مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 14/11/1997

لماذا يشعر أحدنا أنه فقير

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

في كتاب الله سبحانه وتعالى آيةٌ إذا تأملها القارئ المتدبر لا بد أن تستوقفه جملةٌ منها، ولا بد أن يقف عندها ليفهم الحكمة ويعود بالمعنى الذي أراد الله سبحانه وتعالى لعباده أن يتبينوه وأن يعتبروا به.

الآية هي قول الله سبحانه وتعالى: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ"

والذي يستوقف القارئ المتدبر في هذه الآية، أن الله عز وجل عدّ مظاهر الشهوات والأهواء دون أن يضبطها بقدر حتى إذا تحدث عن الذهب والفضة ومحبة الإنسان لهما ربط الذهب والفضة بقدرٍ هو القناطير المُقنطرة "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ " ثم تابع فقال: "وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ"، لماذا قيّد الذهب والفضة دون غيرهما بهذه القناطير المقنطرة، وهو يتحدث عن طبيعة الإنسان في محبته لهذه الشهوات والأهواء المتنوعة الكثيرة؟ إذا تدبرت في هذا الذي يلفت النظر تبينت الحكمة من ذلك.

الإنسان تتجه نفسه إلى الشهوات والأهواء بالقدر الذي يشبع نفسه منها، حتى إذا اتجه إلى المال فإنه لا يكتفي من ذلك بحد، ليس عند الإنسان حسابٌ يقف عند انتهاء حاجة، وليس عند الإنسان سقفٌ في محبته للمال الذي يتمثل في الذهب والفضة، وهما قيم الأشياء كما تعلمون. لو كانت حاجة الإنسان تتحقق بقدرٍ معينٍ من ذلك لطلب الإنسان من وراء ذلك المزيد والمزيد والمزيد... تلك هي طبيعة الإنسان وهكذا زين الله سبحانه وتعالى له الدنيا، وهذا هو الواقع الذي لا شك فيه.

يعيش الإنسان أيها الإخوة وهو مُقِل ليس معه من متاع الدنيا إلا قليل، ومن ثم لا يبني في ذهنه الأحلام ولا الأماني، ومن ثم فهو يعيش قانعاً بهذا المال القليل، حتى إذا اندلقت عليه الدنيا وجاءه المال من هنا وهنا بدأ يشعر بالفقر، وكلما ازداد المال لديه كلما شعر بمزيد من افتقاره، لماذا؟ لأنه كلما أنعم الله عليه بمزيدٍ من المال غُرِست في أفكاره وأحلامه مشاريع دنيوية مختلفة، لم يكن يُفكر فيها من قبل، لم يكن يفكر في شيء منها عندما كان يأتيه رزقه بحساب، أما الآن وقد أصبح المال يأتيه من هنا وهنا وهناك، فقد بدأ يفكر في المزرعة، بدأ يفكر في البيوت الأخرى، بدأ يفكر بتحسين حاله من كل الجوانب، وكلما فكر في شيء من هذا وجد أنه فقير، وأن المال الذي لديه لا يكفيه، وكلما أكرمه الله بمزيدٍ من المال مدّ عينيه إلى مزيدٍ من الأحلام، فمتى يشبع؟ ومتى يتحرر من فقره؟

لن يتحرر من فقره. وهذا هو مصداق قول الله سبحانه وتعالى: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ" لم يقيد ذلك بعدد ثم قال: "وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ"، وتصوروا كلمة القناطير المقنطرة هل فيها مبالغة؟ لا ليس فيها مبالغة أبداً.

ذلك هو شأن الإنسان، ويا عجباً عندما يكون الإنسان فقيراً يأتيه رزقه بحساب هو أكثر الناس شعوراً بالغنى وهو أكثر الناس شعوراً بأن ما لديه يكفيه، ذلك لأنه لا يشتط بأحلام يتخيلها، ولا يشتط بأماني يرسمها، ومن ذلك فحسابه مع المال متطابقان تماماً، ولكن الغني هو الفقير حقاً، الغني شكلاً هو الفقير حقيقة، ًوصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل فيما رواه الشيخان "لو كان لابن آدم وادٍ من مال" أي من ذهب وفضة "لابتغى إليه ثانياً، ولو كان له واديان لابتغى إليه ثالثاً" ثم قال عليه الصلاة والسلام: "ولا يملؤ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب". هل وقفتم مرة ًعلى هذه الكلمة النبوية أيها الإخوة ؟ "ولا يملؤ جوف ابن آدم إلا التراب"، قفوا عندها وانظروا إلى الكلام العظيم والعجيب.

الإنسان مهما أوتي من المال من الذهب والفضة لن يكتفي ولن يستغني بل كلما زاد الله سبحانه وتعالى له من الرزق والعطاء من هذا المال الذي تحدث عنه بيان الله كلما ازداد شعوره بالفقر.

إذاً ما الذي يكبح جماح طمعه؟ ما الذي يشعره بأنه قد اكتفى؟ شيءٌ واحد شعوره بأن الموت يتربص به، عندما يعلم أن هنالك سقفاً لأمانيه لأحلامه لشططه للغنى الذي يطمح إليه، هنالك سقفاً لا يستطيع أن يخترقه ألا وهو الأجل المحتوم، وإذا جاء الأجل فلا بد أن ينفض يديه هذا الإنسان من الذهب ومن الفضة، ولا بد أن ينفض فكره من سائر الأحلام التي كان يحلم بها.

إذا أشعر الإنسان نفسه بالموت وتذكره دائماً وعلم أنه راحل، فعندئذٍ يمكن أن تضع رحمة الله سبحانه وتعالى كوابح بينه وبين أطماعه، وعندئذٍ ينظر بإحدى عينيه إلى مصالحه العاجلة يجمع لذلك الدنيا، وينظر بالعين الأخرى إلى مصالحه الآجلة يمد يده بالعطاء يمد يده من أجل أن يتخلص من المزيد من المال، يُنفق ذلك كله فيما يسعده في آخرته التي هو مقبل عليها. هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب" كلامٌ بليغ. التراب ليس هو المعني في المعنى الشكلي الذي تعرفون، ولكن التراب كناية عن الموت، ولا بد أن يتبين الإنسان شبح الموت قبل أن يموت، وإلا فإذا حاق الموت بالإنسان فإن قارون وهو أكثر الناس طمعاً سيزهد، والموت عاقبة كل حي، لكن مراد المصطفى صلى الله عليه وسلم أن شيئاً واحداً يكبح جماح طمع الطامعين ألا وهو أن يجلس فيغمض عينيه ويتصور أنه راحل، وأنه ميت فإذا علم هذا وتذكر هذه الحقيقة دائماً، وضع المال الذي يكرمه الله عز وجل به في كفة ووضع العمر الذي يتمتع به في كفة أخرى، وينظر فيجد أن المال قد فاض عن حاجات عمره، ستعيش خمسين عاماً بعد اليوم أكثر من ذلك ماذا عسى أن تصنع بالقناطير المقنطرة؟ ويحك ماذا عسى أن تصنع بأحلامك المجنحة التي لن تستطيع أن تنفذ إلا معشاراً يسيراً منها؟

إذا أدركت حقيقة الموت، استغنيت. وانظروا إلى هذا الكلام أجل استغنيت، ذلك لأن الغنى لا يتحقق بأن تلهث وراء المال، وأن تشعر بأنك بحاجة ماسة إليه، أنت أفقر الفقراء إليه في هذه الحالة. إنما يتحقق الغنى في تلك الساعة الأخرى، عندما تشعر أن هذا المال الذي بين يديك يكفيك ويزيد، وتشعر أنك بحاجة إلى أن تعود بالكثير منه إلى إخوانك عن يمينك وشمالك، عندئذٍ أنت الغني.

ولا والله ما رأيت أيها الإخوة فقيراً أحوج إلى العطف الحقيقي من هؤلاء الأغنياء الذين يلهثون وراء الملايين حتى إذا جمعوا الملايين في صناديقهم تناسوها أو نسوها وعادوا يحلموا بالملايين الأخرى ثم بالملايين الأخرى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا طرقت باب أحدهم تذكره بالله عز وجل أو تُذكره بعباد الله شكى وبكى وأبكاك، إن استطاع إلى ذلك سبيلاً وتألم إلى أن السيولة معدومة في هذا الكون كله.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يغنينا بفضله وأسأل الله عز وجل أن يجعل من نهاية كل حيٍ كوابح لأطماعنا, وأسأل الله أن يعافينا من الفقر الحقيقي. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي