مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 11/07/1997

أُكلت يوم أُكِل الثور الأبيض

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله ..

لقد اهتاجت مشاعر الحماس لدى كثيرٍ من الشباب المؤمنين بالله سبحانه وتعالى يوم أن قام الصهاينة اليهود بالأمر الذي لا غرابة فيه، والذي لم يُفاجئوا أحداً من العالم به، يوم أن أفرزوا خساستهم وقذارة مشاعرهم في حق الله سبحانه وتعالى قبل أن ينفثوا شيئاً من ذلك في حق رسله وأنبيائه المقربين.

كثيرٌ من الإخوة اهتاجت بين جوانحهم مشاعر الحماسة وراحوا يتسائلون ما العمل؟ وكيف السبيل إلى الوقوف في وجه هؤلاء الذين فاجؤوا العالم بقذاراتهم وخستهم هذه؟

وأنا لم أقل أي كلمة إلى اليوم تعليقاً على هذه المشاعر، وجواباً عن أسئلة هؤلاء الإخوة الكثيرين، ولكن يبدو أن قد حان أن أقول لهم ما ينبغي أن يعرفوه، وأن أضع لهم النقاط على الحروف بعيداً عن الحماسة التي لا تفيد، وبعيداً عن الضوضاء التي لا تُصلح فساداً ولا تقوم اعوجاجاً. ينبغي أن نعلم أولاً أن هذا الذي تَبدّى في الأسبوع الماضي والذي قبله ليس أمراً غريباً وليس شيئاً مما يمكن أن يُفاجئ به العالم الإسلامي بل العالم كله، فقد عرف العالم الإسلامي وعرفت الدنيا كلها أن هذه الفئة التي حدثنا عنها بيان الله سبحانه وتعالى كثيراً، هي كتلة خساسة ورجسٍ تتحرك فوق هذه الأرض، لم يختلف أمرها لا بالماضي السحيق ولا في التاريخ القريب، ولا في الواقع الحالي المُشاهد في هذا اليوم.

هذا هو واقع هؤلاء الناس، ولأمرٍ ما أخبرنا الصادق المصدوق جل جلاله كيف أن الله سبحانه وتعالى مسخ منهم القردة والخنازير، وهذا كلام الله سبحانه وتعالى وكلامه لا يلحقه خُلف.

وأنا أصدقكم القول: أنني لم أفاجئ بشيءٍ مما حدث، ولو أنا رأينا أضعاف ما حدث، فلن أُفاجئ بشيء من ذلك بعد النعت الذي وصف الله به هذه الشرذمة عبر التاريخ، وبعد هذا الخبر الصادق الذي أنبأنا به وكيف أن الله مسخ منهم القردة والخنازير. ولكن الأمر الذي ينبغي أن نفاجئ به شيءٌ آخر أيها الإخوة.

هذا الذي رأيناه أو سمعناه وقع مثله كثير في التاريخ الماضي، ولكن كان المسلمون في المرصاد وكانت عصا التأديب تُلهب ظهور هذه الشرذمة ومن ثم فلم يكونوا يستطيعون أن يُفرزوا شيئاً من قيئهم الرجس إلا بحدودٍ ضيقة وإلا بمقدارٍ قليلٍ جداً، الشيء الذي فُوجئ به المسلمون اليوم هو أن المسلمين الذين كانوا بالأمس مسلمين لم يعودوا هم أولئك المسلمون اليوم. هذا هو الذي يُفاجئ به كل مسلم.

ينبغي أن نعلم أن الغرابة ليست في أن ترى السوء نابعاً من مصدره، ولا في أن ترى الرجس صادراً من قمامته فهذا شيءٌ طبيعي، ولكن الغريب أن تجد أولئك المسلمين الذين كان شأنهم تطهير مجتمعهم وحراسة دينهم وحراسة كتاب ربهم؛ أن تجد هؤلاء المسلمين يرقدون رقدة أصحاب الكهف وكأنهم ليسوا أحفاد أولئك الأجداد والآباء الذين ينتمون إليهم، وربما تباهوا بانتسابهم إليهم، هذه هي المفاجأة التي تجرح الفؤاد والتي تُنض القلب والتي تجعل الإنسان أسير أحزانٍ متطاولة. فما الذي حدث حتى نسي المسلمون هوياتهم؟ وحتى نامت مشاعر العز بين جوانحهم؟ وحتى آل أمرهم إلى ذلٍ أصبح مضرب المثل في العالم كله لا في العالم العربي والإسلامي فقط؟ ما الذي حدث حتى آل الأمر إلى هذا الشأن المريع؟

الذي حدث أيها الإخوة وأقولها للعبرة وللعظة فلعل العبرة تقفز بالإنسان إلى خطوط الإصلاح أكثر من أي دافع آخر.

السبب أيها الإخوة أن المسلمين فيما مضى حققوا أول ثمرة من ثمار إسلامهم عندما أخلصوا دينهم لله، وعندما فاضت قلوبهم حقيقةً بمشاعر الحب لله والتعظيم لحرمات الله عز وجل، قطفوا عندئذٍ أقدس ثمرة لهذا الإسلام. أتعلمون ما هي؟

هي وحدة الأمة المسلمة. أول هدية يهديها رب العالمين لعباده المسلمين عندما يُخلصون دينهم لله أنه يهبهم الوحدة والتآلف والتضامن، فيجتمع منهم الشمل، وتتحد منهم المشاعر، ويسيرون على صراط واحد ألا وهو صراط الله سبحانه وتعالى، ويستمسكون بعد الشرود بحبلٍ واحد ألا وهو حبل الله سبحانه وتعالى.

قطف المسلمون فيما مضى أول ثمرةٍ جاءت نتيجة إخلاصهم لله سبحانه وتعالى، وتجلّت هذه الوحدة في الخلافة التي قرأتم الكثير عنها والتي عرفتم حقيقتها، وهي بابٌ في آخر كتب العقيدة: (الخلافة الإسلامية أمرٌ من الأهمية بمكان، وهي من الأمور التي ينبغي أن يعلم المسلمون أنها جزء لا يتجزء من البنيان الإسلامي، ولذلك فالحديث عنها تفيض به كتب العقيدة جمعاء، تجلت هذه الوحدة في الخلافة، والخلافة عملٌ ديني كان في تاريخنا الإسلامي ولم يكن عملاً سياسياً مجرداً.

لمّا استثمر المسلمون إسلامهم عن طريق الإخلاص لدين الله وأكرمهم الله بهذه الثمرة الأولى، تحول ضعفهم - وكم كانوا ضعافاً - إلى قوة، وتحول تفرقهم إلى اتحاد واجتماع كلمة، وتحول فقرهم إلى غنىً، فأصبحوا أمة تهابها الأمم، وأصبحوا وحدةً تهابها القوى كلها، والله هو الذي يضع في القلوب الرعب إذا وضع، ويضع في القلوب العزة ومشاعرها إذا أراد، ومن ثم إن هذه الشرذمة القذرة لم تكن تستطيع آنذاك أن تفعل شيئاً، ولم تكن تستطيع أن تُفرز شيئاً من قيئها الذي تفرزه اليوم بشكل من الأشكال، واستمر الأمر على هذا النحو عبر التاريخ الإسلامي الذي تقرأونه والذي تعتزون به أيها الإخوة.

متى وصلت هذه الشرذمة وأضرابها إلى ما ابتغوا من المسلمين من حقوق لهم مادية أو معنوية؟ متى؟ عندما وضعوا نُصب أعينهم تحطيم الطوق الذي لا بد أن يُحطم قبل كل شيء، ألا وهو طوق الخلافة، ولقد قرأت كلاماً لزويمر في مذكراته وهو يتحدث عن حركة الصهيونية التي لم تكن تأتي بطائل في أوروبا وهنا وهناك. ويقول زويمر بعد ذلك: لقد علمنا واتفقت منا الكلمة على أن أعمالنا كلها لا تفيد شيئاً ما دام طوق الخلافة الإسلامية ضارباً حول المسلمين، ومن ثم فلقد اتجهنا إلى تحطيم هذا الطوق، وكانت بريطانيا أول من دعمت الصهيونية بهذا الأمر، وينبغي أن تعلموا هذه الحقيقة.

اتجهت قوى الشر التي تتربص بالمسلمين إلى تحطيم طوق الخلافة، وينبغي أن نقولها معترفين أن مما أعان بريطانيا وغير بريطانيا على تحطيم طوق الخلافة فساد الخلافة آنذاك، وفساد المسلمين أو كثيرٍ من المسلمين آنذاك، ولو لم يكن المسلمون قد اخترقوا بنيانهم بأيديهم عن طريق المباذل الأخلاقية، وعن طريق القومية الطورانية التي انتشرت في حاضرة الخلافة آنذاك، وعن طريق ألوان أُخرى من الفساد، لما استطاعت بريطانيا ولا قوى الشر أجمع أن تحطم ذلك الطوق آنذاك، ولكن بدأ الفساد من المسلمين فاستشرى الفساد وسلط الله عليهم أولئك الأعداء، لمّا تناثر ذلك الطوق. إلام آل حال المسلمين؟ إلى تشرذم وتفرق تماماً كأي عقدٍ قطعت الخيط الواصل لحباته إلى ما تؤول هذه الحبات؟ تتفرق يميناً وشمالاً.

ولقد قرأت كلاماً للورانس في كتاب له اسمه أعمدة الحكمة السبعة وهو يتحدث عن أعمال بريطانيا وخداعها للعرب والمسلمين في آواخر الخلافة الإسلامية يقول: لقد وعدت العرب أن يتحول عقد الخلافة الإسلامية من جِيد الأكراد إلى جِيد العرب. ثم يقول بعد ذلك: وقد كان واضحاً أن هذا الوعد لم يكن إلا حبراً على ورق، ولكن إخلاصي لحكومتي هو الذي اقتضاني أن أقول هذا الكلام. ثم يقول: وكم أنا سعيد الآن بهذه الحرب التي وضعت أوزارها لمصلحة بريطانيا دون أن تُراق قطرة دم واحد لبريطاني.

ودونكم فاقرأوا كتاب لورنس هذا أعمدة الحكمة السبعة لتجدوا العجب العجاب من هذا الأمر. عبرة خُذوها يا عباد الله، تحطم طوق الوحدة الإسلامية عن طريق تهاوي الخلافة الإسلامية، تناثر المسلمون بعد ذلك. أين هو العقد الذي كان ينبغي أن يتحلى به جيد العرب؟ كل ذلك كان كذباً وافتراء، وكل ذلك كان خداعاً وتدجيلاً. وتقاسم الأعداء حقوق المسلمين كما تعلمون، وجاءت الصهيونية لتنال حظها الأوفر من أرض المسلمين وحظهم وبلادهم، ومنذ ذلك اليوم يا عباد الله والغرب كله بشطريه الأمريكي والأوروبي عينٌ ساهرةٌ ترقب المسلمين أن لا يعودوا إلى شيء من وحدتهم السابقة، ترقب المسلمين مساء صباح أن لا يحنوا مرة أخرى إلى لونٍ من ألوان اتحادهم، ولا يُشترط أن يكون هذا الاتحاد في مظهر خلافة، لا، وكلما رأوا أن المسلمين حاولوا أن يعودوا إلى شيءٍ من وحدتهم السابقة بذلوا الجهود العجيبة والغريبة في سبيل التفتيت وفي سبيل النثر وحدة هذه الأمة التي أعزها الله عز وجل بها، إنهم دائماً يحرسون المسلمين الذين وقعوا في تيه التشرذم والتفرق؛ يحرسونهم أن لا يعودوا إلى قول الله بأي شكلٍ من الأشكال: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"

ازداد المسلمون فرقةً بعد فرقة، وازدادت قطع المسلمين تمزقاً أيضاً؛ كل قطعة آلت إلى قطع كما تشاهدون وكما ترون اليوم، ومن ثم فإن الصهيونية تنفث أحقادها، وتستقيم رجزها تماماً كما تشاء. أين هم المسلمون الذين كانوا بالأمس يأخذون بالخناق؟ أين هم المسلمون الذين كانوا بالأمس ينهلون بعصي التأديب على هذه الشراذم؟ وكم في تاريخنا المجيد من أمثلة. أين هم المسلمون الذين طهروا الأرض المقدسة من رجس الصليبية؟ لم يعد المسلمين اليوم أولئك المسلمين،

ويرحم الله شوقياً الذي يقول:

مَرَرتُ بِالمَسجِدِ المَحزونِ أَسألَهُ هَل في المُصلى أَو المِحرابِ مَروانُ

فَلا الأذانُ أَذانٌ في مَنارَتِهِ إذِا تعالى وَلا الآذانُ آذانُ

أقولها وإن كره بعض العلماء الاستشهاد بالشعر في مثل هذا المقام، لأن القلب لا يستطيع أن يشفي غليله إلا باستشهادي بكلامٍ من هذا القبيل الحار.

الغرابة التي ينبغي أن تأخذ بالألباب والتي تستثير مشاعر الذل بين جوانح المسلمين، الشيء الذي يندى له الجبين والذي ينبغي أن يشغل بالنا ونُفاجئ به هو: أين المسلمون الذين يتلون كتاب الله صباح مساء ويتظاهرون بانتمائهم إليه، ها هو ذا كتاب ربنا يُمزق، وحاشا أن يُمزق، حاشا أن يمزق حقيقةً، لكن ها هي ذي صورة هذا التمزيق تراه أعيننا فأين هم الغيارى على دين الله؟

ها هو ذا سيدنا أن محمد صلى الله عليه وسلم تحاول كتل الرجس في العالم أن تستقيء شيئاً من رجسها لتصل بها إلى أطهر الطاهرين محمدٍ عليه الصلاة والسلام ولن تبلغ منه شيئاً، فأين هم الذين يتباهون بأنهم منسوبون إلى رسول الله؟ أين هم الذين يتباهون ساعة السلم وساعة الصفاء بأنهم من حفدة أو أسباط المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ أين هي ظاهرة الغيرة على دين الله سبحانه وتعالى؟ أُكلت يوم أُكِل الثور الأبيض.

قد يقول هذا الإنسان: أنا لا أملك وليس لدي من القوة ما أفعل شيئاً، والآخر قد يقول كذلك، والثالث قد يقول كذلك. من الذي جعلك فقيراً إلى القوة؟ أنت الذي حكمت على نفسك بهذا. لماذا احجمت فلم تمد يدك إلى جيرانك لتتحد معهم في سبيل الانتصار للحق؟ لماذا رفضت الوحدة وأبيت إلا السكينة وأ

تحميل



تشغيل

صوتي