مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 05/09/1997

لماذا غدا الإسلام كلأً مباحاً لكل متصدر جاهل

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

إن الإمام مالكاً رحمه الله تعالى ورضي الله عنه، عندما قال كلمته المشهورة المعروفة: "إن هذا العلم دينٌ، فانظروا عن من تأخذون دينكم"، لم يقل ذلك إنطلاقاً من هوىً في نفسه، ولا اجتهاداً من دخيلة ذهنه، ولكن هذه الكلمة التي قالها إنما كانت ثمرة معرفةٍ لحقيقة الدين الذي ابتعث الله به رسله وأنبياءه، وختمهم بخاتمة الرسل والأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام، أخذه مما يدل عليه كلام الله ومما أكده رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولعل من أبرز ما اعتمد عليه الإمام مالك في هذا، هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكنه يقبضه بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمٌ اتخذ الناس رؤوساً جُهّالاً فأفتوهم بغير علمٍ فضلوا وأضلوا".

فالإمام مالكٌ وغيره إنما اعتمدوا في القاعدة التي نبهوا الناس إليها على مثل هذا الحديث الصحيح الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن هنا فقد كانت أولى مهام الخلفاء الراشدين، ثم الخلفاء الذين جاؤوا من بعدهم، هو حراسة هذا الدين والنظر إلى أفواه الناطقين به والمتكلمين عنه، فكانوا يراقبون حلقات العلم، وحلقات الدروس، فإن وجدوا هنالك إنساناً قد دس أنفه فيما لا يفقه وفيما لا علم له به، انتزعوه من حلقته وردوه إلى ساحة التعلم، وردوه إلى ساحة المعرفة، فإذا تعلم دين الله سبحانه وتعالى وأصبح ممن يستطيع أو يملك أن ينطق باسم هذا الدين وأن يتحدث عن كتاب الله سبحانه وتعالى ومصادر الشريعة الإسلامية، كان له بعد ذلك أن يجلس فيتكلم كما يشاء.

وهكذا سارت الأمور على هذا النحو خلال القرون المتصرّمة من عصر الإسلام الذي شرفنا الله سبحانه وتعالى به، كانت مهمة القادة والخلفاء والحكام الأولى حراسة دين الله سبحانه وتعالى، وكان أخطر أنواع هذه الحراسة حراسة أفواه الناس، ترى بما يتكلمون، وعما يعربون، وما هي المكنة العلمية التي يتمتعون بها؟

إلى أن خلف من بعد أولئك الناس خلفٌ لم يعودوا يهتمون بهذا الدين إطلاقاً، سواءٌ بُنيت أركانه واستقرت دعائمه وشمخ قانونه وشرعته، أو جاء من ينسفه ويحاول أن يهدمه بالمعاول المتنوعة. جاء من لا يبالي بأمر هذا الدين سواء أوغل فيه المتخصصون بشأنه أو تسرب إليه الزائفون الذين يتقنعون بقناع الإسلام، وما هم من الإسلام في شيء، ومن ثم كثر المبطلون الذين يتقنعون بقناع الإسلام ثم ينطقون باسمه، كثر المزيفون الذين يتظاهرون بالغيرة على الإسلام ثم يتسللون إلى ساحته ويتكلمون باسمه، كثر الجهّال - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الذين لم يتعلموا دين الله عز وجل ولم يعكفوا على دراسة شيء من مصادره، وما هم من العلم به في شيء قط، ولكن لأمرٍ ما ولغاية ما ولمصلحة دنيوية ما وما أكثر هذه المصالح، تظاهروا بالعلم وهم جاهلون وخاضوا عبثاً بالإسلام وهم يتظاهرون بالغيرة على دين الله عز وجل.

ولو كان هنالك قادة يحرسون دين الله سبحانه وتعالى، كما كان الذين من قبل يحرسون دين الله عز وجل من خلال النظر في حال من ينطق باسم الدين ومن ثم يتحدث عن الإسلام، إذاً لما وجدنا هذا العبث يتسرب إلى حمى الدين أبداً، ولما وجدنا هنالك من يتكلم باسم الإسلام وهو أحوج ما يكون إلى أن يتعلم حقيقة الإسلام، فضلاً أن يتعلم أركان الإسلام وفقهه وشرائعه.

ومن هنا أُتيح لأعداء الدين أن يُطوروا سبيلهم في حرب هذا الدين، وأن يجددوا أسلحتهم التي يحاربون بها هذا الصرح الإسلامي الشامخ، فأصبحت الطريقة الحديثة للكيد لدين الله ولحرب هذا الإسلام هو أن يُحارب الإسلام بسلاحه، وأن يُكاد له داخل دائرته.

كثُر الذين يتقنعون بقناع الإسلام .. كثُر الذين يظهرون الغيرة على دين الله عز وجل، ثم يتسربون تحت ستارٍ من هذا القناع، تحت ستارٍ من هذه الغيرة الكاذبة المصطنعة ليعيثوا فساداً بدين الله سبحانه وتعالى، وليتكلموا فيه كما يشاؤون، وليخلطوا الحق بالباطل كما يهوون وكما يريدون بل كما يراد له.

أين هم أولئك الذين كانوا يحرسون دين الله من العبث؟

أين هم أولئك الذين كانت مهمتهم الأولى أن يرقبوا أفواه الناس، حتى إذا وجدوا من يعبث باسم الإسلام باسم الغيرة عليه اقتنصوه وعاقبوه وحذروا المجتمع كله من أن يوجد من يعبث بالإسلام مثل عبثه؟ لا تجد، فرغت الساحة من أولئك الحراس.

أيها الإخوة نحن ننظر اليوم يميناً وشمالاً، بحثاً عن إنسانٍ ما هو بطبيب، ولكنه يتقنع بقناع الطب ويتظاهر بالغيرة على الطب ومصيره، ثم يتكلم في المجتمعات عن الطب وضرورة تطويره وتجديده، أبحث في مجتمعنا عن إنسانٍ ما هو بطبيب ولكنه يتظاهر بأنه يغار على الطب ويتقنع بقناع من يعرف معنى من معاني الطب فلا أجد، ولو وجدت إنساناً بهذا الشكل لرأيت أن حراس هذه الأمة يتسارعون إليه ليضبطوه بالجرم المشهود وليعاقبوه شر أنواع العقاب، ولعلكم تعلمون أن فلاناً من الناس منذ فترة عبث وعاث بشيء من قوانين الطب وأدويته، ووصف بعض الأدوية لبعض المرضى وهو لا يعلم من الطب شيئاً، فكان العقاب العاجل يترصده، وها هو ذا الآن يلاقي عقابه العاجل.

وأنظر يميناً وشمالاً فلا أجد إنساناً ليس له أي اختصاصٍ بالهندسة وليس له أي باعٍ فيها، ولكنه يتظاهر بأنه عليمٌ بها ويتظاهر بأنه خبيرٌ بها وغيورٌ عليها، ثم يطرح النظريات التي لم يعرفها غيره في الهندسة وضرورة تجديد قوانينها وقواعدها، ألتفت يميناً وشمالاً فلا أجد إنساناً يفعل هذا ويعبث بهذا العلم بشكلٍ من الأشكال. وأنا أعلم يقيناً أن الحراس الذين يحرسون هذه الساحة يمنعون وجود مثل هذا الدجال أن يتسرب إلى حمى هذا الفن، ولو وُجد من يتسرب لوجد العقب بانتظاره.

ولا أعلم أن هنالك أي إنسانٍ يحاول أن يعبث بأي فن من الفنون التي تعرفونها بشكلٍ من الأشكال.

ولكني أنظر إلى ساحة الدين، أنظر إلى ساحة الإسلام، فما أكثر ما أجد أناس لا خبرة لهم بالإسلام، ولا علم لهم بشيء من حقائقه، ولم يعرف المجتمع أنهم أتعبوا أنفسهم بدراسة شيءٍ من أصوله أو فروعه، وإذا بك تنظر وقد تقنعوا بقناع الإسلام، وقد تظاهروا بغيرة ما مثلها غيرة الأنبياء والرسل على دين الله سبحانه وتعالى، ثم راحوا يتسللون إلى حمى هذا الدين يعبثون به كما يشاؤون، ويتحدثون باسم الإسلام بل باسم الله عز وجل كما يحبون، وأنظر فلا أجد أحداً من أولئك الحراس للطب للهندسة للفنون للعلوم الأخرى، لا أجد هنالك أحداً يعاقبهم أو يحاورهم أو يسائلهم عن المكنة التي على أساسها يدخلون هذا المدخل الذي لا شأن لهم به، لا أجد.

لماذا آل الأمر إلى هذا الشكل؟ لماذا يُتم الإسلام أيها الإخوة على هذه الشاكلة؟ لماذا غدا الإسلام كلأً مباحاً لكل غادٍ ورائح، في حين أننا ننظر إلى سائر العلوم والفنون الأخرى فإذا هي محصنة بأسوارها، وإذا بالحراس واقفون أمناء عليها، ما الحكمة؟ أي هذه العلوم أهم وأخطر؟

نحن خلقنا لأجل هذا الدين، لم نخلق من أجل طب، ولا هندسة، ولا فنون ولا آداب وإن كنا قد كُلفنا أن نجعل من هذه العلوم كلها خدماً لدين الله عز وجل، نعم.

أين هم الذين يحرسون دين الله عز وجل، كلكم يعلم ويسمع ويرى، في كل يوم من يأتي فيتقنع بقناع الإسلام، وقناع الإسلام لا يكلف شيء، لا يكلف أكثر من عمة وأكثر من لحية ومظهرٍ ديني وكلمات إسلامية، ربما كان هذا الإنسان تاجراً، ربما كان هذا الإنسان فناناً ربما كان هذا الإنسان مزارعاً، ربما كان هذا الإنسان طبيباً، ربما كان هذا الإنسان مهندساً لا شأن له بالإسلام قط، خلال أربع وعشرين ساعة يولد ولادة جديدة أمام الناس، له لحية طويلة، وله عمة كبيرة، ويجلس ليتكلم باسم الإسلام. متى أتيح له أن يتعلم فيتكلم؟! لا أحد يعرف. وتنظر فتجد أن الجرائد تدفعه دفعاً إلى أن يهذي بدلاً من أن تقول له: من أين لك هذا العلم؟

يقول أحدهم: ينبغي أن يجدد الفقه الإسلامي، لابد من تجديد الفقه الإسلامي، وتُصغي له أفواه الجرائد بكل تقديس وإجلال، ثم يعود فيقول لماذا يخاف المسلمون من تجديد الفقه الإسلامي، ويصغي له هؤلاء الآخرون وربما صفقوا له أيضاً.

ونحن المسلمين الأمناء على دين الله ماذا نقول؟ إننا لا نخاف من أن يُجدد الإسلام بأيد أئمته، والإسلام دائماً جديد، والفقه الإسلامي دائماً يتجدد، ومنذ أن بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والفقه الإسلامي يسير طبق قواعد لا طبق هذيان، يسير طبق قواعد علمية مع حاجة المجتمعات الإنسانية الحقيقية.

لكن هذا التجديد إنما يتم بإشراف من؟ بإشراف أئمة هذا الدين بإشراف علمائه المجتهدين.

عندما يتكلم علماء هذه الأمة المجتهدون عن ضرورة التجديد فبخٍ بخٍ لهذا الكلام، وما منا إلا أن يصدقه لأن هذا الإسلام كان ولا يزال يتجدد، ولكن عندما يقفزُ تاجرٌ من متجره ليلبس الجبة وليضع على رأسه العمامة وليطلق اللحية وهو لا يعرف من دين الله سبحانه وتعالى شيئاً، ثم يتحدث عن ضرورة تجديده، فالخوف عندئذٍ إنما هو أن يعبث بدين الله جاهلٌ كهذا الإنسان، ليس الخوف من أن يتجدد.

عندما يأتي طبيب متخصص ويقول: ينبغي أن نجدد الطب، فالمجتمع كله يرحب بهذا الكلام، لأن طبه وأمانته على طبه خير دليل وشاهد على أنه إنما يريد أن يخدم المجتمع الإنساني من خلال هذا الذي يقول. ولكن عندما يأتي فلاحٌ أو عندما يأتي تاجرٌ أو عندما يأتي مهندسٌ لا خبرة له بالطب، ويدعو المجتمع إلى تطوير الطب، فإن كل عاقل يعلم أن من أننا من هذا الكلام أمام خطر، كل عاقل يعلم أننا من هذا الكلام أمام خطرٍ ماحق.

وليت شعري لماذا لا يُدعى إلى مثل هذا الكلام على منبر الصحافة - أو غيرها - العلماء الذين يشهد لهم المجتمع بالعلم الغزير، وبالأمانة على دين الله سبحانه وتعالى. لماذا لا يُدعى هؤلاء إلى الحديث عن هذا الموضوع؟ ولماذا يُستنطق الجاهل الذي أمضى حياته كلها بالتجارة أو الزراعة أو الهندسة أو نحو ذلك.

لو أن إنساناً مثلي خرج يتكلم على الناس عن الفنون وتطويرها وأدابها لأسكته المجتمع، ذلك لأنني لست متخصصاً بهذا المجال.

ولو أن إنسانا ًمثلي خرج على المجتمع يتكلم عن الزراعة وطبائع الأرض والتربة الجيرية والتربة الطينية ونحو ذلك لأسكته المجتمع، لأنه ليس متخصصاً بهذا الأمر. ولقال الناس إن هذا الإنسان خطر على مصالح العباد.

فلماذا يستدعى إلى منبر الصحافة أناسٌ لا خبرة لهم بدين الله عز وجل، ولا علم له بدين الله سبحانه وتعالى بشكلٍ من الأشكال ثم يُستنطقون باسم الإسلام وما هم من العلم في الإسلام في شيء بشكل من الأشكال. والعلماء المتخصصون بدين الله يملأون رحب هذا العالم لا يزال ولله الحمد، لماذا يُستقدم الواحد من هؤلاء؟ لكي يتحدث عن تجديد الإسلام.

ترى ما هي المشكلة الجديدة التي طرأت والتي واجهها المجتمع العربي والإسلامي اليوم، ثم نظر فلم يجد غطاءً لهذه المشكلة في شرع الله؟ أنا أتحدى هؤلاء الجهال الذين يدعون إلى تطوير الفقه وإلى تجديده أن يأتوا بمثالٍ لمشكلة جديدة طرأت ثم لم تغطى هذه المشكلة في هذا العصر أو قبل هذا العصر بحكم من أحكام الشريعة الإسلامية، ماذا تصنع المجاميع الفقهية في هذا العالم وهي أكثر من خمس مجامع فقهية كلها موجودة عملها أن تترصد المشكلات الحديثة لتدرسها ولتغطي هذه المشكلات بأحكام ٍفقهية متنزلة من عند الله سبحانه و تعالى. ولكن الجاهل لا يعلم عن الماضي شيئاً ولا عن الحاضر شيئاً.

أيها الإخوة دينكم يُحارب من داخله، وقد مضى ذلك العهد الذي يمتشق فيه السلاح البعيد عن الإسلام، البعيد عن دائرة الإسلام، عندما كان الإسلام يُحارب بأنه دين تخلف أو دين رجعية، تذكرون كلمة رجعية يوماً ما كيف كان الإسلام يوسم، بها مضى ذلك العهد الذي كان الملحد يتباهي بإلحاده، ويعلن أن لا إله والكون مادة، مضى ذلك العهد أولئك الناس أنفسهم قد ارتدوا أقنعة جديدة أقنعة إسلامية تتجاوز مظاهر الإسلام لدى المسلمين فعلاً، وأخذوا يعبثون بالإسلام من داخله:

مرةً باسم القراءة المعاصرة التي يحاولون أن يجعلوا من القرآن بواسطتها ككرة يقذفونها فيما بينهم أرباب هذه القراءة المعاصرة.

ومرةً يأتي من يقول إن السنة لا داعي إليها فكتاب الله يغني عن كل شيء.

ومرة يأتي ثالثٌ يقول: قد غدى الفقه قديماً قديماً جداً وما أحوجنا إلى أن نجدده وكلٌ يحاول أن ينهش من هذا الدين من الجهة التي يتمكن أن ينهش منها، والكل متقنعٌ بقناع الإسلام.

ولكن دين الله لن يُغلب على أمره: "يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون" ولكن شرفٌ شرفنا الله به ينبغي أن لا نتقاعس عنه وينبغي أن نعلم كيف يُأتي هذا الدين، وبأي وسيلة، وكيف هو النهج الجديد لمحاربة دين الله.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي