مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 17/10/1997

الكآبة ... أسباب وعلاج

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى .

أمّا بعدُ فيا عباد الله ..

قيل لي منذ أيام: إن فلاناً - وهو من أساطير علماء النفس والتربية - قد قعد به الكِبر عن العمل وهو عاكفٌ في منزله يُعاني من مرض الكآبة.

قلت: يا عجباً من أساطير علم النفس والتربية، لا شك أنه كان يعالج الكآبة وأسبابها، ولا شك أنه كان يُدلي إلى الناس بآرائه وعلومه الدقيقة في أسباب الكآبة وطرق التوقي منها، فما له وهو المتخصص بهذا الفن قد وقع في براثن هذا المرض!؟ ماله يعاني اليوم وهو أستاذٌ جليلٌ في علم النفس وعلم التربية، يعاني من مرض الكآبة ولا يجد مفراً منه!؟

لا شك أن الجواب على هذا السؤال واضحٌ أيها الإخوة. فالكآبة لا تأتي إلا من سببٍ واحد، ألا وهو باختصار: جهل الإنسان لهذه الحياة التي يعيشها، وجهله لما هو مقبلٌ عليه من ورائها، جهل الإنسان بطبيعة هذه الحياة وبما سيلقاه بعد الموت وبعلاقته بالله عز وجل هو المصدر الأوحد لما يسمى بمرض الكآبة، ومن ثمّ فإن علاج الكآبة علاجٌ واحد لا ثاني له، هو أن يكون الإنسان على بينة من قصة هذه الحياة التي يعيشها، ومن منهاج هذه الرحلة التي يتقلب في فجاجها، وأن يعلم ما هو مقبلٌ عليه بعد الموت، وأن يعلم صلته بمولاه وخالقه عز وجل. فإذا علم ذلك كله، وأدرك حقيقة هذه الحياة، وعلم علاقته عبداً بمولاه وخالقه رباً ومولاً وقيّوماً، زايله هذا المرض ولن يجد سبيلاً إليه بشكلٍ من الأشكال.

هذه الحقيقة لا تستدعي فلسفة عميقة، ولا تستدعي ثقافة واسعة، وإنما تستدعي فقط أن يُعمل الإنسان عقله، فإذا أعرض الإنسان عن مولاه وخالقه وظن أنه مستقلٌ في هذه الحياة الدنيا؛ يتقلب في فجاجها كما يشاء، ويعبث بها وبالناس كما يريد، لا يستطيع كائنٌ ما أن يُضيّق عليه سبيلا، أو أن يُغير له منهجاً، ولا يُفكر بالموت الذي يختفي وراء أُذنه، ولا يعلم متى سيفاجئه، لا يفكر بهذا الموت ولا بما بعده لا شك بأن هذا الإنسان ينبغي أن يتحين هذا المرض الذي سينتابه بدون ريب، هذا الإنسان الذي يعيش حياته بهذا الشكل يمضي حياته بشكلين لا ثالث لهما:

الشكل الأول: يكون عندما يتقلب هذا الإنسان في مرحلة الشباب ومرحلة إقبال الغرائز، في هذه الحالة تستبد به السكرة ويتيه عنه العقل، فيتقلب من الدنيا في أهوائها وشهواتها دون أن يُعمل عقله ودون أن يُفكر في الحياة التي يسير في فجاجها، ذلك لأنه في هذه المرحلة سكران، والسكران لا يتصرف طبق عقله، ولكنه يتحرك حسب غرائزه وحسب اهتياج رعوناته، فهو لا يُبالي بأن يتقلب ذات اليمين وذات الشمال يعثو ويعبث في هذه الدنيا كما يشاء، ولا يُبالي بأن يجعل من نفسه مادة أذى للآخرين يتصرف كما يشاء لأنه سكران، والسكران لا يعي وإمامه وقائده في هذه المرحلة إنما هو رعوناته وغرائزه التي تهتاج بين جوانحه. هذه هي المرحلة الأولى التي تتحكم به.

فإذا ذهب الشباب وطوي عهده، وجاءت الكهولة وأدبرت هي الأخرى، وجاء عهد الشيخوخة، زالت السكرة واستيقظ العقل، وزال وقع الغرائز، وزال هياج الرعونات التي كانت تهتاج بين جوانحه، وكانت تدفعه إلى أن يسير في فجاج هذه الحياة على غير هدى كما يُحب ويشاء، كلّ هذه المؤثرات زال عهدها وزالت السكرة من وراء ذلك وجاء العقل، وينظر الرجل وقد أصبح عارياً عن دوافع رعوناته المختلفة، ينظر وقد بدأ يشم رائحة الموت، ينظر وإذا بالدنيا تقول له: وداعاً بعد طول رقصٍ وبعد طول تقلبٍ في فجاج الأهواء والشهوات.

وينظر إلى ما هو مقبلٌ عليه، وهو لم يدرس شيئاً عن حقيقة هذه الدنيا ومآلها، ولم يُفكر في علاقته عبدا ًبمولاه وخالقه ربا ً، كل ما في الأمر أنه ينظر فيجد أن شبح الموت يدنو إليه رويداً رويداً.

وعندئذٍ تأتي المرحلة الثانية في حياته ألا وهي مرحلة الكآبة، زالت مرحلة المرح بكل مقوماتها وفي مقدمتها سكرة النعيم وجاءت المرحلة الثانية مرحلة الكآبة، شيءٌ طبيعي لابد أن يقع هذا الإنسان في مرحلة الكآبة ولن يجد مناصاً منها، فليستنجد هؤلاء الذين يعيشون الكآبة في أُخريات أعمارهم ليستنجد الواحد منهم بكل مجلدات علم النفس، بكل مجلدات التربية، بكل العلاجات التي يتحدث عنها علماء الشرق والغرب، فلا والله لن يجد مناصا ًولن يجد مخرجاً من هذه الكآبة أبداً، لأن الكآبة تنبثق من داخله ولم تلتصق عاملاً خارجياً بكيانه.

الكآبة نتيجة موقفٍ وقفه، نتيجة لإعراضه عن منهاج رحلته في هذه الحياة الدنيا، نتيجةٌ لعدم وقوفه ساعة واحدة أمام مرآة الذات ليعلم هويته ويعلم من هو. ولكن متى ينجو الإنسان من كلا هذين البلائين؟

متى ينجو الإنسان من سكرة المرح في عهد الشباب والكهولة وينجو من آلام الكآبة في مرحلة الشيخوخة وقبل الممات؟

عندما يقف أولاً أمام خطاب الله سبحانه وتعالى القائل: "ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ". عندما تعلم أنك عبدٌ لهذا الإله مملوكٌ له تتحرك في قبضته منتسبٌ إليه بالعبودية، وينتسب هو إليك بالألوهية، وعندما تعلم أنك لست طريدا ًبين سمع الدنيا وبصرها، ولست يتيماً في هذا العالم المترامي الأطراف، إنما أنت عبدٌ لإله، إله عظيم إلهٍ كبير إلهٍ رحيم إلهٍ لطيف، هو مولاك الذي يُعطيك والذي يُربيك والذي يُنشِّئك والذي يرعاك، ولا رعاية الأم لمولودها كل هذا تُدركه من خلال قول الله: "ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ".

ثم يدعوك هذا إلى أن تعلم قصة حياتك التي تعيشها، هذه المرحلة التي تتقلب في فجاجها، وكيف يُحدثك مولاك المحب مولاك الرؤوف الكريم عن رسالتك في هذه الحياة، ومهامك التي ينبغي أن تنهض بها، والخُلق الذي ينبغي أن تلتزم به، ثم تُصغي إليه وهو يُحدثك عن الموت وما بعده، يُحدثك عن الحياة الثانية التي ستؤول فيها إلى مولاك العزيز الكريم، ولابد أن يجزيك بالحسنى حسناً وزيادة، ولابد أن يُكرمك بما قد أعطيته من واجبات عبوديتك لمولاك، لابد أن يُكرمك بالعطاء الذي لا ينفذ، وتُصغي إلى بيان الله سبحانه وتعالى وهو يوضح هذا كله وهو يقول لك: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ"

عندما تعلم هذا كله فقد أدركت منهاج رحلتك، وإذا التزمت - جُهد استطاعتك - بأوامر الله ووصاياه، فلا السكرة تطوف بك في مرحلة شبابك وكهولتك لتنسيك واجبك، ولتوقظ الرعونات بين جوانحك، فتعبث بعباد الله كما تهوى أهواءك لا تفعل هذا، ولا مرض الكآبة بعد ذلك ينتابك، ذلك لأنك إذا رأيت أن الشباب قد ولى، وأن الكهولة قد أدبرت، وأن عهد الشيخوخة بنذره قد أقبل إليك، وأنت قد عرفت مولاك، وعرفت صلتك بمولاك، وقمت بالواجب الذي كلفك الله عز وجل به، فلسوف يتراقص شعورك بين جوانحك حباً للقاء الله سبحانه وتعالى، ولسوف تعلم أنك ستنتقل من آلام هذه الدنيا، ولسوف تنتقل من مظاهر الوحشة التي فيها إلى الأُنس بلقاء مولاك الذي طالما عبدته وأنت لا تراه، وطالما ناجيته وأنت محجوبٌ عنه.

سيُقال لك: لقد آن أن تلقى مولاك الذي كنت تحبه فكيف لا يحبك! الذي كنت تعبده وترجوه فكيف لا يتقبل عبادتك و عبوديتك ولا يجيبك إلى سؤلك؟! أنّا لمرض الكآبة أن يطوف بكيانك في تلك الساعة!؟ أجل. وما أصدق وأجمل ما يقوله سلمة بن دينار وقد سُئل كيف القدوم غداً على الله؟ قال: فأما المحسن كالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالعبد الآبق يُجر إلى مولاه.

كن محسناً لن تشعر بمرض الكآبة أبداً. وهل يشعر بمرض الكآبة الغائب الذي آن له أن يعود إلى أهله!؟

لكن عندما يكون هذا الإنسان قد أمضى شبابه وكهولته تائهاً عن الله، يُؤلّه آلهةً من غير الله، يُؤلّه أهواءه رعوناته يستجيب لغرائزه فقط، وقد نسي الله الذي يكلمه ويدعوه ويناديه، حتى إذا جاء الموت لابد أن يقع في مرض الكآبة.

ألا تنتبهون إلى قول الله عز وجل وهو يصف علاجاً من أعظم أنواع العلاج، بل هو العلاج الوحيد للمرح - وهو شر أنواع الأمراض - الذي يتجاوز عن حده بدافع السكرة التي حدثتكم عنها، وللكآبة التي تأتي بعد ذلك، علاج هذا المرض وذاك الإكثار من ذكر الله.

من أكثر من ذكر الله عز وجل لم يختنق في سكرة هذه الحياة الدنيا، بل عاش مستيقظاً لمسؤوليات مولاه وخالقه، قلقاً خائفاً من رقابة الله سبحانه وتعالى له، وإلى هذا يُشير قول الله سبحانه وتعالى: "الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ" وأنّى لمن يوجل قلبه بذكر الله أن تُسكره الدنيا أو تُسكره الرعونات والشهوات؟!

ثم إن ذكر الله علاجٌ بعد ذلك لهذه الكآبة، ذكر الله يُحصِّنك ضد كل أنواع الكآبة، ذكر الله يجعلك ولو رأيت شبح الموت يدنو إليك، يرقص قلبك فرحاً، عندما تكون من الذين يمارسون ذكر الله بمعناه الحقيقي الذي وصفه الله عز وجل، وإلى هذا الإشارة في قوله سبحانه وتعالى: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ".

ذكر الله يورث القلق: "الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ" بهذا الوجل تمزق أغشية السُكْر، فلن تسكر عن حقيقتك، وذكر الله يُطمئن قلبك، فبهذه الطمأنينة يبتعد عنك مرض الكآبة وكل ما يشبه ذلك، لكن من هم الذين ينبغي أن نسأل الله لهم الهداية؟

هم الذين عاشوا حياتهم دون أن يعرفوا مولاهم وخالقهم، ودون أن يعرفوا عبوديتهم لله، عاشوا فعلاً كعبدٍ آبق ساح في صحراء هذه الدنيا يميناً وشمالاً، فلما قيل له: تعال تعال لقد جاءت ساعة الرحلة من هذه الدنيا أطبق عليه الكرب الخانق، فماذا عسى أن يُفيد هذا الإنسان اختصاصه التربويّ!؟

عبرة أخذتها أيها الإخوة من هذا الإنسان عندما قيل لي خبره، أحد أساطير علم التربية وعلم النفس كم وكم تحدث عن الكآبة وأسبابها؟ كم وكم نصح الناس كي يبتعدوا عن الكآبة وخطط لهم سبل ذلك، ها هو ذا يقع في براثن الكآبة ذلك لأنه عاش حياته طليقاً عن معنى عبوديته لله بعيداً عن الوقوف أمام هذا الكلام الحلو الرباني: "ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ" لا مولى لهم ولذلك لابد أن يصرعهم هذا المرض.

تحميل



تشغيل

صوتي