مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 01/08/1997

لو ملأ الله الدنيا مبهجات وطهّرها من المنغصات !..

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله...

آياتان في كتاب الله سبحانه وتعالى استوقفتا مشاعري وعقلي قبل قليلٍ من سورة الكهف، ورأيت فيهما تعريفاً موجزاً جامعاً لحقيقة هذه الحياة الدنيا التي نعيشها، ورأيت فيهما جواباً عن سؤالٍ يجوب في خاطر كثيرٍ من الناس، وطالما عرضوه وسألوا عن الجواب عنه، أما الآياتان فهما قول الله سبحانه وتعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا، الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) .

ليت أننا جميعاً عندما نقرأ كتاب الله سبحانه وتعالى نتدبر البيان المُنزل والذي يُخاطبنا الله سبحانه وتعالى به من خلال هذه الآيات، إذاً لأثلجت صدورنا هذه الحقائق التي يخاطبنا الله عز وجل بها، ولرأينا فيها الجواب عن كثيرٍ من الأسئلة التي تطوف بأذهاننا، ولانتقلنا من حالة الحيرة والاضطراب إلى مستوى اليقين والطمأنينة والرضا عن الله سبحانه وتعالى.

يُصور لنا البيان الإلهي هذه الحياة الدنيا على أنها ظلٌ زائل ويُشبه الباري سبحانه وتعالى هذا الظل الذي لا قرار له بشيءٍ كم وكم نراه، ولكننا لا نتدبر وجه الحكمة في هذا الشيء الذي نراه، هذا النبات الذي يخضرّ على وجه الأرض في فصول الربيع من كل عام، وتنظر وإذا أنت أمام لونٍ تتمتع به الأبصار، وتنتشي به النفوس، وتسري مشاعر الازدهار منه إلى أعماق أعماق المشاعر وما هي إلا ساعات أو أيام وإذا بهذه النضرة المتألقة قد تراجعت إلى ذبول، ثم تنظر إلى هذا الذبول، وإذا به قد عاد كما قال الله سبحانه وتعالى: (هشيماً تذروه الرياح) ... (ذات اليمين وذات الشمال).

ظاهرةٌ نراها جميعاً بأبصارنا ولها دلالة يريد الله سبحانه وتعالى أن ننتقل منها إلى الصورة العظمى، ألا وهي صورة هذه الحياة الدنيا التي نعيشها، والله سبحانه وتعالى في هذا الكلام المبين يُوضح لنا العلاقة السارية بين المثال والممثل له، هذه الحياة التي نعيشها - طال أمدها أو قصر - ليست إلا صورةً دقيقة لهذا النبات الأخضر الذي تتمتع به الأبصار وتنتشي به البصائر، وانظر إلى عمره القصير وانظر إلى الساعات التي تعيشها هذه النباتات ما هي إلا ساعات قليلة حتى يذبل النبات، وما هي إلا ساعات حتى يتحول هذا النبات إلى حطام كما يقول الله سبحانه وتعالى؛ ذلك لأن الله عز وجل شاء أن تكون هذه الحياة الدنيا ممراً وأن لا تكون مقراً، شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الحياة التي نعيشها أشبه ما تكون بنفق يمر من داخله قطار ليس لهذا القطار من وقفة فيه أبداً، فأنت عندما تعيش حياتك هذه - طالت ساعاتها أو قصرت - إنما تمر بنفق أوله ساعة الولادة وآخره ساعة الموت أي الانتقال إلى رحاب الله سبحانه وتعالى، أي إلى الحياة البرزخية.

ولما كانت هذه الحياة الدنيا على هذه الشاكلة، لما كانت ممراً ولم تكن مقراً أبداً، كان من مظاهر لطف الله بالإنسان، وكان من مظاهر كرم الله ورحمته بالإنسان أن لا يجعلها داراً متألقةً بأسباب السرور، أن لا يجعل هذه الدار التي يمر بها الإنسان محشوة بألق السعادة ومحشوة بمقومات النشوة والازدهار والخير وما إلى ذلك..، لو أن الله عز وجل جعل هذه الحياة الدنيا على الرغم من أنها ممرٌ لا بد أن تتجاوزه، لو أن الله جعل هذه الحياة صافية ًعن الشوائب مليئة بالخيرات والمبهجات، مليئة بمقومات السعادة والسرور ليس إلا، إذاً لتعلقت بهذه الحياة نفوسنا، ولاطمأنت إليها مشاعرنا، ولتعلقت بها أفئدتنا، ولتعشقناها تعشقاً كبيراً لا نهاية له، لأننا نلتفت يميناً ويساراً، ونتجاوز الساعة إثر الساعة إثر الساعة، فلا نرى في هذه الحياة إلا ما يبهج، ولا نرى فيها إلا ما يجعل الإنسان يتعلق بها، فإذا نادى منادي الموت أن قد حانت ساعة الرحيل، إذا جاءك ملك الموت يطرق بابك يقول لك: لقد حان أن تنتقل من هذه الحياة التي كنت تمر بمراحلها خلال عمرك الطويل أو القصير مرحلةً إثر مرحلة، كيف تكون مشاعرك عندئذٍ وقد تعلقت نفسك - بكل شراشرها - بهذه الدنيا المبهجة المتألقة المتراقصة من حولك؟ كيف تكون مشاعرك وأنت تُدعى إلى مفارقتها؟ إذاً لكان فراقك لهذه الدنيا أشبه ما يكون بمن يحاول أن يُخلص كتلةً من الحرير من مجموعة أشواك تعلقت هذه الكتلة بها. تصور وأنت تحاول أن تنتزع هذه الكتلة من الحرير من تلك الأشواك كيف تتقطع؟ هكذا تتقطع نفسك تعلقاً بالدنيا التي عشتها عندما يدعوك داعي الله سبحانه وتعالى إلى الانتقال إلى الحياة الثانية الحياة البرزخية.

لو أن الله عز وجل حشى هذه الدنيا بالمبهجات وبأسباب السرور وبأسباب السعادة ليس إلا ولم يدخل إليها شوائب من المنغصات لكان ذلك باعثاً على الشك في رحمة الله عز وجل ربما، باعثاً على الشك في حكمة الله سبحانه وتعالى ربما، لأن الممر ينبغي أن يكون منطبعاً بطابع الممر، ولأن المقر هو الذي ينبغي أن تكون فيه هذه المظاهر المدهشة الصافية عن الشوائب كلها، فمن أجل هذا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى كما أوضح لنا في هاتين الآيتين.

ونظراً إلى أنه أوضح لنا أن هذه الحياة نفقٌ نمر به وليس دار مقام نركن إليها؛ اقتضت حكمة الله واقتضت رحمة الله سبحانه وتعالى أن يجعل خير هذه الدنيا ممزوجاً بكثير من الشرور، وأن يجعل مبهجاتها ممزوجة بكثير من المنغصات، وأن يجعل حلوها مقترناً بكثير من المر؛ حتى لا تتعلق بهذه الدنيا، وحتى تتذكر في كل ساعة من ساعات تقلبك فيها أنك تمر، وحتى تعيش مع قول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)

لا تنس أنك تسير، وأنك في كل لحظة تضع الدقيقة التي تمر بها وراء ظهرك، ولا تحتاج إلا البلغة التي ينبغي أن يتزود بها كل إنسان راحل، كزاد إنسان يسير إلى الغاية التي يريد أن يستقر فيها.

فإذا من يسأل عن أسباب اختلاط الشرور في هذه الدنيا، إذا جاء من يسأل عن الحكمة من هذه الدنيا مليئة بأشواك الشرور والمصائب والآلام ينبغي أن يعلم الجواب، إن كان ممن يتدبر كتاب الله سبحانه وتعالى، بل ينبغي أن يعلم أن هذا من مظاهر فضل الله سبحانه وتعالى وكرمه.

أنا عندما تحين ساعة رحلتي من هذه الدنيا إلى رحاب الله عز وجل، وقد بلوت سيرة هذه الحياة الدنيا ورأيت أنه ما من لقمةٍ أتمتع بها إلا ومن قبلها أو من ورائها غصة أعاني منها، ثم ينادي منادي الرحيل أن قد حانت ساعة الانتقال إلى الله، وقد أصلحت الطريق بيني وبين الله سبحانه وتعالى جهد الاستطاعة، واصطلحت معه. فإنني أرحل من هذه الدنيا غير ملتفتٍ إليها، وغير عابئ بها، وغير متعلقٍ بها، بل أنتقل إلى الله سبحانه وتعالى وأنا أعلم أن قد حانت ساعة الانتقال من الغصص إلى الركون إلى النعيم الصافي من الشوائب.

أما الإنسان الذي يخب في ظلمات هذه الحياة الدنيا وهو لم يعرف مولاه وخالقه ولم يتعرف على نفسه، له شأن آخر نسأل الله له الهداية، أما نحن وقد بصرنا الله بأنفسنا وعرفنا منهاج هذه الرحلة، وعرفنا على ذاته العلية فالأمر مختلف. ومن هنا أيها الإخوة قضى الباري سبحانه وتعالى بعظيم حكمته أن يجعل الإنسان يتعب في هذه الحياة، كما قال في محكم تبيانه: (وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ).

ما أكثر من قال ياربي لماذا؟ لماذا تُنكس عبداً ذوقته طعم العافية وطعم الشباب ومتعته ولذائذه؟ يأتي الجواب: عندما تحين ساعة الرحيل عن هذه الدنيا ينبغي أن تكون ساعاتك وعلاقتك بالدنيا علاقة تبرمٍ بها، لا علاقة إقبال إليها حتى تهون ساعة انتقالك من هذه الدنيا، وهذا يقتضي أن يُدبر الإنسان بعد إقبال، ويقتضي أن يكون الحال كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۖ أَفَلَا يَعْقِلُونَ) ينكسنا الله في الخلق من أجل أن تتصفى نفوسنا عن شوائب التعلق بالدنيا، تقلصت الغريزة وانتهت فعاليتها، تقلصت أهواؤك وشهواتك ولم تعد متعلقة برغائبها، والآن حانت ساعة التأمل في نعيم آخر.

تلك هي رحمة الله وذلك هو عظيم حكمة الله سبحانه وتعالى، وللعبرة أقول لكم أيها الإخوة، قريبة لي وقعت في براثن مرض ولما دنى الموت وهي لا تعلم هل سينتهي مرضها بعافية أو بوفاة، كان الأقربون من حولها يُمنونها بالعافية ويبشرونها بالرجوع إلى ألق الحياة وبهجتها التي كانت تتقلب فيه، فماذا قالت؟ قالت وهي مشمئزة من هذا الذي يمنونها به: ذكروني بمن أنا مقبلة إليه، ذكروني بالنعيم المقيم، لا تحدثوني عن الدينا بما فيها من غُصص ونكبات وآلام، لست متعلقة بشيء من ذلك.

ما رأيت عظيم رحمة الله بالإنسان في ظاهرة من الظواهر كما رأيتها في هذه الظاهرة، قربت ساعة الرحيل من هذه الدنيا كم كان الألم شديداً لو أنها ارتحلت وهي متعلقة بزخرف هذه الدنيا؟ كم كان الألم شديداً لو أنها ارتحلت عما هي مدبرة عنه وهي متعلقة به، ولكن فضل الله سبحانه وتعالى جعلها تتبرم مما قد حان أن تنفض يدها منه، وتُقبل بالأمل والتعلق إلى ما قد حان أن تنتقل إليه. وهذا شأن حكمة الباري مع الناس جميعاً.

فمن أدرك هذه الحكمة ووعاها كان قلبه وعاءً لحب لا ينتهي لمولاه وخالقه سبحانه وتعالى، وأدرك حقيقة معنى قول الله سبحانه وتعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم). وصدق الله القائل في محكم تبيانه " اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) .

اللهم بصرنا بهذه الحقيقة، اللهم اجعلنا على ميعادٍ يوم القيامة مع رحمتك وفضلك وإحسانك.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي