مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 08/11/1996

أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

ما أقرب توفيق الله سبحانه وتعالى ونصره من عباده مهما طالت الطرق وتعقدت السبل إلى ذلك ..

وما أبعد هذا التوفيق وهذا النصر عنهم أيضاً مهما تيسرت السبل وتقاربت بينهم وبين ذلك الطرق أيضاً.

الأمر بعيد وقريب بآن واحد ومرد ذلك إلى شرطٍ أساسي لا بديل له:

كلما كان المسلمون صادقين مع الله سبحانه وتعالى دنى إليهم النصر وطويت السبل الطويلة بينهم وبينه، وكلما اختفت دلائل الصدق في حياتهم مع الله سبحانه وتعالى تعقدت السبل بينهم وبين النصر مهما لاحت لهم أنها معبدة، وطال الطريق وتعرج إلى ذلك مهما لاحت لهم أن الطريق إلى ذلك قصير.

الصدق الصدق مع الله سبحانه وتعالى هو ثمن النصر، ولا تسألوا عن السبل ولا تسألوا عن إمكانيات الأمر أو عدم إمكانياته، ولكن إذا غاضت دلائل الصدق عن حياة المسلمين فإن الأمور اليسيرة تغدو عليهم عسيرةً بل مستحيلةً ربما.

كم وكم أيها الإخوة وقفت أمام آية في كتاب الله سبحانه وتعالى لأتبين فيها هذا الامتحان العظيم الذي لا يراد منه إلا شيء واحد، إبراز الصدق أو عدم الصدق لدى عباد الله سبحانه وتعالى الذين يدعون الإيمان به والتمسك بحبله.

آية في كتاب الله عز وجل في غمار القصة التي تبدأ بقول الله سبحانه وتعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" إلى أن يقول الله سبحانه وتعالى: "فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ" إلى آخر الآيات.

ما أكثر ما وقفت أمام هذا الامتحان .. ما علاقة نهر وجده جندٌ من جنود الله سبحانه وتعالى في طريقهم إلى مقاتلة عدو؟ ما علاقة هذا النهر إن شربوا منه أو لم يشربوا بالتوفيق أو عدم التوفيق؟ بالنصر أو بعدم النصر؟ ولكن الأمر أيها الإخوة واضح .. إن المسألة لا تكمن في سرٍ يكمن في هذا النهر، ولكن المسألة تكمن في سرٍ وراء صدور هؤلاء الذين يزعمون أنهم مؤمنون بالله، ومستمسكون بحبل الله سبحانه وتعالى، ويبتغون الانتصار لأنفسهم ولدين الله سبحانه وتعالى.

ولكي يتجلى الصدق لا بد من امتحان، ومادة الامتحان - أياً كانت - ليست هي المهم، إنما المهم أن هذا الامتحان أياً كانت أداته لابد أن يكشف أخيراً عن الصدق أو عدم الصدق لدى هؤلاء الناس.

ابتلاهم الله - كما قال ذلك الذي كان يقودهم إلى معركة – بنهر، ولاشك أنهم كانوا على ظمأ، وقال لهم: إن من شرب من هذا النهر ليس مني، ومن لم يطعمه فإنه مني، أي هو الذي اعتبره جنداً عندي، واعتمد عليهم في الهدف الذي أسعى إليه إلا من اغترف غرفةً بيده لكي يتوقى بذلك المهلكة.

هذا الامتحان أيها الإخوة هو سنة رب العالمين في عباده، في كل عصرٍ لابد أن يمتحن الله عباده إن بنهر كهذا النهر، أو بأي أمرٍ آخر من الأمور التي تتعلق بها النفوس وتتشهاها الغرائز، لا بد.

أنا أدعي أنني صادقٌ مع الله، محبٌ لله، منتصرٌ لدين الله، هذه دعوة ولابد أن يتجلى إما الدليل على صدق هذه الدعوة، وإما أن يتجلى الدليل على كذب هذه الدعوة، والله يعلم سلفاً إن كنت صادقاً أم لست بصادق، ولكن الله لا يعامل عباده بناءً على علمه الغيبي بهم، إنما يعاملهم بناءً على مصداق علم الله به، يعاملهم بناءً على ما وقع في سلوكهم متفقاً مع علم الله سبحانه وتعالى به. تلك هي سنة الله عز وجل في عباده دائماً.

ترى هل وقفتم عند هذا الابتلاء البسيط في مظهره، ولكن الذي ينطوي على سرٍ كبيرٍ وهائلٍ في داخله؟

هل ربطتم بين هذا الابتلاء لتلك الأمة أو لتلك الجماعة، والابتلاءات التي يمتحننا الله سبحانه وتعالى بها اليوم؟

هل ربطتم بين هذا وذاك، لتعلموا هل كنتم من أولئك القلة الذين لم يشربوا من ذلك النهر؟ أم إنكم من الكثرة التي أوغلت في نهي الله سبحانه وتعالى وأغمضت العين عن ابتلائه وأمره، وغاصت في حمأة ما قد نهى الله سبحانه وتعالى عنه؟

هل قارنتم بين أنفسكم وبين أولئك الناس، لتعلموا أنكم من أي الفريقين؟

لو فعلتم ولو تصورتم لما عتبتم على الله سبحانه وتعالى، عندما ترون أن الذل قد حاق بكم من الأطراف كلها، عندما ترون أن المهانة قد أصبحت صبغةً لكم، عندما ترون أن الله سبحانه وتعالى قد استبدل بغناكم فقراً، عندما تتصورون وترون أن الله سبحانه وتعالى قد استبدل بوحدتكم فرقةً وشتاتاً.

نحن أيها الإخوة من تلك الكثرة التي أعرضت عن ابتلاء الله سبحانه وتعالى ولم تبالي، وأخذت تغرف وتغرف من ذلك النهر وتشرب تروي بذلك غريزتها ورغبتها، نحن من هذا الفريق، ولسنا من القلة، ولو كنا من القلة إذاً لوجدتم أن نصر الله أصبح قاب قوسين أو أدنى، ولرأيتم أن التضاريس والعقبات كلها قد انمحت مما بينكم وبين أعلى قمم النصر.

ولكن الواقع أن الطريق ليس هو البعيد بينكم وبين النصر، وأن التضاريس والعقبات التي ترونها ليس هي الحائل بينكم وبين الوصول إلى النصر، إنما الحائل أن الله ابتلاكم فأخفقتم في الامتحان، ابتلاكم الله سبحانه وتعالى بأمورٍ كثيرة، ولكن للأسف أعرضنا عن أمر الله في ذلك كله، ابتلانا الله بخيارين:

أحدهما: أن نضحي بأهدافنا الدنيوية وضماناتنا المستقبلية أن نضحي بذلك في سبيل تنفيذ أوامر الله التي أخذها علينا.

الخيار الثاني: أن نضحي بأوامر الله وأن نضحي بأحكامه في سبيل أن نضمن لأنفسنا وهماً، مستقبلنا الدنيوي أو مستقبل أولادنا وبناتنا الدنيوي.

هذا ابتلاء كذلك الابتلاء الذي وضعه الله أمام طائفة من عباده عندما نهاهم وهم على ظمأ أن يشربوا من ذلك النهر.

فساءلوا أنفسكم هل نجحتم في هذا الاختبار أم لم تنجحوا؟ كم وكم من الأسر المسلمة التي يزعم كلٌ من الأبوين فيها أنهما مسلمان خاضعان لله يهرعان إلى الصلاة في الأوقات الخمسة كلها، وإذا جاء موسم الحج تسابق أرباب هذه الأسر متجهين إلى بيت الله الحرام، ولكن الامتحان ليس هنا.

الامتحان يكمن في أنك إما أن تغضي الطرف عن دينك وتقول لابنتك:

لا بأس أن تنفصلي عن الحشمة التي أمرك الله بها ..

ولا بأس أن تكشطي عن رأسكِ الحجاب الذي شرفك الله سبحانه وتعالى به ..

ولا بأس أن تلقي أمر الله وراءك ظهرياً ضمانةً للمستقبل الذي لابد منه ..

وإما أن تقول لها: بل تمسكي يا ابنتي بما أمر الله فهو الرزاق وهو المغني وهو المحي وهو المميت وهو المعطي وهو القوي وهو المعز وهو المذل، تمسكي بأمر الله في كل تقلباتك وأحوالك، وإن اقتضى الأمر أن تضحي في سبيل ذلك بالمستقبل الوهمي الذي يخوفنا منه الشيطان أو شياطين الإنس والجن، فضعي ذلك المستقبل الوهمي تحت قدميك وعودي إلى دارك.

ماذا صنعنا أمام هذا الخيار أيها الإخوة؟ هذا هو النهر الذي ابتلانا الله عز وجل به، بل هذا نهرٌ من الأنهر التي ابتلانا الله سبحانه وتعالى بها، النتيجة تعرفونها جميعاً أيها الإخوة، كلكم يعلمها.

ووالله الذي لا إله إلا هو لو كنا كتلك القلة التي تسامت فوق ذلك النهر، واحتسبت ظمأها عند الله سبحانه وتعالى إذاً لأكرمكم الله بالمستقبل، ولغمركم بالنعم والرزق، ولنصركم، ولأيدكم أعظم تأييد، ولرفعكم من حضيض المهانة إلى مستوى العزة والكرامة، والله الذي لا إله إلا هو لو أنكم أخذتم الخيار الذي يرضي الله سبحانه وتعالى لرأيتم أن الذين يحرجونكم ويلجؤونكم إلى مخالفة شرع الله يلحقونكم ويقبلون الأيدي لكي تعودوا وتعيدوا أولادكم وبناتكم إلى حيث يرضي الله سبحانه وتعالى، ولكن أمرنا الله ووسوست إلينا الشياطين فلم نثق بأمر الله ووثقنا بوساوس الشياطين.

ما قيمة إيمانٍ هذا شأنه؟ ما قيمة تصديقٍ بالله سبحانه وتعالى هذا هو مآله؟ لا سيما إن علمتم أن هذا الذي تحمل عليه بناتكم في كثيرٍ من الأحوال والحالات - والله أيها الإخوة - إن هو إلا رعونةٌ لا يغطيها أي قانون بشكلٍ من الأشكال، وهنالك تجاوزات على نظام الدولة لا تعالجها إلا مواقف الأمة، اعرفوها هذه الحقيقة.

هنالك تجاوزات إن وقعت لا يقضي عليها ولا يذيبها إلا موقف الشعب أو موقف الأمة، وعندما تتخذ الأمة الموقف الذي يرضي الله سبحانه وتعالى فإن هذه الأمة تتلقى بعد ذلك لا شكر الله وحده فقط، بل شكر الدولة أيضاً.

أقول لكم هذا لتعلموا الحقيقة التي ينبغي أن تستقر في أذهانكم، ولكن الحكمة كل الحكمة في أن الله سبحانه وتعالى ما كان ليدعكم لدعاويكم التي لا يظهر صدقها من كذبها."أمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ" "آلم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" وهو يعلم - كما قلت لكم قبل أن يمتحننا - لكن الله من سيرته وسنته في عباده، أنه لا يأخذهم بعلمه الغيبي في حقهم، لا بد أن يريهم أن واقعهم سيكون مطابقاً لعلمه، وعندئذٍ يحاسبهم على الواقع الذي صدر منهم، لا على العلم الغيبي الذي كان يعلمهم عنه سلفاً.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهم المسلمين الاعتزاز بهذا الدين وأن يجعلهم من القلة التي ترفعت فوق ذلك النهر وأنهر الابتلاء مستمرة وممتدة إلى قيام الساعة .

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .

تحميل



تشغيل

صوتي