مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 09/05/1997

عندما يهتم المسلمون بما ألزم الله به ذاته ويعرضون عما ألزمهم به

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

كم يتمنى الإنسان المؤمن المسلم أن لو احتفل الناس بقدوم العام الهجري الجديد كما يحتفلون هم أنفسهم بدخول عامٍ ميلادي جديد.

كلٌ منا عندما يقارن بذهنه بين استقبال المسلمين - ولا أقول غير المسلمين - لدخول عامٍ ميلادي جديد، واستقبالهم لعام ٍهجري جديد يجدون ما هو المخزي، وما هو المؤلم والمخجل لكل إنسان مؤمن أمام مولاه وخالقه سبحانه وتعالى.

في المناسبة الأولى تهيج الدنيا، ويقوم الصخب في المجتمعات والأسواق والأندية والمنازل والبيوت ووسائل الإعلام ولا يكاد ينتهي هذا الصخب. وفي المرة الثانية تمر هذه المناسبة ولا يكاد يشعر بها إلا المتحرق على دين الله سبحانه وتعالى والمرتبط ارتباطاً ثقافياً متميزاً بتاريخ هذه الأمة.

وأنا لا أعني بهذه الأمنية أن يحتفل المسلمون بدخول العام الهجري بالطريقة ذاتها التي يحتفلون بها بدخول عامٍ ميلادي، أي إنني لا أعني أن يستقبل المسلمون دخول هذا اليوم من أول عامٍ هجري جديد بالصخب والضجيج واللهو؛ إن في الشوارع والأسواق والمحال التجارية وزخرفتها، وإن بالبيوت، وإن في أجهزة الإعلام، ولكني أعني بالاحتفاء الذي لابد منه بهذه المناسبة أن تُحشد عقول المسلمين بالعبر والعظات والدروس التي ينبغي أن يتبينوها في هذه المناسبة، وأن تحتفل أجهزة الإعلام على مستوى العالم العربي والإسلامي أجمع، وأن تهتم اهتماماً بالغاً بدخول هذا اليوم الأغر، وبتجدد هذه الذكرى المقدسة والعزيزة على تاريخ هذه الأمة، فيشعر المسلمون أن لسانهم الناطق ولسان المسلمين الذي ينطق باسمهم إنما هو أجهزة الإعلام، يشعر المسلمون أن ألسنتهم هذه متجهة اتجاهاً متميزاً لملئ الأفكار والأذهان بالدروس والعظات التي ينبغي أن يستفيدها المسلمون من هذه المناسبة الجليلة، ثم أن يجعلوا من ذلك دواءً ناجعاً لأمراضهم التي يعانونها في هذا اليوم.

وغير خافٍ على أي مسلم أن المسلمين الذين كانوا قبلنا من السلف الصالح لم يجعلوا من ميقات أول عام من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم معلمة تاريخية يربطون بها أحداثهم المتجددة إلا لأن هذه المعلمة تحمل دلالات كبيرة وتحمل دروساً متجددة عظيمة، مهما تقدم المسلمون أو تخلفوا لن يستغنوا عن الوقوف أمام عبرها، ولن يستغنوا عن الاستفادة منها بشكل من الأشكال، ولذلك جعل السلف الصالح بإجماعٍ جليلٍ منهم جعلوا من هذه المناسبة معلمة تاريخية يربطون بها حوادث التاريخ الإسلامي من بعد إلى يومنا هذا.

وأنا ألفت النظر أيها الإخوة إلى درسٍ واحدٍ من هذه الدروس الهامة، كم كان يجدر بالمسلمين أن يستفيدوا من هذا الدرس لإصلاح أخطائهم ولمعالجة أمراضهم، ما هو فرق ما بين المسلمين قبل أن يهاجروا من مكة إلى المدينة وبعد أن هاجروا واستقر بهم المقام في المدينة المنورة؟ ما الفرق بين حال المسلمين قبل الهجرة وحالهم بعدها؟

أما قبل الهجرة فلم يكن للمسلمين أرضٌ يملكونها، فلما هاجروا أورثهم الله سبحانه وتعالى الأرض التي أصبحت تُسمى بالاصطلاح الفقهي دار الإسلام، لم يكن المسلمون يظهرون في مظهر وحدةً تستظل في ظل دولة وحكومة، فلما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة أنعم الله عز وجل عليهم بالوحدة التي ظهرت وتكتلت تحت مظلة دولة وحكومة إسلامية.

قبل أن يهاجر المسلمون من مكة إلى المدينة لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شخصية واحدة، هي شخصية النبي والرسول المبلغ عن الله عز وجل، فلما هاجر وهاجر معه أصحابه إلى المدينة أصبح المصطفى صلى الله عليه وسلم ذا شخصيتين اثنتين، فهو اليوم رسولٌ مبلغٌ من الله عز وجل وهو في الوقت ذاته أول رئيس دولة لأول حكومة إسلامية.

هذا الفرق الكبير الغريب العجيب بين واقعين للمسلمين أحدهما كان قبل الهجرة والثاني أورثه الله سبحانه وتعالى للمسلمين بعد الهجرة، كيف جاء؟ وكيف تحقق؟

وأنا أسأل وينبغي لكل مسلم أن يسأل، هل كان المسلمون وهم في مكة يُخططون لتلك الدولة التي أكرمهم الله بها بعد الهجرة؟ هذه واحدة.

هل كان المسلمون وهم مبعثرون في مكة يخططون لأن يمتلكوا أرضاً تُسمى دار إسلام؛ فكانوا يسهرون لياليهم ويتعبون أيامهم في وضع الخطط لأخذ هذه الأرض واقتناصها؟

هل كان المسلمون وهم في مكة يخططون لأن يجعلوا من نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم رئيس دولة بعد أن كان وهو بين ظهرانيهم مجرد رسول مبلغٍ عن الله؟

أعتقد أن كلاً منكم يعلم الجواب، لم يكن يخطر في بال المسلمين شيء من هذا، فالمسلمون وهم قلة بين المشركين في مكة المكرمة وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يفكروا ذات يومٍ بأن يخططوا لاقتناص أرضٍ وامتلاكها وإقامة دولة عليها، لم يخططوا لذلك أبداً. وإنما كان قصارى همهم وإنما كان كل جهدهم متجهاً إلى شيءٍ واحد، هو إبلاغ رسالات الله سبحانه وتعالى، والقيام بواجب الدعوة إلى دين الله عز وجل، ثم الصبر والمصابرة في طريق هذه المهمة التي كلفهم الله سبحانه وتعالى بها، وعلى رأسهم سيدنا محمدٌ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

كل المسلمين الذين كانوا في مكة لم يكونوا يفكرون إلا بهذا الهم، ولم يكونوا يشغلون بالهم إلا بهذا الواجب، فكان هذا ديدنهم يشرقون ويغربون داخل ذلك المجتمع الصغير مكة، ومن حول مكة تلك القبائل القريبة نسبياً، كانوا يتحركون ضمن هذه الساحة دعاة إلى الله، معرفين بدين الله سبحانه وتعالى، وقد حمّل كلٌ منهم نفسه واجب الصبر وواجب المصابرة، ورأينا بل نظر الله عز وجل إلى واقعهم فرأى الصدق في سلوكهم، ورأى الجهد بل الجهاد في صبرهم ومصابرتهم، شاء الله عز وجل أن يبتليهم بالمعذبين وبالمستهزئين وبالمسيئين بكل أنواع الإساءات، وعلى رأس من أُسيء إليه بكل هذه الإساءات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصبروا وتحملوا ومات منهم من مات تحت وطأة هذا العذاب، وبقي من بقي وهو ثابتٌ صامد يتلقى العذاب ويحتسبه عند الله سبحانه وتعالى.

هكذا كان عملهم وهذا كان هدفهم وعلى هذا النهج ساروا ولم يكن يخطر في بال أيٍ منهم أن يُخطط لإيجاد دولة، لإقامة مجتمع، لإمتلاك أرض، أو لما ورائ ذلك من الذيول التي تعلمون.

ونظر الله عز وجل إليهم فوجد الصدق في عملهم، ورأى الإخلاص لدين الله في سلوكهم، ورأى ثباتهم على الجهاد الذي كان هو أساس الجهاد القتالي بعد الهجرة، فأعطاهم الله عز وجل هذا الذي أعطاهم عندما كتب لهم الهجرة إلى المدينة المنورة.

انظروا أيها الإخوة هما مهمتان: أما أولاهما فكلف الله بها عباده، وأما الأخرى فأخذها الله عز وجل على ذاته وألزم بها ذاته العلية. المهمة التي كلف الله بها عباده (الدعوة إلى الله): "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي". تلك هي المهمة التي شرف الله سبحانه وتعالى بها كل من دخل بالإسلام وعاش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المجتمع الجاهلي المظلم.

وأما المهمة التي ألزم الله بها ذاته العلية فهي أن يورثهم الأرض بعد أن يجد ثباتهم وصبرهم على هذا، وأن يُملكهم الدولة، وأن يثبت دعائم وجودهم ويرسخها فوق الأرض، وأن يُملكهم كل ما يمتلكه أعداؤهم، هذا ما ألزم الله عز وجل به ذاته العلية.

ولما وفّى أولئك المسلمون بما ألزمهم الله به، وفّى لهم الله عز وجل بما ألزم به ذاته، ونظرنا فوجدنا أنفسنا أمام مصداق قول الله عز وجل: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً "، ونظرنا فوجدنا أنفسنا أمام قول الله سبحانه وتعالى: "وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ". وهذا شيءٌ ألزم الله عز وجل به ذاته، ولكن بعد أن يوفي المسلمون بما ألزم الله سبحانه وتعالى كلاً منهم به. هذا الدرس أيها الإخوة .. أين واقع المسلمين منه؟

ننظر إلى الواقع الذي يعيشه المسلمون - ولا أتحدث عن غير المسلمين - ونتأمل لدى المقارنة بين واقعهم اليوم وواقع أصحاب رسول الله بالأمس، فنجد المسلمين يسيرون في طريق معاكسة تماماً للطريقة التي كان عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ألزم الله أولئك المؤمنين بأن يكونوا أُمناء على الدعوة إلى الله، صابرين على إبلاغ رسالات الله عز وجل، يتحملون في سبيلها كل عنت وكل شدة من الشدائد، ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل، ولم يُلزمهم بأن يُخططوا لشيءٍ غير ذلك. أما الله عز وجل فألزم ذاته بأن يُملكهم الأرض؛ يحقق لهم دار الإسلام، وأن يُقيم لهم الدولة، وأن يُسيج هذه الدولة بسياج القوة والحماية. وتنظر إلى واقع المسلمين وإذا بهم يهتمون كل الاهتمام بالوظيفة التي ألزم الله ذاته العلية بها ويُعرضون كل الإعراض عن الوظيفة التي ألزمهم الله عز وجل بها. ألا تنظرون إلى هذا الواقع؟ هذا هو واقع المسلمون اليوم.

أين هم أولئك الذين ينصبون ويجاهدون في إبلاغ رسالات الله عز وجل في القرى في المدن؟

أين هم الذين يطرقون أبواب الأسر التي هي في ظمأ، ظمأ إلى معرفة دين الله عز وجل؟

أين هم الذين يُجددون سيرة أصحاب رسول الله كمصعب وغير مصعب وحمزة في الدعوة إلى الله وإبلاغ رسالات الله وتنفيذ قول رسول الله: "بلغوا عني ولو آية فرب مبلغ أوعى من سامع"؟

لن تجد إلا على الوجه النادر، وما أشبه هذا الوجه النادر ببوارق تبرق في ليلة ظلماء، هذا هو الواقع.

وعندما يناقش أحدنا واحد من هؤلاء الناس، لماذا لا تدعو إلى الله؟ انظر إلى سيرة رسول الله إلى سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان حالهم؟ وكيف كان شأنهم؟ ماذا يجيب وماذا يقول لك؟

يقول لك: لا فائدة من الدعوة، ولا من الأمر بالمعروف ولا من النهي عن المنكر، كل ذلك هباء حتى تُقام الدولة الإسلامية أولاً، ينبغي أن تُقام الدولة أولاً، وبعد ذلك ينجح الدعاة في الدعوة إلى الله.

تُصغي إلى هذا الكلام العجيب وتتأمل في كلامه وكأنه يُخطئ رب العالمين، كأنه يقول: إن الله عز وجل لم يكن على صواب، عندما أمر عباده أصحاب رسول الله بأن يتركوا مسألة الدولة والأرض وما إلى ذلك وأن يبذلوا جهدهم كله في إبلاغ رسالات الله والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يصبروا ويصمدوا ويجعلوا ذلك كله احتساباً لوجه الله عز وجل. كأنهم يقولون: إن خطة رب العالمين لم تكن صواباً، بل الصحيح هو أن على أولئك المسلمين كانوا أن يطرقوا أبواب الدولة أولاً، وأن يقيموا الحكومة أولاً، وبعد ذلك ينجحون في الدعوة إلى الله عز وجل.

هذا الواقع الذي تراه في حال أكثر المسلمين اليوم يترجم على آذان الناس جميعاً هذه الترجمة. فهل هنالك جريمة أخطر من هذه الجريمة؟

"لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا" جعل الله من رسوله قدوة لنا أسوة لنا، علمنا من خلال سير أصحابه كيف نسير، وكيف نتبع، أفنجح أولئك الصحابة على الرغم من أن هؤلاء المسلمين اليوم يخطئونهم؟ أفنجحوا أم لم ينجحوا؟ إن هي إلا سنوات؛ ثلاثة عشر عاماً حتى أثمر سعيهم وجهادهم الدولة والأرض والحماية والقوة والحكومة. وكان كل ذلك ثمرة ربانية.

المسألة تحتاج أيها الإخوة إلى تنسيق، والمنسق لسنا نحن، المنسق هو الله سبحانه وتعالى. الرب يقول: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" يقول: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"، ثم إن الله سبحانه وتعالى ألزم ذاته بالنتائج، إن أنتم فعلتم ذلك ورثتكم الأرض، أعطيتكم الدولة، ملكتكم كل شيء. فمال هؤلاء الإخوة لا يفهمون كلام الله سبحانه وتعالى؟! ومالهم عن التذكرة معرضون!؟ لماذا لا يجعلون من سيرة رسول الله أسوة لهم!؟

هذا هو الدرس الواحد من دروسٍ كثيرة نقتبسه من هجرة المصصطفى صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة.

ألا ليت المسلمين على كل مستوياتهم حكاماً وشعوباً يحتفلون بدخول هذا العام الهجري المقدس الاحتفال المناسب لقيمة بدء هذا العام، ليت أنهم يجندون وسائل الإعلام كلها، ليت أنهم يجندون كل الأبواق الثقافية، ليت أنهم يجندون سائر الأنشطة لتوجيه المسلمين إلى العلاجات التي تتكفل بتضميد جراحاتهم، إذاً لو فعلوا ذلك ابتغاء مرضاة الله عز وجل لجمع الله منهم الشمل، ولقوّم فيهم الاعوجاج، ولأعادهم إلى حظيرة الأمن والسلام.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي