مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 02/08/1996

التجائي إلى رسول الله أدب مع الله عز وجل

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى .

أمّا بعدُ فيا عباد الله ..

إن من مقتضى محبة الإنسان لله سبحانه وتعالى أن يحب رسوله المصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم، وإن من مقتضى محبة المسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينقاد لأوامره، وأن يطبق سنته، وأن يكون رقيباً على تنفيذ وصاياه كلها، ولكي يستطيع المسلم الثبات على ذلك ينبغي أن يكون رأسماله في ذلك محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالمسلم الذي ينتمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنسب اليقين العقلي بأنه رسولٌ من عند رب العالمين فقط، دون أن يكون قلبه مليئاً وفيّاضاً بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لن يستطيع الصبر على الانقياد لسنته، ولن يستطيع ثباتاً على تنفيذ وصاياه وأوامره، وإنما الذي يعينه على ذلك بعد الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم إنما هو حب المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وهذا هو السبب في أنه عليه الصلاة والسلام قال وكرر القول في أكثر من حديث صحيح واحد: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين"، وحاشى أن يكون الحافز لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الكلام أنانية يشبعها بهذا الحديث، ما عاذ الله أن يكون دافعه إلى هذا الكلام ذلك، لكنه صلى الله عليه وسلم مكلفٌ بأن يبلغنا كل ما قد كُلّف بتكليفه، ومحبة المسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم جزءٌ لا يتجزء من الإيمان أو هي ثمرةٌ لابد منها من ثمرات الإيمان، فكان من الواجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك للناس، وأن يوضح لهم أن عليهم أن يسعوا سعيهم إلى محبته صلى الله عليه وسلم بعد محبة الله عز وجل، ولو لم يقل ذلك لخان الأمانة - وما عاذ الله أن يخونها - ولما بلّغ الرسالة - وما عاذ الله أن لا يبلغها.

إذاً فالإنسان الذي اكتفى بصلته برسول الله صلى الله عليه وسلم بإيمانٍ عقلي أنه رسول، ثم لم يُشعر قلبه شيئاً من محبته صلى الله عليه وسلم لن ينفعه ذلك الإيمان إن بقي على هذه الحالة قط، وكيف ينفعه ذلك ورسول الله يقول: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين".

فأما إذا سألت عن الطريق الذي ينبغي أن يسلكه المسلم إلى محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى الرغم من أن هذا سؤالٌ عجيب وغريب، عجيبٌ أن يقول مسلمٌ آمن بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمن بأن القرآن كلام الله عز وجل، ثم احتار كيف يسلك السبيل إلى أن يحب رسول الله؟ هو يعاني من عدم محبته له، لا يمكن أن تجد إنساناً آمن بالله ثم آمن برسول الله وشعر بحاجته إلى السبيل التي يغرس بين جوانحه محبة المصطفى عليه الصلاة والسلام. على الرغم من غرابة هذا السؤال نقول:

تأمل في مدى محبة رسول الله لأمته تجد نفسك أمام السبيل بل أمام أقصر سبيلٍ إلى محبتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر كيف كان المصطفى عليه الصلاة والسلام يحب أمته - سواءٌ منها من رآهم من أصحابه أو من تشوق إليهم من إخوانه، أي الذين لم يرهم، انظر كيف كانت مشاعره صلى الله عليه وسلم بالحب اتجاههم. هل يمكن إذا رأيت دلائل ذلك - والدلائل كثيرة - أن لا يفيض منك القلب حباً لهذا الذي أحبك؟!

وانظروا أيها الإخوة إلى هذا الحديث - وهو واحد من أحاديث كثيرة بل من مواقف كثيرة جداً - انظروا إلى هذا الحديث الذي يرويه مسلم بسنده: عن عبد الله بن عمر بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلى قول الله عز وجل على لسان ابراهيم: "رب إنهم أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفورٌ رحيم" ثم تلى قول الله عز وجل على لسان عيسى عليه الصلاة والسلام: "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" رفع يديه عندئذٍ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم أمتي .. اللهم أمتي" وبكى صلى الله عليه وسلم، فأمر الله جبريل أن ينزل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يقول له: يا محمد يقول لك الله سبحانه وتعالى: سنرضيك في أمتك ولن نسوءك".

هل في الناس إنسانٌ آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف أمام هذا المشهد العجيب من شدة رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته، بل شدة محبته صلى الله عليه وسلم لأمته مما جعله يجأر إلى الله عز وجل بالشكوى والدعاء، ومما جعله يبكي قائلاً: اللهم أمتي أمتي، ثم كان من نتيجة التجاءه إلى الله في هذه الشكوى أن بشره الله عز وجل - وهي بشارة لنا – قائلاً: يا محمد سنرضيك في أمتك ولن نسوءك.

فإن كنت على الرغم من هذا لا تشعر بحبك لهذا الذي أحبك، ولهذا الذي التجئ إلى الله يدعو من أجلك فأشهد أنك غير مؤمن بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعلك عندئذٍ غير مؤمنٍ بربوبية الله الذي أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم.

وليت شعري لماذا يجأر رسول الله بالالتجاء إلى الله؟ أفي سبيل الطائعين من أمته؟ رسول الله يعلم أن كل إنسان طائع مستقيم على صراط الله من أمته لا بد أن يُنفذ وعد الله في حقه بالمغفرة والإسعاد والرحمة، فلا داعي إلى أن يجأر رسول الله إلى ربه بالدعاء الواجف الباكي، ولكنه عليه الصلاة والسلام يلتجئ إلى الله أن يغفر للعصاة من أمته لماذا؟ لأن الذي هيج لديه هذا الدعاء دعاء ابراهيم للعصاة من أولئك الذين بُعث بهم، ودعاء عيسى بن مريم للعصاة الذين أرسل إليهم، هذا الدعاء من سيدنا ابراهيم ومن سيدنا عيسى هو الذي هيّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقف المقام ذاته فيجأر ويلتجئ إلى الله باكياً أن يرحم أمته، أي أن يرحم العصاة من أمته صلى الله عليه وسلم.

أيها الإخوة عندما نجد مثل هذا الموقف لرسول الله الذي أكرمه الله عز وجل به، ألا يشعر كل إنسانٍ مسلم أن سبيله إلى الله عز وجل وهو عاصٍ آثم سبيله إلى الله عز وجل أن يلجئ إلى رسوله؟ من منا لا يشعر بهذا السبيل المفتوح لاسيما عندما يقف أمام أحاديث كثيرة وهذا حديثٌ واحدٌ منها، كما أن رسول الله التجئ إلى الله ليقبل شفاعته للعصاة من أمته، فإن مهمتنا نحن أفراد أمته صلى الله عليه وسلم أن نلتجئ إلى رسول الله الذي جعله الله ملجئاً لنا، أن نلتجئ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنستفيد من الالتجاء إلى ربه أن يغفر لنا، نستفيد من الدعاء الضارع إلى ربه أن يتوب علينا، أن يكون شفيعنا يوم القيامة عندما يجعل الله من رسوله ملاذاً لنا، أفلا نجعل نحن بدورنا من رسول الله الملاذ إلى الله سبحانه وتعالى؟!

وما عجبي من شيء كعجبي ممن يُعرض عن هذه المكرمة التي أكرم الله بها رسوله محمداً عليه الصلاة والسلام. ثم يقول: دعك من الواسطة، لا حاجة إلى الواسطة ليس بينك وبين الله حاجز "وقال ربكم ادعوني استجب لكم".

من الذي يقول لك: إن التجائي إلى رسول الله إنما هو شرك مع الله عز وجل، التجائي إلى رسول الله أدبٌ مع الله عز وجل. ألم يغرز الله عز وجل في قلب رسوله هذا الحنان لنا أليس هو الذي وضع في قلبه هذا الرحمة بنا أليس كذلك؟ من الذي جعل قلبه يرق للعصاة من أمته حتى يرفع يديه ويقول باكياً اللهم أمتي أمتي لماذا؟

الباري عز وجل قادرٌ أن يتجه إلينا مباشرة ًبالرحمة والمغفرة والتوبة دون أن يكرم رسوله بأن يجعله هو الوسيلة إلى ذلك، قادر، ولكن ها أنتم ترون أن الله عز وجل غرز هذا التحنان العجيب لنا في قلب مصطفاه، مما دعاه إلى هذا الدعاء الواجف الباكي ثم أرسل إليه يقول: يا محمد سنرضيك في أمتك ولن نسوئك. من ذا الذي يجهل هذا المعنى أيها الإخوة؟ عندما يوسط الله رسوله سبيلاً إلى رحمته لنا أفما ينبغي بدورنا أن نوسط رسول الله ملاذاً لله عز وجل كي يتوب علينا؟

لا يمكن أيها الإخوة أن يجهل هذا الإنسان أن يجهل هذه الحقيقة إنسانٌ آمن بالمصطفى من بعد ما آمن بالله سبحانه وتعالى.

وإني لأتخيل أن أولئك الذين اخترعوا اليوم اختراعاً جديداً وعجيباً من مظاهر الكفران برسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قلدوا في اختراعهم هؤلاء الذين يقولون إن التوسل في رسول الله شرك. قام من يقلدهم فيقول: إن اتباع سنة رسول الله شرك، والتوحيد يقتضي أن نؤمن بوحيٍ واحد ألا وهو وحي القرآن، فإن أشركت مع وحي القرآن وحي سنة فذلك نوعٌ خطيرٌ من أنواع الشرك، قرأنا هذا الكلام لأناس كتبوه من جديد وأنا واثق أن هؤلاء الذين اخترعوا هذا اللون من الزندقة والكفران، إنما نبههم إلى ذلك أولئك الذين يقولون إن استنزال الشفاعة من رسول الله أو التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم شرك، إذا كان التوسل برسول الله شركاً فليكن اتباعنا لسنته أيضاً شركاً.

والواقع أن اتباعنا لسنة رسولنا إنما جاء بأمرٍ من الله: "من يطع الرسول فقد أطاع الله" تماماً كالتوسل ما كان توسلنا برسول الله إلا بأمرٍ من الله سبحانه وتعالى، لو لم يأذن لنا الله بل لو لم يأمرنا بأن نتوسل برسوله لما جعل رسوله وسيلة الرحمة إلينا، بل ما جعله صاحب الشفاعة الكبرى يوم القيامة. يوم يلوذ كما ورد في الصحيحين الناس كلهم إلى الأنبياء جميعاً فيردونهم الواحد إثر الآخر إثر الآخر فلا يجدون ملاذاً أمامهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذاً عندما أقول نعم لا ملاذ لي إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحشر كلامٌ صحيح، بل هو الكلام الذي أنبأني به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندما يقول البوصيري:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم

إنما قال هذا الكلام انعكاساً لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أيها الإخوة إن كنتم مؤمنين برسول الله، فاعلموا أن رأسمالكم لتغذية هذا الإيمان هو حب رسول الله، وإن كنتم تسألون عن السبيل إلى حب رسول الله، فالسبيل إلى ذلك كثير، لكن من أهم السبل: أن تتبينوا وتعرفوا مدى حبه لكم، وكم التجئ إلى الله في سبيل أن يكون شافعاً لكم غداً، وانظروا كيف أجاب الله عز وجل التجاءاته المتكررة عندما قال له: "ولسوف يعطيك ربك فترضى".

ترى ما الذي سيطلبه رسول الله يوم القيامة: هل سيطلب كنزاً من المال؟ هل سيطلب مزيداً من الرفعة التي متعه الله بها؟ أجمعت الأمة على أن الذي يرضي الله به رسوله إنما هو المغفرة الواسعة لأمته.

هذا هو السبيل الأكبر لغرس محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين جوانحنا. فأما إن كنت من أولئك الذين أصابهم رشاش هذا الشرود عن صراط الله سبحانه وتعالى، وأبيت أن تعلم أن الله جعل رسوله وسيلة رحمة لنا فمعنى ذلك أنك اجتثثت جذور حب رسول الله من قلبك وأسأل الله لك العفو والعافية من هذا .

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي