مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 20/09/1996

سبب المهانة التي أُصيبت بها الأمة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

كثيراً ما نردد ونُذكر بأن السبب الأول والأخير للمهانة التي أُصيبت بها هذه الأمة وللذل الذي حاق بها إنما هو ابتعادها عن تعاليم إسلامها الذي كان هو أساس عزتها وشرفها وسؤددها.

وهنالك فئة من الناس كلما ذكّرنا بهذه الحقيقة ونبهنا إلى هذا الواقع قالت: فما بال تلك الأمم الأخرى التي لم تتقيد بالإسلام أصلاً ولم تتمسك بشيءٍ من أصوله أو فروعه، عزيزةٌ لا تهون، قويةٌ لا تضعف، متماسكة لا تتخاذل؟!

والمصيبة أيها الإخوة أن هذه الفئة - التي تظل تسأل هذا السؤال كلما أكدنا تلك الحقيقة - لا تلتفت إلى كتاب الله لفتةً واحدة، ولا تقف بأي تأمل عند دراسة سنن الله سبحانه وتعالى وأصول تعامله مع عباده، ولذلك فإن سؤال هذه الفئة من الناس يظل متكرراً، لأنها تهوى أن تطرحه إشكالاً، ولا تحب أن تصغي إلى الجواب عنه كحلٍ لهذا الإشكال.

وأنا أقول - لا إقناعاً لتلك الفئة التي لن تقتنع، ولكن أقول لكم لكي لا يصيبكم شيءٌ من رشاش هذا الإشكال المفتعل، أقول لكم: إن الجواب عن هذا كامنٌ في كتاب الله سبحانه وتعالى ومحكم تبيانه اقرأوا في هذا قول الله سبحانه وتعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ"

أليس في هذا البيان الواضح الصريح والمفصل ما يجيب عن هذا الإشكال وما يحل هذا اللغز المفتعل؟ ولكن الأمر يحتاج إلى من يتدبر كتاب الله سبحانه وتعالى، ويحطم أقفال القلوب التي تمنع من الإصغاء إلى هذا البيان الواضح الصريح.

سنة الله سبحانه وتعالى في عباده هي أنه يبعث إليهم الرسل والنذر منبهين معرفين موضحين مهمة الإنسان ووظيفته فوق هذه الأرض وهويته عبداً لله سبحانه وتعالى، فإذا انقاد الإنسان إلى هذه التعاليم واصطبغ بهذه الإرشادات وسار على الطريق التي رسمها بيان الله سبحانه وتعالى، فإن الله قد ألزم نفسه أن يسعد هذه الثلة من الناس، وأن يكرمها بالغنى وبالعزة وبالتماسك والقوة. وهذا معنى قول الله سبحانه وتعالى: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً".

هذا قرار الله وهذا وعده الذي قطعه اتجاههم على نفسه.

فأما إن سارت هذه الثلة على نهج هذه الأوامر، ولكنها تلكأت أو انحرفت بين الحين والآخر إلى المعاصي والمحرمات، أو منيت بالأمراض التي تسري إليها من جيرانٍ لها أو من أناسٍ منحرفين عن يمينها أو عن شمالها، فإن الله عز وجل من شأنه أن يتدارك هذه الثلة عندما تنحرف أو عندما تقلد أو عندما تسري إليها عاديةٌ من أمراض أولئك الآخرين، إن من عادة الله عز وجل أن يوقظ هذه الثلة من عباده، بماذا يوقظها؟ يوقظها بالتخويف، يوقظها بالمصائب، يوقظها بالابتلاءات؛ يسلط عليها بين الحين والآخر قوىً ذليلةً مهينة كان الجدير أن تكون هي المتحكمة بها وهي المسيطرة عليها، لعلها تستيقظ، لعلها تجد في هذه السياط المؤدبة تطبيباً لها وإيقاظاً لها من رقادها. تلك هي سنة الله سبحانه وتعالى وتلك هي الحالة التي نمر بها اليوم.

نحن مسلمون ولله الحمد ونحن هي تلك الأمة التي أعزها الله بالإسلام، ولكنا انحرفنا عن الجادة جزئياً أو كلياً، واستهوتنا السبل المتعرجة هنا وهناك، ووجد فينا من يقلد ومن يتبع ومن تمتلأ عيناه بلغو اللاغين وعبث العابثين ويُخدع بانحرافات المنحرفين. هذا هو واقعنا.

كيف يعالج بيان الله المسلمين عندما يكونون بهذه الحالة؟

يعالجهم وهذه رحمة من رحمات الله بالإيقاظ، وكيف يكون الإيقاظ؟

بأن يبعث عليهم الشدائد واحدةً إثر أخرى، وأن يبتليهم بالرزايا والمصائب مرةً تلو مرة، وأن يسلط عليهم فئات ممن كانوا هم المُسلَّطين عليهم من قبل لعلهم يستيقظون لعلهم يتنبهون. هذه سنة رب العالمين، وهذا ما أعلنه بيان الله قد تلوته عليكم الآن "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"

نحن الآن نعيش هذه المرحلة، كنا تلك الأمة التي أعزها الله بالإسلام، وكنا نموذجاً أمام بصائر الناس وأبصارهم ليعلموا قيمة الإسلام وأهميته، فلما ظهر الإنحراف هنا وهناك عن الجادة، وظهر ظهرت الرغبة في تقليد الآخرين ممن شنأهم الله سبحانه وتعالى وأبغضهم، كان لا بد أن نمر بهذه المآسي التي نمر بها الآن للإيقاظ وللتربية؛ لعلنا نجتمع بعد تفرق، لعلنا نتوب، لعلنا نصطلح مع الله، إذاً سيعيد الله سبحانه وتعالى إلينا العزة.

أما تلك الأمم الأخرى التي لم تكن لها سابقة سير على صراط الله، ولم تكن لها سابقة هديٍ بكتاب الله سبحانه وتعالى ولا بتعاليم رسله وأنبيائه، جاءتهم الرسل جاءتهم المُذكِّرات، تلقوا الكثير والكثير من المنبهات فلم يلتفتوا ولم ينصاعوا ولم ينقادوا. وصدق عليهم قول الله عز وجل: "فلما قست قلوبهم" قست منهم القلوب، وقست منهم الألباب، هؤلاء ليسوا محل تطبيب لأنهم ليسوا أهلاً ليُطببهم الله سبحانه وتعالى.

ألم يقل الله سبحانه وتعالى: "فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ" انقطع الأمل من عودتهم، ونحن لم ينقطع الأمل من رجوعنا إلى الله، لا ها نحن نتصايح ونتواصى لكي نعود. لكن تلك الأمم الأخرى التي انقطع الأمل منها أن تعود إلى الله، ماذا يقول الله عنها: "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ" نسياناً كلياً "فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ".

هذه عادة رب العالمين، ما فائدة التطبيب؟ ما فائدة الرزايا؟ ما فائدة سياط التربية وقد نسوا كل شيء وقد قست منهم القلوب والألباب؟ لا فائدة. إذاً ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ"

من ذا الذي يتمنى أن لو كان هو المعني بهذه الفقرة من كلام الله عز وجل، ومع ذلك عندما يفتح الله عليهم أبواب كل شيء هل يستمر الأمر على هذا المنوال؟ ما عاذ الله، هل يستمر هذا الرقص على هذه النشوة بسائق هذه النعم التي تتوارد وتتمطر عليهم؟ لا والله. وانظروا إلى تتمة كلام الله عز وجل "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ"

وهذه المرحلة آتية والله الذي لا إله إلا هو، وتلك هي سنة الله في أولئك الذين خلوا من عباده، ما من أمة طغت وبغت ونسيت الانصياع لأوامر الله واستكبرت وعتت وأصرّت على السير بعيداً عن صراط الله وأصرت على أن تُصم الآذان عن سماع هدي الله وركبت رأسها مستمرةً على هذا المنوال، ما من أمة كان هذا شأنها إلا أسكرها الله بالنعم لمدة من الزمن، وبعد حين أخذها الله أخذ عزيزٍ مقتدر.

الحضارة الرومانية وصلت إلى ما أكثر إلى ما وصلت إليه الغرب اليوم، بذخاً قوةً عزةً استكباراً عتواً هيمنةً ... فماذا كان النتيجة بعد ذلك؟ أسفت تلك الحضارة الرياح المشرقة والمغربة وعادت أثراً بعد عين.

الحضارة الساسانية الفارسية وصلت إلى أكثر من وصل إليه الغرب اليوم، واستشرت وطغت وبغت فماذا كانت النتيجة؟ أخذها الله أخذ عزيزٍ مقتدر.

ما من أمة من الناس جاءتها المذكرات فلم ترعوِ، ثم لم ترعوِ .. إلا فتح الله سبحانه وتعالى لها سبل المتعة من كل النوافذ والأبواب ردهاً من الزمن، ريثما تأخذها سكرة النعيم أخذاً تاماً، وفجأة جائها العذاب الواصب إما من فوق أو من تحت أو من الأطراف المختلفة.

ولكن الناس عندما ينتظرون انتقال مرحلة تلو المرحلة من هذا الذي يقوله الله، ينتظرون الأمر تماماً كما ينتظرون الموت الذي يحيق بإنسانٍ قد امتد على فراش الموت أمامهم، ينظرون إلى الميقات ويعدونه بالأيام، فإن لم يكن بالأيام فبالشهور، أعمار الدول ليست كأعمار الأناسي أيها الإخوة، أعمار الأناسي تعد بالسنوات بل ببضع سنوات ربما ثم بالشهور والأيام، أما الدولة فأعمارها تعد ربما بالقرون، والدولة التي لا تعيش أكثر من مئتي عام تكون من الدول التي حاق بها الهلاك وهي في المهد.

نعم .. ونحن ننظر إلى دول البغي مغربة أو مشرقة، ونعد الساعات ونجد الساعات تمر دون أن يحيق بها قول الله سبحانه وتعالى: "أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ". ننظر إلى الأيام والليالي التي تمر ونقول متى سيحين ذلك؟ نقيس عمر تلك الدول بأعمارنا نحن، وهاهنا مكمن الخطأ أيها الإخوة، الذي يرصد حياة الأمم ينبغي أن يرصدها بمواقيت التاريخ لا بمواقيت الساعة التي يضعها في يده.

ونحن نعلم أن دول البغي هذه تتحرك، ولكنها والله تتحرك حركة المذبوح، وعما قريب ستهدأ النأمة، ولسوف يحيق قضاء الله سبحانه وتعالى بها، فلا يخدعن إنسان عندما نتحدث عن أسباب تخلفنا، لا يُخدعن بأولئك الناس الذين حاق عليهم لمرحلة قصيرة من الزمن قول الله سبحانه وتعالى: "فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ" هي مرحلة قصيرة.

وانظروا إلى عمر كيف وعى هذا المعنى بدقة، وكيف عبر عن هذا الذي وعاه بجملة واحدة، عندما قال لأبي عبيدة: "نحن قومٌ" نحن لا غيرنا "نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام فمهما طلبنا العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله".

نحن بالذات التاريخ يعلن أن عزتنا التي طأطأ العالم رأسه لها إنما جاءت من ينبوع هذا الدين، العالم كله يعلم ذلك "نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام"، إن تحدثت عن حضارة هذه الأمة فمعينها الإسلام، وإن تحدثت عن غنى هذه الأمة فمعينها الإسلام، وإن تحدثت عن قوة هذه الأمة فمعينها الإسلام، وإن تحدثت عن تماسك هذه الأمة ووحدتها فمعين ذلك الإسلام.

عندما تخلع هذه الأمة رداء الإسلام كلياً أو جزئياً، لا بد لكي يعلم العالم هذه الحقيقة ولكي لا يسري الشك إليه لماذا اعتزت هذه الأمة في ردح من الزمن، ثم هانت؟ لا بد عندما تخلع هذه الأمة رداء الإسلام أن يستلب الله منها عند ذلك تلك العزة، وذلك الغنى، وتلك الوحدة، وتلك القوة، حتى يعلم الناس ويتأكدوا من أن تلك العزة التي تمتعت بها هذه الأمة في ماضي حياتها إنما كانت آتية من الإسلام.

عندما نجد أن هذه العزة وهذه المزايا قد تقلصت عنها عندما تقلص عنها الإسلام سلوكاً، يزداد الناس تأكداً بهذه الحقيقة، ويزداد علماً بهذا المعنى.

لكن لو أنها خلعت رداء الإسلام كلياً أو جزئياً كما نرى اليوم، وبقيت وحدتها، وبقيت قوتها، وبقي غناها، فربما أصابنا الريب، وربما قلنا إذاً لم تكن تلك العزة ولم يكن ذلك التوفيق ولم تكن تلك الحضارة.. لم يكن كل ذلك مبعثه الإسلام، لأن الإسلام ها هو ذا انحسر عنها وهي لا تزال في قوتها، وانظروا إلى قول عمر هذا كم هو دقيق: "نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام". ومن أجل هذا فاعلموا مهما اعتززنا بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله. وها هو هذا كلام عمر يحيق بنا سلباً بعد أن عرفنا حقيقته ايجاباً وطرداً.

فهل عسيتم أيها الإخوة أن تحصنوا عقولكم ضد هذا الخداع الذي يقوله من يقول، ويكتبه من يكتب، والله الذي لا إله إلا هو ليس بينكم وبين أن تحصنوا عقولكم ضد هذه الجرثومة إلا أن تقرأوا كتاب الله بتدبر. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .

تحميل



تشغيل

صوتي