مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 03/10/1997

الجهاد الواجب على كل المسلمين

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله ..

هنالك أنواعٌ كثيرة من الجهاد الذي أمر الله سبحانه وتعالى به، وهذه الأنواع المتعددة متفاوتةٌ في الاتساع ومتفاوتةٌ في الصلاحيات، أشمل أنواع هذه الجهاد كلها وأكثرها اتساعاً وارتباطاً بمسؤولية كل فردٍ فردٍ على حدة، جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هو القاعدة الجهادية العظمى التي يجب الانطلاق منها إلى سائر الأنواع الأخرى، وهو النوع الذي لا تتوقف شرعته على ولي أمر ولا على مسؤولٍ كبير وإنما ترتبط مسؤوليته بكل فردٍ فردٍ فردٍ من المسلمين على حدة.

وعلى الرغم من ظهور هذه الحقيقة وجلائها، فإن كثيراً من المسلمين تاهوا عن هذا المنطلق الأول وأعرضوا عنه في غمار تطلعهم إلى أنواعٍ أُخرى لا قبل لهم بها، ولا صلاحية لهم في معاناتها. وكأن الشيطان أراد أن يشغلهم عن هذا الواجب الجهادي المنوط بأعناق المسلمين كلهم، والذي منه تنقدح شرارة الإصلاح في المجتمع، كأن الشيطان أراد أن يجعلهم يُعرضون هذه القاعدة أو ينسونها أو يتناسونها، فشغلهم بالنظر إلى البعيد البعيد الذي لا قبل لهم به ولا سبيل لوصولهم إليه، فقعد جُل المسلمين أو كلهم عن هذا الواجب الجهادي الأقدس ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكأنهم، لم يسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة قلنا لمن قال لكتاب الله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". وما النصيحة إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أو كأنهم لم يسمعوا قول الله سبحانه وتعالى: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".

وعندما نُذكر بعض الناس أو كلهم بهذا الواجب الجهادي الكبير يعتذر البعض منهم بعذرٍ يعجب منه العقل وتستغرب منه النُهى، يقول أحدهم: إننا لا نتمكن من القيام بهذا الواجب؛ فأفواهنا مكممة وإن أمرنا أو ذكرنا عوقبنا. يقولون هذا الكلام ويسعون سعيهم إلى ذلك العمل الجهادي الخطير الكبير جداً الذي دونه خرق القتاد، كأن ذلك العمل الجهادي مفتّحة أبوابه، وكأنه يُقال لهم: تعالوا فمرحباً بكم، واحملوا أسلحتكم وافعلوا ما تشاؤون، فهذا النوع من الجهاد هو النوع المسموح به لكم، أما أن تُذكروا الناس بالمعروف وتنهونهم عن المنكر بكلامٍ مسالم وبحكمة متناهية وأن تصدعوا للحق فهذا ما لا قبل لكم به.

أي عاقل يقبل هذا الكلام؟

الذي يغامر بحياته ولا يسأل: هل أُمكن من فعلي الذي سأقبل عليه أم لا؟ من باب أولى ينبغي أن يغامر بلسانه فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أما أن يكون جباناً في النطق بكلمة حق مغموسة بالحكمة، ثم يكون جريئاً بالمغامرة بروحه، فأشهد ويشهد كل عاقل أن هذا ليس من الجهاد في شيء، وإنما هي رقية شيطان.

هذا التخبط الذي وقع فيه كثير من المسلمين هو الذي أفسد عليهم سلوكهم، وهو الذي نقلهم من حالةٍ من النظام والرؤية السليمة الدقيقة لميزان شرعة الله عز وجل، والفرق بين ما أمر به ونهى عنه إلى حالة من الفوضى والاضطراب نتيجة هذا الأمر الذي أقوله لكم.

هكذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتأمرن بالمعروف أو لتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم عذاباً من فوقكم لا ينتزعه منكم إلا أن تعودوا إلى الله سبحانه وتعالى"

أيها الإخوة واجب الأمر بالمعروف والنهي واجب مقدس يتحمل مسؤوليته كل فرد مهما كانت ظروفه ومهما كانت قواه وقدرته، أقل الدوائر التي ينبغي عليه أن يمارس فيها هذا الواجب دائرة أهله وأسرته، ثم تليه بعد ذلك دائرة أصحابه وإخوانه ومن يلوذون به، وما منا إلا من هو قادرٌ على أن يتحرك ضمن هاتين الدائرتين، تليها الدائرة الثالثة ألا وهو توجيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعامة المسلمين ولحكامهم وقادتهم، وإنما يتعلق هذا الواجب أولاً بمن علموا أحكام الشريعة الإسلامية في المسائل التي ينهضون للقيام بواجب الأمر بالمعروف فيها والنهي عن المنكر، ومن استطاعوا أن ينطقوا بهذا العمل الجهادي أمام عامة الناس أو أمام قادة المسلمين.

وقد لا يكون كل المسلمين قادرين على هذا، ولكن كثيراً من المسلمين يملكون ألسنةً ناطقةً بهذا الواجب، ومع ذلك فهم ساكتون، ويحلمون بذلك النوع الجهادي الآخر، وهذا شيءٌ عجيب جداً، وكأني بالشيطان الذي يخطط هذا التخطيط يقهقه قهقهة شماته وقهقهة استهزاءٍ وسخرية من مسلمين آل بهم الغباء بل آل بهم التخبط إلى مثل هذه الحال.

أما أولئك الذين يقولون: إننا لو أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، ما هي إلا أيام ثم يحال بيننا وبين ذلك. فأحسب أن هذا التصور تصور خاطئ.

عندما يكون الإنسان منضبطاً بالحكمة بكلامه، فهذا هو الشرط الذي لابد منه، وعندما يكون منطلقاً من دافعٍ واحد هو دافع الحرقة على دين الله ودافع الوصول إلى رضى الله سبحانه وتعالى أي الإخلاص لوجه الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الشرط الثاني. وعندما يتبين لعامة المسلمين أو لقادتهم أن هذا الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لا يستخدم ذلك لحلم يحلم به، لا يُسخّر ذلك لرغبة من رغباته الدنيوية لزعامة يطرق بابها، لمال يبتغيه، لحكمٍ يسيل لعابه عليه، عندما يرى عامة المسلمين وقادتهم جزءٌ من عامتهم أن هذا الإنسان ينطلق بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر من رغبة صافية في أن ينفذ أمر الله وأن يؤدي حق الله سبحانه وتعالى المستقر في عنقه، فلن تقع هذه الظنة التي يتصورها بعض الناس، لسوف تُقبل كلمات هؤلاء الآمرين والناهين ما دامت الحكمة موجودة، وما دام الإخلاص متوفراً، وما دامت الخلفيات مفقودة، أي الهدف واحد المتكلم زاهد في الحكم، زاهدٌ في الدنيا، زاهدٌ في كل الأهواء والشهوات والزعامات، كل ما هنالك أنه غيور على دين الله أن لا يختفي بريقه وسلطانه في المجتمع، شفوق على عباد الله أن لا يتيهوا عن صراط الله سبحانه وتعالى، سيجد الآذان الصاغية، وسيجد القلوب المتفتحة إن قُبل كلامه أم لم يُقبل، أقل مراتب القبول أن كلامه سيكون مسموعاً.

ولكن متى تكون الأخطار محدقةً بي عندما آمر بالمعروف أو أنهى عن المنكر؟ عندما أكون بعيداً عن الحكمة التي أمرني الله سبحانه وتعالى بها، عندما لا أكون مخلصاً لله وإنما أبتغي أن أُري الناس بطولتي كيف أنني قلت، وكيف أنني هددت وكيف أنني كنت جريئاً في الكلام، وكيف أنني كنت متهجماً على المسؤولين، أخرج من المسجد بعد هذا وأُصغي إلى إعجاب الناس بكلامي، وأصغي إلى مديحهم لي، فتتطوف النشوة في رأسي وأقول في نفسي: سأقول الأسبوع القادم كلاماً أقوى، وكلاماً يزيد اليقين ببطولتي أكثر، عندما يكون هذا الهدف. الناس يشمون رائحة هدفي، ومن ثم لن يكون هنالك قبول، ومن ثم ربما أجد من يعارض ومن يعاقب.

ولكن عندما تكون الحكمة متوفرة وعندما يكون الإخلاص لله هو الدافع ولا دافع ثاني، وعندما لا أكون منطلقاً من خلفيات من رغبة في زعامة، من رغبة في حكم، من رغبة في مال، من رغبة في وجاهة ... من أي ذلك. من هو الذي سيعارض؟ ومن هو هذا الذي لن يقبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ لا سيما عندما يُقبل هذا إلى آذان الناس وإلى قلوبهم مضمخاً بلوعة الحب، مضمخاً بمعنى الشفقة على عباد الله، مضمخاً بمعنى الغيرة على دين الله سبحانه وتعالى.

أيها الإخوة في هذا العصر ينبغي أن يعلم المسلمون أن أوسع قاعدة جهادية ينطلقون منها - ولا أقول يحبسون أنفسهم بها - إنما هو جهاد الكلمة؛ جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للبيت والأسرة وللأصدقاء والجيران والأتباع ولعامة الناس وقادتهم.

ولو أن هؤلاء الذين يتحركون هنا وهنا وهناك يطرقون باب أعلى نوعٍ من أنواع الجهاد؛ يريدون أن يصلوا إلى قمة الهرم دون أن يتحركوا من قاعدته إلى أعلاه، لو أن هؤلاء الناس تحركوا من قاعدة الهرم وقاموا بواجبهم فحققوا الدرجة الأولى منه، ثم انطلقوا إلى الدرجة الثانية عندما يدعوا الداعي، ثم إلى الدرجة الثالثة وهكذا .. لرأيت أن حال المسلمين كانت على أتم حال، ولرأيت أن سدى ولُحمة هذه الأمة كل ذلك لرأيته متماسكاً. ولكن ما السبب الذي جعل الناس يتيهون عن أحكامٍ بسيطة؟

كلنا يقرأ كلام الله عز وجل: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ" فلماذا نُغمض العين عن هذا الكلام ونصم آذاننا عن فهمه؟ السبب أيها الإخوة أن معنى الإخلاص لوجه الله سبحانه وتعالى قد اُجتث من أفئدتنا، أصبحت هنالك أهداف أخرى، هذا يسعى من أجل زعامة، هذا يحلم بحكم وهذا يحلم بمال، أمنيات كثيرة ... كلٌ يغني على ليلاه، ولكن كلٌ يعلم أن خير مطية تُمطى للوصول إلى هدفه إنما هي مطية الدين، هذه المطية غدت مطية ذلولة لكل أصحاب الأهواء لكل أصحاب الشهوات لكل أصحاب الرعونات المختلفة، ومن ثم كثرت التحركات الإسلامية وتنظر إلى النتائج فلا ترى أي نتيجة تنتظر.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوقظنا إلى هذه الحقيقة التي أقولها، وما الصحوة الإسلامية أن يفتح الإنسان عينيه إلى أمورٍ حركية تتعلق بالإسلام، وإنما الصحوة الحقيقية أن يعود الإنسان فيتلمس مكان الإخلاص لله سبحانه وتعالى بين جوانحه فيغرس جذوة الإخلاص هذه، وإذا بقلبه يتحرق على دين الله، وإذا بفؤاده يرتبط بالله حباً وخوفاً مهابة تبجيلاً تعظيماً، وعندئذٍ ينطلق فيتحقق بأول وأقدس وأوسع أنواع الجهاد كلما رأى منكراً نهى عنه بالحكمة والموعظة الحسنة، ومخلصاً لله سبحانه وتعالى، ولسوف يجد أن الله عز وجل يسكب في قلوب الناس بدءاً من أعلى القمم إلى القاعدة الشعبية؛ يسكب معنى الرضى بكلامه ومعنى التأثر بأمره أو نهيهه عرف هذا من عرف وجهله من جهل.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .

تحميل



تشغيل

صوتي