن قام واستمر ثلاثمئة عام فمعنى ذلك أن الله أهلكه وهو في عمر الطفولة.

أجل .. أمريكا لم تقضي أكثر من مئتي عام من حياتها المستقلة التي تتباهى فيها بالوجود برقعةٍ من بقاع الأرض، وإن العلماء - قبل أن أقول إن الله سبحانه وتعالى - لا يُعطون لها من العمر ما تستطيع أن تفرح فيه بمرور ثلاثة قرون على وجودها.

هذه الحقيقة ينبغي أن نعلمها، وإذا أدركنا ذلك أيها الإخوة فلتكن مشاعرنا متجهةً إلى الله سبحانه وتعالى بلسانين اثنين، لسان يحمد الله على أنا لا نزال سائرين على صراطه معتزين بدينه، مستمسكين بحبله، ولو بشكلٍ جزئي، لسانٍ آخر يجأر إلى الله بالضراعة أن لا يأخذنا بجريرة هؤلاء الذين فسقوا وفجروا وارتكبوا الموبقات علناً وجهراً واستكباراً، ينبغي أن نتجه إلى الله بهذين اللسانين، وباعتبار أننا نملك هاتين اللغتين فواقعنا يختلف كل الاختلاف عن واقع دول الغرب وتلك الأمم التي أدبرت عن الله سبحانه وتعالى وابتعدت عن صراط الله سبحانه وتعالى أيّما ابتعاد.

هؤلاء نحن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ونقولها صريحة في كل مكان وفي كل مناسبة: أيها الناس عودوا إلى الله سبحانه وتعالى، فإن مياهكم تقلصت، وأنا أتحدى أن أياً من علماء الري لا يملك أن يأتي بأي دليل مادي علميٍ على ما حدث هذا العام، ولو أنه ملك دليلاً على هذا لكان الذي حدث هذا العام ينبغي أن يحدث من باب أولى في العام الماضي، أجل أيها الإخوة.

ولكننا نحن نعلم السبب، والعلم عند من آمن بالله سبحانه وتعالى، السبب أن الله يُذكرنا من خلال هذا الذي نعانيه بقوله عز وجل: "وأنزلنا من السماء ماءً بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون".

بالأمس قال قائل: كثر الناس، كثر الازدحام في الشام، ولذلك فالماء هو هو ولكن قسمته على الناس اقتضت أن يتراجع، لا هذا الكلام خطأ، لو كان هذا الكلام صحيحاً لكان معين بردى كما هو، في المعين ينبغي أن يكون هو هو، وفي الطريق ينبغي أن يتقلص حيث يتكاثر الناس الشاربون والآخذون، لو كان هذا الكلام صحيحاً لكانت كتلة معين الفيجة كما هي من حيث الانطلاق، ومن حيث القوة، ولكن عندما يمر الماء ويتسلسل إلى البيوتات والناس، عندئذٍ يتبخر الماء. لكن الأمر كذلك؟ لا انظروا إلى كتلة المعينين تجدون العجب العجاب. ما الذي جعل هذه الكتلة تتقلص من مصدرها الأول قبل أن تلمس عدد الناس أهم كثرة أم قلة؟

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوقظنا من سباتنا وأن يُلهمنا التوبة والرجوع إلى الله على كل المستويات قادةً وأمة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي