مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 25/07/1997

محبتنا لرسول الله ... دعوى تحتاج لبرهان

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

لقد دأب عامّة المسلمين على الاحتفال بذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال هذا الشهر المبارك من كل عام. ولا شك أن هذا عملٌ مبرور، وليس في الناس من يملك منطقاً يستطيع أن يعتمد عليه في الانكار على من يريد أن يفتخر بانتمائه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يثني عليه بمناسبة أو بدون مناسبة، أو أن يسعى إلى تجديد البيعة له وترسيخ محبته بين جوانحه، ليس في الناس من يستطيع أن يمنع المسلمين عن أن يُعبروا عن مشاعرهم هذه بمناسبة أو بغير مناسبة.

ومن العجيب أن في الناس الذين يحتفلون بذكريات ملوكهم خلال كل عام، ملوكهم الغائبين أو الحاضرين، عندما تمر ذكرى ولادةٍ أو وفاة لأحدهم في هؤلاء الذين يحتفلون بذكرى ملوكهم ويستنطقون الجرائد بهذه الذكريات وبالحديث عن مناقب أولئك الملوك، من ينكر مثل هذا العمل ذاته عندما يكون احتفاءً بذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدري العاقل لماذا يُبيحون هذا الأمر لملوكهم ولرؤسائهم، ويستنطقون صحفهم بالعناوين العريضة الكبرى؛ حديثاً عن نعوت ملوكهم بمناسبة مرور يوم ولادتهم وذكراها ثم يمنعون هذا الحق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يمنعون عامة المسلمين أن يمارسوا مثل هذا الحق اتجاه من هو أعلى من ملكٍ ومن رئيس وحاكم، ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذاً لا يستطيع أحدٌ أن يمنع المسلمين من أن يحتفلوا بطرقهم الخاصة بذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ينبغي أن نعلم أن هذه الاحتفالات كلها إن هي إلا تعبيرٌ عن أن هؤلاء المسلمين لا يزالون أتباعاً لرسول الله، وأن هؤلاء المسلمين يسيرون على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم في كل عامٍ في مثل هذه الأيام يجددون البيعة لنبيّهم صلى الله عليه وسلم.

هذه الاحتفالات لا تعبر إلا عن هذا المعنى، وهذا الكلام لكل مسلمٍ أن يقوله ولا شك، ولكن ينبغي أن نعلم أن هذا الكلام دعوى، فإما أن يكون صاحبها صادقاً وإما أن يكون كاذباً. لك أن تقول في مثل هذه المناسبات: إني أفتخر بانتسابي إلى محمد بن عبد الله خاتم الرسل والأنبياء، ولك أن تعبر عن إعجابك به وعن حبك له في مثل هذه المناسبة، ولك أن تعبر عن التزامك بالسير على صراطه، ولكن لا تنسى أن هذا كله دعوى تطرحها، ثم إما أن يصدق سلوكك هذه الدعوى أو يكذبها، هذا ما ينبغي أن نقف عنده، يجب أن نتساءل هل تُطابق دعاوينا في مثل هذه الاحتفالات والمناسبات سلوكاتنا وأعمالنا؟

إن كانت مطابقةً فهذا مما يرفع الرأس عالياً ومما يبعث في النفس تفاؤلاً كبيراً. أما إن كانت الدعاوي في واد والأعمال والسلوكات في وادٍ آخر، فلا شك أن المصيبة كبيرة وأن هذه الاحتفالات ستصبح غداً شاهداً علينا بدلاً من أن تكون شاهداً لنا.

عندما ننظر إلى أجهزة الإعلام التي تُغطي العالم العربي والإسلامي كله، نجد الكل يلتقي على الاحتفال بذكرى مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام. إذاً هنالك شيءٌ يجمعهم هذا الأمر الذي يجمعهم هو اتفاقهم على الافتخار بنبيهم محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وعلى تعبيرهم عن إعجابهم به ومحبتهم له واتباعهم لسلوكه وسيرته. فانظر بعد ذلك إلى الواقع تجد أن الواقع يتناقض كلياً أو جزئياً مع ما تترجمه هذه الاحتفالات.

رسول الله صلى الله عليه وسلم دعى فيما دعى إليه إلى جمع الكلمة ونبذ الفرقة وتحطيم أسباب التمزق والخلافات والشتات، هذا ما دعى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مستعيناً بكلام الله عز وجل وبيانه الصريح الواضح "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا"، وتنظر إلى هؤلاء الذين اجتمعت كلمتهم جميعاً على الاحتفال بذكرى نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، تنظر إلى واقعهم وإذا بهم متدابرون، وإذا بهم متفرقون، وإذا بهم متخاصمون. شيءٌ عجيب لا يمكن للمنطق أن يحلله أو أن يفهم له تأويلاً.

أما ظاهرة هذا الاحتفال الجامع فينبغي أن يكون عنصراً جاذباً؛ يجذب هؤلاء الناس جميعاً من شتات ويجعلهم يسيرون على نهجٍ واحد ويلتقون على صراط واحد. هذا ما يقتضيه التقاؤهم جميعاً على الاحتفال بذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن تعال فانظر إلى واقعهم تجد كل فئة تسلك وادياً، تجد كل دولة تتغنى بمبدأٍ وسلوكٍ ومنهج، وتنظر إلى هذه الجامع المشترك فلا تجد له أي سلطان على حياتهم بشكل من الأشكال.

كيف يكون هذا الاحتفال وهذا الاحتفاء بذكرى المصطفى صلى الله عليه وسلم عملاً مرضياً لرسول الله؟ وكيف يكون عملاً مرضياً لله سبحانه وتعالى؟

هذا بكل ما يمكن أن نعبر عنه بعبارةٍ بسيطة وجيزة نوعٌ من الخداع لرسول الله صلى الله عليه وسلم. نُقيم الاحتفالات من أقصى شرقنا الإسلامي إلى أقصى غربه، ومن أقصى شماله إلى جنوبه وتُصغي إلى الكلمات النيرانية التي تتفجر كالبراكين من أفواه المتكلمين، وأجهزة الإعلام كلها تتناقل، يُخيل إليك أن هذه فعلاً أمة واحدة، وأنها تسير على صراط واحد، وأنها غداً سترمي هذا العدو الرابط على أرضنا والمغتصب لحقوقنا سترميه عن سهم واحد وعن قوس واحد، ذلك لأنهم جميعاً يقفون تحت مظلة الإيمان بالله والالتزام بسنة محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا زالت هذه المناسبة وصمت المتكلمون وانتهت أجهزة الإعلام من نقل هذه العبارات ودخلت في برامجها التقليدية الأخرى، نظرت وإذا بكل واحد منهم يسلك طريقاً مناقضاً لطريق الآخر، ذاك يُصر على أن يمد يده الإقتصادية لإسرائيل ويُصر على أن يمضي في تنفيذ الخطة الشيطانية التي تغضب الله وتُغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالأمس كان يقيم احتفالاً بذكرى مولد رسول الله. والآخر ماضٍ في تمكين الروابط وفي تمتين أواصر الصداقة والود الذي يعجز التعبير البلاغي عن تصويره، بينه وبين هذا العدو الرابض على أرضنا والمستلب لحقوقنا، وبالأمس كان يحتفل بذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانظر إلى بقية الفئات والناس تجد الصورة التي أحدثك عنها.

أما أن نعبر عن مكنون حبنا لرسول الله فلا يستطيع أحد أن ينكر ذلك حتى ولو كان هذا نفاقاً، وأما الثمرة التي ينبغي أن ننتظرها من وراء هذا الكلام فشيء آخر، لا ثمرة لهذا الكلام في هذا العصر أبداً، وهذا هو الذي جعل إسرائيل ذاتها تحتفل هي الأخرى بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك لأنها نظرت فوجدت أن الأمر لا يكلف شيئاً، لا يمكن أن يجعل الآخرين بهذه الاحتفالات يمارسون عملاً يُهدد أمنها أو يمارسون عملاً يُطبق بيد الخناق عليها، علمت هذا علمت أنه عبارة عن كلام من الكلام فإذاً، فلماذا لا تفعل هي الأخرى هذا الأمر لكي تزيد ما تخادع به المسلمين ولكي تزيد وسائلها في مكرهم بألوان جديدة من المكر. نظرت إسرائيل فوجدت أنها تسطيع بكل سهولة أن تجمع بين الأمس الذي دنست فيه سمعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بزعمها، ولا يمكن أن يُدنس شيء من مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن تحتفل اليوم بذكرى مولده. لا إشكال إطلاقاً في أن تجمع إسرائيل بين التعبير عن حقدها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن ترضي هؤلاء المسلمين التقليديين بالاحتفال بذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دام أن الأمر كلامٌ من الكلام، ومادام أن الكلام يُعبر عن حقيقةٍ تتجه ذات اليمين والفعل يتجه ذات الشمال.

تلك هي المشكلة التي يعاني منها المسلمون؛ أنهم يستخدمون الإسلام لمصالحهم بدلاً من أن يخدموا الإسلام بأنفسهم، وتأملوا في الفرق بين الواقعين.

المسلمون الذين كانوا قبلنا، كانوا يخدمون الإسلام بجسومهم وبأرواحهم وبأموالهم وبكل ما يملكون، فكانوا بكل ما يملكونه من أمورٍ خدماً لدين الله سبحانه وتعالى. أما المسلمون اليوم أو أكثر المسلمين اليوم فهم يستخدمون الإسلام لأنفسهم، يجدون أن الإسلام بريقٌ أخّاذ وأنه سمعة عطرة وأن بوسع المسلمين اليوم أن يجعلوا منه سبيلاً آخر لرفع مكانتهم بين الناس، ولجعل الناس ينظرون إليهم على أن لهم تاريخاً مجيداً، وأنهم يملكون حضارةً تليدة خالدة، وهكذا يستخدمون الإسلام لمصالحهم يستخدمون الإسلام عن طريق هذه الاحتفالات، يستخدمون الإسلام عن طريق الحديث عن أمجاده، يستخدمون الإسلام عن طريق المجامع التي يُنشؤونها، يستخدمون الإسلام عن طريق المؤتمرات التي يعقدونها. ولماذا لا يستخدمونه!؟ إذا كان بوسعهم أن يجعلوا منه مطيةً يُسيرونها إلى الجهة التي تتفق مع رغائبهم ومصالحهم، حتى إذا تناقض الإسلام مع مصالحهم أعرضوا ونسوا هذا الإسلام الذي كانوا يتباهون به.

ولو أن الإنسان إنما كان يعامل في هذا أخاه الإنسان لكانت المشكلة بسيطة، فما أيسر أن يخدع الإنسان صاحبه، وفي التاريخ كثيرٌ من هذه الصور، كم خُدع الناس بالناس؟ ولكن الأمر هنا ليس كذلك إن هؤلاء عندما يفعلون هذا إنما يخادعون رب هذا الدين، إنما يُخادعون الإله الذي نزّل هذا الدين على عباده.

كيف يُمكن أن يُستخدم الإسلام لمصلحة؟ كيف يمكن أن أستخدم الإسلام لأهوائي لشهواتي ولملاذي ومن ثم أسيّره كما أشاء، أُسيره في الطريق الذي يتفق مع أهوائي، وأصرفه عن الطرق التي لا تتفق مع أهوائي، وهذا هو المعنى الذي يتداوله الناس لكلمة تجديد الدين.. تطوير الدين.. تحديث الدين.. عصرنة الدين، أي استخدام الدين لمصالحنا ولأهوائنا.

وإذا ظل المسلمون سائرين على هذا النهج، فلن تُحل لهم مشكلة، ولن تذوب لهم معضلة، ولن يتحول ذلهم الذي ران على أرضهم إلى شيءٍ من العز، بل لسوف ينتقلون من ذلٍ إلى ذلٍ إلى ذل، ولسوف يتجاوزون شقاقاً وتفرقاً إلى شقاقٍ أكثر، وإلى تفرق أدهى، ذلك لأنها هي النتيجة التي لابد منها لمن يستخدم الإسلام لمصالحه بدلاً من أن يخدم الإسلام بنفسه وبماله وبكل ما يملك. والله سبحانه وتعالى طيبٌ لا يقبل إلا طيبا، والله عز وجل أمرنا أن نقتدي برسولنا بالفعل لا بأقوال فارغةٍ لا ترصدها الأعمال ولا تؤيدها. قال: "لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا" والأُسوة ليس معناها الكلام الفارغ وإنما معنى الأسوة القدوة في الفعل والسلوك.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي