مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 31/10/1997

وما يعلم جنود ربك إلا هو

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إلاه إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

كثيراً ما نمر على قول الله سبحانه وتعالى "وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ" دون أن نتأمل ونتدبر في هذا الكلام الرباني العظيم. ولربما مرّ على هذه الآية وأمثالها أناسٌ ففهموا ما يمكن أن يُخالف إدراكهم، وما يُمكن أن يُخالف علومهم البسيطة التي تخدع أكثر من أن تُوصل إلى الحقائق وإلى الأهداف. ربما وقف الإنسان من هؤلاء على قوله عز وجل " وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ" فتأمل في هذا الكلام مستنكراً وتساءل عن معنى تسبيح هذه الأشياء وما أكثرها وما أكثر تنوعها، ربما تساءل عن معنى تسبيحها لله عز وجل وعن اللغة التي تُسبح بها الله عز وجل، ثم مرّ عنها مستنكراً وربما متعجباً.

ولو عقل الإنسان وتدبر في كتاب الله وكلامه، ثم عاد فتدبر في واقع هذه المكونات وخضوعها لسلطان الله سبحانه وتعالى، لعلم أن أوضح لغة ينطق بها ناطق هي لغة هذه المكونات إذ تُسبح بحمد بارئها وخالقها سبحانه وتعالى. فلن يكون تسبيح الإنسان أوضح منها، ولن يكون حديث الإنسان عن إيمانه عز وجل أجلى وأبين من حديث هذه المكونات، ولكن الأمر يحتاج إلى أن يُسلط شيئاً من تفكيره وعقله المتدبر المُتأمل على هذه المكونات وأن يعود بها إلى قوله سبحانه وتعالى: "وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ".

خضوع هذه المكونات لسلطان الله عز وجل وسيرها طبق أوامره، أبين لغة وأعظم منطق: "وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ".

قال أولئك الذين حبسوا أنفسهم في سجن الطبيعة، وتقوقعوا في دائرةٍ صغيرة من الكون، وسلطوا عقولهم من الدنيا كلها على كبريائهم وعلى جهلهم وغرورهم. فقالوا: إن الطبيعة تتحرك بدون محرك، وإن الأكوان لا سائق لها ولا قائد، وإن لها قانونها التي لا تحيد عنه، فجاء الواقع الذي ينطق بخضوع هذه المكونات كلها لسلطان الله سبحانه وتعالى ليكشف عن زغل هؤلاء الناس، بل ربما عن جنون هؤلاء الذين تقوقعوا ثم سجنوا أنفسهم في هذه القواقع، ثم أخذوا يقررون وينطقون ويتحدثون عن الكون كله وهم في سجنٍ ضيق ضيق من القواقع التي حبسوا أنفسهم داخلها.

جعل الله سبحانه وتعالى هذا الكون مليئاً بالنعم التي تخدم الإنسان وتحقق له غاياته ومطالبه، حتى إذا شاء الله عز وجل أن يوجه أمره إلى هذه النعم؛ بأن تتحول إلى نقم، إذا هي في اللحظة ذاتها تتحول من نعمةٍ يستبشر بها الإنسان إلى نقمة يفر منها، فكيف كان ذلك؟ وكيف كانت الطبيعة الخادمة الأمينة للإنسان للحظة، ثم تحولت فأصبحت العدو الهائج الشرس لهذا الإنسان في لحظة أخرى؟

كيف كانت الطبيعة تتحرك من النقيض إلى النقيض دون أن يكون لها قائد يأمرها فتأتمر! كيف هذا!؟ ومن الذي يعقل ذلك؟

جعل الله سبحانه وتعالى من الهواء السر الذي يمد حياة الإنسان بمعنى الاستمرار، ويمكنه من عملية الشهيق والزفير، ولولا الهواء لما استقامت الحياة للإنسان، حتى إذا أراد الله سبحانه وتعالى غير ذلك ووجه أمره إلى هذه المادة الأساسية الكبرى لحياة الإنسان، حتى إذا وجه أمره إلى الهواء أن يقف موقفاً آخر فيصبح العدو لهذا الإنسان، إذا بهذه المادة الأساسية الكبرى لحياته تتحول إلى سبب من أخطر أسباب الدمار.

ما هو الحاجز الذي يقف بين ذلك النسيم الرخي الذي يمد حياتك بحياة جديدة، وينعشك ما بين اللحظة والأخرى، وبين ذلك الهواء الذي يزمجر والذي يطير الأبنية من أسسها، والذي يطير الأشجار من جذورها، والذي يطير الحافلات ويلصقها بالجدران فتداعى الجدران، ما هو الحاجز الحصين بين هذا النسيم الرخي الذي ينعشك ويزيد حياتك انتعاشاً وقوة، وبين هذه الرياح المزمجرة التي تهلك؟

هي هي ليس هنالك من فرقٍ جوهري بين هذا وذاك أبداً، ولكن أمراً ربانياً اتجه إلى الهواء إلى أن يكون خادماً لأنفاسك فكانت الأداة المنعشة لك، وأمر إلهي اتجه إلى هذا الهواء أن يتحول إلى مادة إهلاك وتدمير فتحول هذا الجند ذاته إلى مادة هلاك وتدمير.

والماء الذي قال الله عز وجل عنه: "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ"، هذه الأداة التي يؤمن الجميع بأن حياة الإنسان لا تستقيم ولا تستقر من دونها، ما هو الحاجز العلمي الحصين بين أن يكون الماء الهاطل من السماء سببا ًلريك وسبباً لاخضرار الأرض، ومادة استبشارٍ تتفاءل من وراءها خيراً لك ولأمتك. وبين أن يكون هذا الماء الذي يهمي من السماء سبباً لإتلافك وإتلاف قوتك ومدخراتك؟ ما هو الحاجز العلمي الذي يضع الفرق بين هذا وذاك؟ لا يوجد إطلاقاً بشكل من الأشكال. وسلوا هؤلاء الذين يؤلهون الطبيعة عن هذا الفرق، لا يوجد، اللهم إلا فارق واحد هو الأمر الإلهي الذي يتجه إلى هذا الجند وهو واحد من جنوده الكثيرين.

يأمر الله سبحانه وتعالى ماء السماء أن يهطل رخياً، وأن يأتي بالرزق الوفير وبالعطاء الكبير، وبالسبب الذي لا بديل عنه لاستمرار حياة الإنسان وتألقها، وإذا بهذا الماء يصبح مادة استبشار ومادة خير وأساس تفاؤل بموسمٍ رخي سيقبل في هذا العام، حتى إذا صدر أمرٌ آخر من الله سبحانه وتعالى لهذه المياه المنهمرة أن تهطل بالشر وأن تتجاوز حد المنفعة إلى حد الإهلاك، وإذا هي في لحظات لا في ساعات ولا في أيام إذا هي في لحظات تتحول إلى سببٍ من أخطر أسباب الاختناق.

هل من فارقٍ بين هذا وذاك غير هذا الفارق الذي يتمثل في صدور الأمر الرباني من الله سبحانه وتعالى لهذه المياه؟ والمياه التي تتفجر من باطن الأرض وتخرج من عروقها من داخلها، وكل الأرض خزائن كما قال الله سبحانه وتعالى: "وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ". ما هو الفارق العلمي بين أن تتفجر ينابيع الأرض بالعطاء وبالخير وبالألق الذي يمتع العين وينبت الخضرة من حول هذه الينابيع، وبين أن تتفجر هذه الينابيع وإذا هي تُهلك، وإذا هي تُدمر وإذا هي طوفان يخنق. ما الحاجز بين هذا وذاك؟

الحاجز شيء واحد هو الأمر الإلهي الذي يتجه إلى هذه المياه، يصدر الأمر الرباني إلى هذه المياه أن تحتبس إن في باطن الأرض أو في السموات العلى وإذا بالإنسان يقف أمام خطر الهلاك بسبب عدم وجود المياه.

ويصدر الأمر الإلهي بأن تنهمر هذه المياه من السموات وأن تتفجر من الأرض، وإذا بالإنسان يقف الموقف ذاته أمام خطر الهلاك، ولكنه هلاكٌ بسبب طوفان هذه المياه.

ويصدر أمر إلهي آخر إلى هذه المياه أن تنزل بقدر وأن تتفجر بقدر، وأن تستجيب لحاجات الإنسان التي يحتاج إليها وإذا هي سببٌ من أعظم أسباب الحياة وإذا هي سبب من أعظم أسباب النعيم.

هل هنالك حقيقة علمية تناقض هذا الكلام؟ أليس هذا هو معنى قول الله سبحانه وتعالى: "هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا" كيف خوفاً وطمعاً؟ إما أن تكون هذه البروق مخيفة فلا مطمع فيها، وإما أن تكون مادة طمعٍ فلا خوف فيها، ولكن الله عز وجل جمع بين هذين الشعورين في أمر واحد: "هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا" لماذا؟ لأن هذه الظاهرة التي تراها يمكن أن تستجيب لأمرٍ إلهي راحم، فيكون هذا البرق بشرى خير كبير للناس، وعطاء جزيل ورزقٍ وفير لهم، ويمكن أن يكون هذا البرق استجابةً لأمر رباني آخر، وإذا هو يحمل للناس الدمار وأسباب الدمار.

ومن ثم فإن الإنسان الذي علم سنة الله عز وجل في خلقه، وعلم أنه ما من مظهر من مظاهر النعم إلا ويمكن أن يحيله الله إلى مظهر من مظاهر النقم في اللحظة ذاتها وفي الوقت ذاته، إذاً ينبغي أن يكون موقف الإنسان عندما يرى جنداً من جنود الله عز وجل قائماً ما بين خوفٍ وطمع، لا يعلم هل هذه الظاهرة تحمل بشرى من رزقٍ وفير أم هي تحمل خوفاً كبيراً لهلاك خطير؟

وهذا هو معنى قوله عز وجل: "هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ"

ينبغي أيها الإخوة أن نربط مظاهر الخلق بالخالق، ينبغي أن نربط حوادث الكون بالمُكوّن، وما ينبغي أن نجعل من حوادث الكون حاجزاً ينسينا تدبير رب العالمين سبحانه وتعالى.

رأيتم بالأمس هذه الأمطار التي هطلت خلال نصف ساعة أو مقداراً قريباً من ذلك، ماذا يعني هذا الذي أرانا الله عز وجل إياه؟ يعني أن الإنسان ينبغي أن يكون دائماً واقفاً بين بابي الطمع والخوف من الله سبحانه وتعالى، فلا يطمع بكرم الله طمعا ًيتدلل به على الله ولا يخاف الخوف الذي ييأسه من رحمة الله عز وجل بل ينبغي أن يكون بين هذا وذاك يشده الخوف آناً من مقت الله وغضبه، وتشده رحمة الله عز وجل آناً إلى الطمع بعطاءه، وهذه المكونات إنما تذكرنا بهذه الحقيقة.

ما من أداة من أدوات الخير إلا وهي في الوقت ذاته أداة شر، وما من نعمة يطمع فيها الإنسان اليوم إلا وكانت في دهر من الدهور سبب هلاك أمة من الأمم، الماء الهواء الريح الأصوات، صوت يُطربك آناً وبعد دقائق يبعث الهلاك في كيانك ويفجر ذاتيتك آناً آخر، ينبغي للإنسان أن يكون على بينة من هذا، فإذا كان على بينة من هذه الحقائق وربط الأكوان بمكونها كان مع الله دائماً وإذا كان مع الله دائماً، اصطبغ بصبغة العبودية لله وكان شعوره هذا رقيباً على سلوكه.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يُكرمنا دائماً بنعمه وأن لا يُرينا منها وجه النقم وأن يغفر لنا ذنوبنا ويستر لنا عيوبنا.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي