مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 12/09/1997

إلى الشباب والفتيات اللذين يتخوفون من قوانص الشهوات

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله ...

كثيراً ما يشكو إليَّ شبابٌ وفتيات، صعوبة استقامتهم أو استقامتهن على صراط الله سبحانه وتعالى، وشدة المغريات التي تطوف بهم أو تطوف بهن، عن يمينٍ وعن شمال، وكثيراً ما يشكو الواحد منهم أنه فرح بالاستقامة على صراط الله عز وجل أياماً أو شهوراً، ثم إن رياح الشهوات والأهواء قد عصفت به وأبعدته عن طريق الاستقامة على دين الله سبحانه وتعالى. ويسأل هؤلاء وأولئك عن العلاج.

والغريب أيها الإخوة أن علاج ما يشكو منه هؤلاء الناس أمامهم مرئي، بل هو ملء كل عينٍ وكل سمعٍ وفؤاد. العلاج بعد الإيمان بالله سبحانه وتعالى إنما هو كتاب الله سبحانه وتعالى، كما أكد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كما أوحى كتاب الله سبحانه وتعالى ذاته وذلك في مثل قوله:

"قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ".

العلاج موجود، ألا وهو كتاب الله سبحانه وتعالى.

وكأنّ قائلاً منهم يقول: فكيف السبيل إلى استعمال هذا العلاج؟ كيف السبيل إلى أن نجعل من كتاب الله سبحانه وتعالى حرزاً لنا وحمايةً لنا عن الانحراف؟ كيف السبيل للاستفادة من كتاب الله عز وجل؟ سبيل أخذ الإنسان نفسه بهذا الدواء:

أولاً: أن يتعلم قراءته على معلم وأن يُتقن تلاوته بناءً على تلقٍ ولاحظوا ما أقوله لكم، لا يُقرأ كتاب الله كما تُقرأ الصحف والجرائد ولا يجوز أن يعتمد الإنسان في ذلك على ملكته اللغوية وثقافته العربية، بل لابد من أن يتلق القرآن سماعاً ممن قد تلقاه من عالمٍ مثله. هكذا تلقى الصحابة كلهم القرآن من فم رسول الله وهكذا تلقى التابعون عن الصحابة إلى يومنا هذا.

الخطوة الثانية في استعمال هذا العلاج: هو أن يعمد الإنسان فيعكف على تلاوة كتاب الله عز وجل بعد أن تلقاه تلقياً صحيحاً، يجعل لنفسه ورداً في كل يوم من كتاب الله سبحانه وتعالى يقرأه.

وربما تسرب الشيطان في هذه الحالة فوسوس إلى القارئ قائلاً: وماذا تُغنيك قراءتك؟ وهل تفقه شيئاً ممن تتلو وأنت لا تعلم شيئاً من معنى هذا الكلام الرباني العظيم؟ وربما أصغى المسكين إلى هذه الرُقية الشيطانية وتخيل فعلاً أنه يهذي وأنه يقرأ شيئاً لا يفقهه، ومن ثم ليس له من فائدة في ذلك. الأمر ليس كذلك.

هنالك كلامٌ تتأمله تكون فائدته في فهمك له وفي تطبيقك له، وهنالك كلامٌ فيه سرٌ بالإضافة إلى هذه الفائدة، مجرد قراءتك له يُنير فؤادك، مُجرد رؤيتك لهذه الكلمات متقرباً إلى الله سبحانه وتعالى يُحصِّن نفسك، مجرد ذلك. وهذا ثابتٌ ومقررٌ في كتاب الله سبحانه وتعالى. الإنسان يُؤجر على تلاوة كتاب الله فهم أو لم يفهم، يُؤجر على كل حرفٍ عشر حسنات، ويُؤكد المصطفى صلى الله عليه وسلم ذلك قائلاً: "لا أقول ألف لام ميم حرف بل ألفٌ حرف ولامٌ وميمٌ حرف".

فائدة هذه التلاوة تسري إلى كيانك من حيث لا تشعر، نورٌ يقذفه الله سبحانه وتعالى في فؤادك، إذا أخذت نفسك في هذه الوظيفة وأدمت على التمسك في هذه الوظيفة فإن الله سبحانه وتعالى يجعلك في حصنٍ حصين من هذه المخاوف التي تشكو منها، لن تُحرقك نار الشهوات والأهواء أبداً، ولن تجد للشيطان سبيلاً إليك ليتخطفك من صراط الله سبحانه وتعالى أبداً، هذا إن اتخذت من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى ورداً دائماً لك.

وانظروا كيف كان كتاب الله، بل رب العالمين سبحانه وتعالى يأمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يعكف على تلاوة كتابه المُنزل في كل صباحٍ ومساء، وما أغناه صلى الله عليه وسلم وقد حصّنه الله بحصنه وحرزه المتين من أن يلجئ إلى أي وسيلة أخرى، لكن الله عز وجل إنما حصّن حبيبه محمدا ًصلى الله عليه وسلم بهذا العلاج وأمثاله: "وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا"

فهل يقرأ هؤلاء الشاكون كتاب الله عز وجل في كل صباح؟ هل يجعلون لأنفسهم ورداً من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى؟ أنا أعلم أن كثيرين هم الشباب الملتزمون بأوامر الله، بل الذين يلتزمون بجماعات والحركات الإسلامية أعلم أن فيهم من لا يعودون إلى كتاب الله إلا للاستشهاد بآية، إلا للاحتجاج بنصٍ قرآني من أجل أن يناقشوا به ويجادلوا الآخرين، أما أن يجلس أحدهم ويضع كتاب الله نُصب عينيه ثم يتلو جزءاً أو أكثر أو أقل من كتاب الله عز وجل بجلسة؛ قراءةً سليمة لا يتعتع فيها، فقليلون هم هؤلاء.

إذاً الخطوة الأولى في أخذك نفسك بهذا العلاج أن تتلقى القرآن ممن تلقاه قبلك، والخطوة الثانية أن تجعل لنفسك ورداً كل يوم من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى حسب ظروفك وحسب اتساع وقتك وضيقه.

الخطوة الثالثة: أن تتدبر كلام الله، وأن تتأمل في معانيه، وأن تعمد إلى من يبصرك بمعاني كتاب الله؛ لا أن تعتمد في ذلك على نفسك وأن تُفسر القرآن كما تشتهيه شأن كثيرٍ من المنحرفين عن صراط الله سبحانه وتعالى اليوم. هذه هي الخطوة الثالثة.

والخطوة الرابعة: إذا أمكنتك الظروف، وإذا عدت إلى قوتك وطاقتك، فرأيت أنك قادر على أن تثبت على الخطوة الرابعة، فهي أن تُقبل إلى حفظك لكتاب الله عز وجل أو حفظ المقادير التي تستطيع حفظها منه جهد استطاعتك، ولكني أعود فأقول هذه الخطوة الأخيرة يُشترط فيها أن تكون على يقين أنك ستستطيع المحافظة على ما قد حفظته. فأما إن كنت في شك من ذلك فاعلم أن إقدامك على حفظ ما لا تستطيع أن تجزم أنك ستحافظ عليه معصية من المعاصي.

ورد فيما رواه الإمام أحمد في مسنده أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مؤمنٍ يحفظ كتاب الله ثم ينساه إلا حُشر يوم القيامة أجذم".

ولقد قرر العلماء أن نسيان ما قد حُفظ من كتاب الله عز وجل من الكبائر.

وعجبي لا ينتهي أيها الإخوة من أناسٍ يدفعون الشباب - صغاراً أو كباراً ذكوراً أو إناثاً - إلى حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى غيباً، ويتباهون بين الحين والآخر بأن عدداً من هؤلاء الشباب قد حفظوا كتاب الله، هذا حفظه خلال ستة أشهر، وذاك وعاه وحفظه غيباً خلال ثلاثة أشهر، هذا لم يبلغ الخامسة عشر، وذاك لا يزال في الثالثة عشرة ... ويتباهى المعلمون بهذا، ويعرضون بضاعتهم متمثلةً في هؤلاء الصغار ينهض كل واحد منهم ليقرأ غيباً جزءاً مما قد حفظه.

أنظر إلى حال هؤلاء بعد سنوات وأتعقبهم، هذا دخل الجامعة وأصبح طالباً في الجامعة، وذاك اتجه إلى حِرفة من الحرف، وأسأل ماذا بقي في رأسك مما قد حفظته من كتاب الله خلال ستة أشهر، وإذا بكل ما حُفظ قد طار وتبخر، لأن الرجل لا يستطيع أن يقرأ في كل يوم خمسة أجزاء ليحافظ على ما قد حفظ، هو طالب في الجامعة أو هو حرفي يخرج من داره في الثامنة ويعود في الثامنة، متى يستطيع أن يُحافظ على ما قد حفظ؟

نعم أنت معذور، ولكن من الذي كلفك أن تحُمِّل نفسك ما لا تطيق حمله؟

ولعلك هنا أيضاً معذور، لكن الرجل الذي يتحمل هذه المسؤولية هو من دفعك دفعاً إلى أن تحفظ كتاب الله عز وجل وهو لا يعلم أنك قادرٌ على المحافظة على ما قد حفظت.

كثيرات هنّ الفتيات اللائي حفظن كتاب الله عز وجل في أسنانهن صغيرة، والإنسان يملك خيالاً قوياً في الصغر بموجبه يحفظ بسهولة، ولكن ما إن تنقلت هذه الفتاة من مرحلة إلى مرحلة، وتزوجت أو دخلت في مراحل الدراسة الجامعية أو نحوها حتى نسيت كلما قد حفظته.

وقليلون جداً وقليلات جداً الذين واللائي يحافظون ويحافظن على ما قد حفظوه من كتاب الله سبحانه وتعالى.

هذا الأمر الخطير أقوله لكم بهذه المناسبة، ولكني أعود فأقول للذين يشكون ويتخوفون من قوانص الشهوات وشياطين الإنس والجن. أقول لهم:

العلاج أمامكم ولكنكم لا تستعملونه ألا وهو كتاب الله سبحانه وتعالى، أنا لا أقول لكم احفظوه غيباً ابذلوا ربع هذه المهمة في أن تجعلوا لأنفسكم ورداً كل يوم من تلاوة جزءٍ من كتاب الله سبحانه وتعالى، أروني إنساناً شاباً أو فتاةً ثابر مثابرة دقيقة على هذه الوظيفة ثم استطاعت شياطين الإنس والجن أن تتخطفه من صراط الله سبحانه وتعالى.

ألم يلتزم الله سبحانه وتعالى أن يحفظ عباده بواسطة هذا النور وأن يجعلهم في كلاءته وحماه؟ ولكني أعود فأقول: على الرغم من كثرة معاهد الأسد لتحفيظ القرآن، وعلى الرغم من الحلقات الكثيرة لتحفيظ القرآن في المساجد وغيرها، ولكني أنظر يميناً وشمالاً فلا أرى تياراً واسعاً يتشكل من أولئك الشباب الذين يقرأون كتاب الله كل يوم، حصة يقرؤونه لا غيباً بل نظراً إلى كتاب الله سبحانه وتعالى، هذا ما نبحث عنه.

وخير حصنٍ في هذا العصر وفي كل عصر يتقي به الإنسان شياطين الإنس والجن، ويتقي الشهوات والأهواء إنما هو كتاب الله سبحانه وتعالى. من أراد أن يغرس بين جوانحه محبة الله فليعكف على تلاوة كتاب الله. من أراد أن يغرس بين جوانحه المخافة من سخط الله فليتعهد نفسه بتلاوة كتاب الله، من أراد أن يكون من الذاكرين الله كثيراً فليتعهد نفسه بتلاوة كتاب الله عز وجل. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي