مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 29/11/1996

إياكم واللؤم الذي انحط فيه كثير من الناس

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى .

أمّا بعدُ فيا عباد الله ..

إن الأعاجيب في هذه الدنيا كثيرة، ولكن أعجب ما يمكن أن تراه عين أن ترى في الناس أُناساً قد أيقينوا أنهم يعيشون في مملكة الله، ويتقلبون في كنف الله، ويتغذون على مائدة الله سبحانه وتعالى، وتأتيهم النعم تترى من عند الله عز وجل، ويتعرضون في كل لحظة للمصائب التي إن أتت لن تأتي إلا من عند الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك فأنت تجدهم يحاربون دينه ويُبعدون الناس عن شرعته ويغرسون أسباب الريبة بالله سبحانه وتعالى في أفئدة عباده. تلك هي الأعجوبة الكبرى التي لا أرى أغرب ولا أعجب منها في هذا الكون.

وقديماً عبّر البيان الإلهي عن العجب من أناسٍ كفروا بالله عز و جل وهم يتقلبون في مملكة الله عز وجل وهم آيلون إلى الله سبحانه وتعالى فقال عز من قائل (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) هذا استفهامٌ تعجبي يعبر به البيان الإلهي عن حالة أناسٍ كافرين جاحدين بالله عز وجل! فكيف بحال من عرف الله وآمن بالله سبحانه وتعالى وأيقن أنّ مبدأه من الله وأنّ مآله إلى الله عز وجل؟! ومع ذلك وقف أو أقام يُناصب دين الله سبحانه وتعالى العِداء!

أجل ما أظن أن هنالك أُعجوبة أغرب من هذه، وإذا كان هذا الكلام حقيقةً منطقيةً سليمة، فما أظن أن هنالك لؤماً أشد من هذا اللؤم.

كثيرون هم أيها الأخوة الذين أعلنوا عن إيمانهم بالله سبحانه وتعالى، وأعلنوا عن انتسابهم إلى هذا الدين الذي ارتضاه الله لعباده شرعةً ومنهاجاً، ومع ذلك فأنت تنظر إلى الواحد من هؤلاء وإذا هو ينتصر لأعداء الله سبحانه وتعالى ويزدري دين الله سبحانه وتعالى وتعاليمه. تنظر إلى الواحد من هؤلاء وإذا هو قد حالف أعداء الله سبحانه وتعالى على الرغم من ما يتصفون به من مهانة، وعلى الرغم من ما يتقلبون فيه من فقرٍ وذل. تجد الواحد منهم قد حالف أولئك الناس، وابتعد عن دين الله سبحانه وتعالى بل أخذ يُناصب هذا الدين العداء بكل ما يملك من وسائل فكرية وسبلٍ عملية.

كيف يمكن أن يتصور الإنسان أن عاقلاً في الناس يتصف بشيءٍ من الإنسانية، ويتصف بشيءٍ من العقلانية، ثم ينحط في هذا الطريق المعوج. بل ينحط في هذا السبيل من اللؤم ولا أعلم أن هنالك سبيلاً أشنع منه لؤماً؟

الإنسان الذي يجد نفسه محاطاً برعاية إنسانٍ مثله، يرعاه، يُجري عليه جراية مالية مستمرة، يعيش على مائدته صباح مساء. هل تتصورون أن واحداً من هؤلاء الناس يتمتع بعقل يعيش على هذا النمط والنعم تترى إليه صباح مساء من هذا الإنسان الذي يجاوره يكرمه ويعطيه ويمده بالنعم المتنوعة .. هل تتصورون أن يقف هذا الإنسان أثناء ذلك فيناصب سيده هذا العداء؟! ويرميه بالصفات الشنيعة ويزدريه ويتعالى فوق نعمه وفوق إكرامه الذي يمده به؟

ما أظن أننا وجدنا في حياتنا، وما أظن أننا سنجد في حياتنا إنساناً بهذا الشكل، مع العلم بأن الإنسان مهما أغدق النعم لأخيه الإنسان فبينهما جامعٌ مشترك من الإنسانية؛ كل منهما يمكن أن يكون نداً لصاحبه. فكيف إذا كان هذا المنعم المتفضل هو الله سبحانه وتعالى؟

ألا ترون أيها الأخوة إلى أناسٍ من أبناء جلدتنا من الذين يعلنون عن إنتسابهم إلى هذا الدين ومن الذين يعلنون عن يقينهم بوجود الله عز وجل رباً ويوقنون بأنهم عبيدٌ لله عز وجل، ومع ذلك فإن ديدنهم صباح مساء محاولة تمزيق هذا الدين بكل ما يملكون من وسائل، شأنهم صباح مساء أن يصطنعوا بياض الوجه أمام أعداء الله سبحانه وتعالى، أمام أولئك الذين أبغضهم الله ولعنهم وطردهم من رحمته غير مبالين بأن يُقطعوا مما بينهم وبين الله سبحانه وتعالى الصلات.

هذه الفئة من الناس .. هذا النمط الغريب من البشر لعلكم جميعاً ترونه ولعلكم جميعاً تسمعون بأعمال الكثيرين منهم، والعجب أنهم يجمعون فيما يدعون بين إيمانهم بالله عز وجل وبين لؤمهم تجاه الله سبحانه وتعالى، ولو كانوا كافرين لما تعجبنا مع أن بيان الله سبحانه وتعالى عبر عن العجب العجاب من كفرهم وهم يتقلبون في قبضة الله سبحانه وتعالى.

ونحن نقرأ فيما نقرأ من كلام الله عز وجل بياناً يذيب الإنسان خجلاً، ولكن لو كانت لديه قابلية لخجل. نقرأ قول الله سبحانه وتعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) ماذا قال بعد ذلك؟ (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً). لو أنّ إنساناً تكاملت الإنسانية فقط بين جوانحه وتحرر من لؤمه، أصغى جيداً إلى هذا الكلام، لذاب خجلاً من الله سبحانه وتعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌ).

أنا الذي كرمتكم، وأنا الذي رفعت لكم شأناً، وأنا الذي أسجدت لكم الملائكة وأمرت إبليس أن يسجد لكم تكريماً وتبجيلاً. واليوم تعرضون عن هذا الذي كرمكم، تعرضون عن هذا الذي بجّلكم، تعرضون عن هذا الذي أسجد لكم ملائكته، وتتخذون عدوكم الذي استكبر عليكم تتخذون منه ولياً من دوني كيف يكون هذا؟ هذا الكلام يوجه إلى كثيرٍ منا اليوم من الله سبحانه وتعالى ولاداعي لكي يذوب هؤلاء الناس خجلاً وحياءً، لا داعي إلى أن يتصفوا بأكثر من إنسانية، ولكن عندما تتساقط معاني الإنسانية من وجودهم، ويتحولون إلى بهائم أو إلى أحط من بهائم، فإن العجب ينتهي عندئذ ذلك، لأنهم يدخلون عندئذٍ في قائمة من قال الله عز وجل عنهم: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ). وعندما تتساقط معاني الإنسانية من الإنسان ويغدو هذا الكائن المخلوق أضلّ وأحطّ من الأنعام، فما معنى العجب عندئذ؟ نعم .. يزول العجب في تلك الحالة، وأعتقد أن هذا هو حل اللغز الذي نراه أمامنا اليوم.

ما أكثر ما نجد صباح مساء أناساً مسلمين - بحسب الظاهر فيما يدعون - دأبهم وديدنهم أن يكونوا عبيداً لأعداء الله عز وجل وأعداء دينه، دأبهم وديدنهم أن يتلقوا الأوامر لا من خالقهم الذي إليه مآلهم، لا .. بل من أعدائهم وأعداء مولاهم وخالقهم سبحانه وتعالى، دأبهم أن يصغوا السمع جيداً إلى التعاليم التي تأتي من العدو المستعمر؛ من العدو الذي أذلهم، من العدو الذي يخطط للمزيد والمزيد من اقتناص حقوقهم؛ يصغون السمع إلى تلك الأوامر ليقولوا لهم ما يقوله العبد الذليل المهين لسيده المطاع الأمين لبيك لبيك.

أما الإله الذي خلق فسوى والذي إليه المآل، والذي بيده كل شيء، والذي لا يتنفس هؤلاء الناس إلا بالقدرة التي يبثها في كيانهم لحظةً فلحظة، أما هذا الإله فيا للعجب، إنهم لمحجوبون عنه.

لكن لا عجب، لأن الله سبحانه وتعالى قد حلل الأسباب وبين الخلفيات.

هذا شيءٌ أيها الأخوة، الشيء الثاني أن الإنسان عندما يجد نفسه أمام هذه الظاهرة، أناس عرفوا الله ثم إنهم يحاربونه، وعرفوا أعداء الله وأعدائهم، ثم إنهم يوالونهم. عندما يجدوا هذه الظاهرة ينبغي عليه أن يعلم أن له وظيفتين اثنتين، ينبغي أن يعلم وقد عافاه الله من أن ينحط إلى هذا الدرك فيكون مثل هؤلاء الذين هبطوا إلى الدرك الأدنى من الذل والمهانة، ينبغي أن يعلم أن له وظيفتين اثنتين:

الأولى: أن يسأل الله العفو والعافية وأن يمعن في التمسك بنقيض هذا النهج المنحط. الوظيفة الأولى أن يعلم كلٌ منكم أن مولاه ربه وخالقه، هذا هو مولانا ولا مولى لنا سواه إطلاقاً. ومن ثم فإن واجبنا أن نصغي إلى ما يقوله لنا هذا المولى، فننفذ أوامره تماماً، وإن اقتضى ذلك أن نضحي في سبيل هذه الأوامر بكل ما يمكن أن تتصوروه من مشتهيات وأهواء؛ تنفذون أوامر الله وتعلنون أنكم على استعداد لتطبيق ما قد أمر، وللترفع عما قد نهى، وإن كان في ذلك خسارة دنيا، وإن كان في ذلك خسارة أمنٍ أو طمأنينة، وإن كان في ذلك تعريضٌ الحياة للهلاك، ولن يقع الإنسان في مغبة شيء من ذلك أبداً وإن لاح له في بادئ الأمر أنه لا بد أن يضحي من أجل أن يظهر صدقه مع الله سبحانه وتعالى.

هذا هو واجبنا .. فهل عسيتم أن تنحرفوا عن هذا الواجب كأولئك اللؤماء، إياكم أيها الإخوة.

اجعلوا ديدنكم أن تعلنوا أمام الله عز وجل أنكم بعيدون عن ذلك الإنحطاط الذي يهوي إليه أولئك الذين جعلهم الله أدنى درجةً من الأنعام، ليكن لسان حالكم معلناً أنكم مع الله وأنكم خاضعون لولاية الله الذي أحبكم والذي بجلكم والذي كرمكم، وفسِّروا هذا بتطبيقكم لأوامره وابتعادكم عن نواهيه في حق أنفسكم وفي حق أولادكم وفي حق بناتكم قبل أولادكم الذكور، وأنتم تعلمون جيداً معنى هذا الكلام الذي أقوله لكم أيها الإخوة.

قد تجدون أن أولئك الأعداء يتخذون من بناتكم أوراقاً لربحهم وخسارتكم فاجعلوا أنتم من أولادكم وبناتكم أوراقاً لربحكم ولخسارتهم هذا هو أول واجبٍ ينبغي أن تعلموه.

الواجب الثاني: أن لا نيأس من روح الله وأن نعلم أن الزبد الطافي يضمحل ويزول، وأن الحق والمفيد سيمكث في الأرض. ذلك هو قرار الله. وهل هنالك زبدٌ أكثر جفاءً وأكثر هباءً من الباطل الذي ترونه والذي نتحدث عنه الآن، وأنتم تقرأون كلام الله سبحانه وتعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ). هذا كلام الله سبحانه وتعالى.

ومن عظيم وباهر حكمة الله أنه يجعل من مخلوقاته الكونية نماذج لحقائقه التشريعية، يرينا الله الزبد كيف يربو بشكل مخيف على وجوه السيول الداهمة، وما هي إلا دقائق حتى يزول هذا الزبد وينمحي وينمحق، وإذا هو لا شيء، والقرار للخير الذي ليلتصق بالأرض ولا يزول. هذا الذي كوّنه الله أمام أبصارنا هو نموذجٌ للحق الذي وضعه الله أمام بصائرنا.

أرأيتم إلى كل هذه المظاهر الزائفة من محاربة دين الله، ومن الكيد إلى الإسلام، ومن السير بمهانةٍ وذل لخدمة أعداء الله سبحانه وتعالى، أرأيتم إلى هذا كله إنه الزبد الطافي، إنه الزبد الذي سيذهب جفاء، ولا والله لا يمكن لشيء من ذلك أن يعلق بذهن إنسانٍ عاقل، ولا يمكن لشيء من ذلك أن يستقر على أرضٍ شاءها الله سبحانه وتعالى أن تكون موئلاً لدينه بشكلٍ من الأشكال، ولو كانت لأيدي البغي ولو كان للعقول المدجلة والخادعة لو كان لها أن تفعل شيئاً لهلك هذا الدين منذ قرون متطاولة، ولاختنقت حقائقه منذ أزمنة بعيدة.

ولكن ها أنتم ترون أن الزمن كلما امتد كلما ازداد هذا الدين جلاء وكلما ازدادت حقائقه نضارة، ينبغي أن نعلم هذا وذاك، ولكن ما ينبغي أن تنسينا الحقيقة الثانية وظيفتنا الأولى، فالله ينتصر لدينه عن طريق الصفوة الصالحة من عباده، فكونوا أنتم هذه الصفوة الصالحة من عباد الله سبحانه وتعالى.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من خيرة عباده، وأن يوفقنا للسير على صراطه، فاستغفروه يغفر لكم .

تحميل



تشغيل

صوتي