مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 19/07/1996

هل الاحتفال بذكرى المولد بدعة ؟

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

في مستهل كل شهر ربيع من كل عام تتجدد أشواق المؤمنين إلى حبيبهم المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتضاعف الرغبة لديهم في الرجوع إلى سيرته ودراسة حياته والتبرك بهذه الرحمة التي أغدقها الله علينا في بعثته.

ومع توجه هؤلاء الناس إلى هذه المشاعر في مستهل هذا الشهر من كل عام، يتجدد أيضاً ذلك الجدل العقيم الذي لا ينضبط ولا يريد أن ينضبط بأيٍ من موازين العلم والنظر والمنطق، حول مدى شرعية الاحتفاء والاحتفال بذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحول مدى شرعية الإجتماع على الإصغاء إلى سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. في هذه المناسبة من كل عام تتجدد أنشطة بعضٍ من الناس بأعيانهم لينعتوا سواد هذه الأمة بالاستغراق في البدعة والبعد عن الشريعة والعكوف على المحرم، ذلك كله لأنهم يحبون أن يعبروا عن حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في كل مناسبة، ومناسبة ولادته واحدة منها.

وأنا أحب في هذا الموقف أن أوضح لكم بضوابط العلم مدى شرعية هذا الذي يحتفل به المسلمون، لا أقول في هذا الشهر من كل عام بل في كل مناسبة وكل ما أرادوا أن يجددوا بيعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقول هؤلاء المجادلون إن الاحتفال بذكرى مولد رسول الله بدعة، فما هي البدعة أيها الإخوة؟ سلوهم ما هي البدعة؟

البدعة فيما قاله العلماء: هو طريقة في الدين أو العبادة مخترعة، يراد بالسلوك عليها مضاهاة الشريعة مبالغة في التعبد، هذا هو تعريف العلماء وفي مقدمتهم الإمام الشاطبي للبدعة. إذاً البدعة هي طريقةٌ في العبادة يخترعها الإنسان على أنها في زعمه ويقينه عبادة، وهي ليست كذلك. يضاهي بها أي يُقلد بها شريعة الله سبحانه وتعالى. هذا هو معنى البدعة.

إذاً العادات التي يعتادها الناس في أقوالهم أو سلوكاتهم المختلفة لا يمكن أن تكون بدعة، لأنها ليست طريقةً في العبادة مخترعة، الثياب التي تتطور في حياة الناس، البيوت التي يتطور عمرانها في حياة الناس، وسائل النقل التي تتطور، الدعوة إلى مؤتمرات وندوات وإقامة جامعات وتأليف كتب وطباعتها ونشرها بين الناس .. كلها أمور مستجدة ولكنها لا تدخل في معنى البدعة، لأن الناس الذين يفعلون ذلك لا يخطر ببالهم أنهم يمارسون من خلالها عبادة، الثياب، الأبنية، وسائل النقل، العادات المختلفة المتطورة في المآكل وفي الملابس وفي المؤتمرات والندوات العلمية التي لم تكن معروفةً من قبل .. ليست بدعةً، لأن الذين يمارسونها لا يمارسونها على أنها عبادة كالصلاة، كالحج، كالصوم، كالزكاة ونحو ذلك ولكنها عادات.

نعم هذه العادات بعد ذلك تتفاوت في قيمتها عند الله عز وجل بمقدار نتائجها إيجاباً وسلباً. فالمؤتمرات التي تعقد إذا كانت لها آثارٌ مفيدة للدين، عملٌ محبب وأمرٌ جيد. والندوات التي تصب في فائدةٍ دينية وعلمية يرضاها الله عملٌ جيد. والجامعات التي تُنشأ عملٌ جيدٌ إذا كانت في خدمة الحقائق الإسلامية، أما إذا كان ذلك كله يتجه إلى كيدٍ إلى الإسلام أو محاربة لدين الله عز وجل فهي أمورٌ محرمة، لا لأنها بدعة ولكن لأنها تنتج آثاراً لا يرضى عنها الله سبحانه وتعالى.

والآن تعالوا نتساءل: هل الموالد التي يجتمع الناس للإصغاء إلى سيرة رسول الله من خلالها هل هي عبادة؟ وهل يتصور المجتمعون أنهم بهذا يمارسون عبادةً كالحج والصلاة والصوم؟ إن كان هنالك من يعتقد ذلك فهو مبتدعٌ حقاً، ولكن من هو هذا الذي يتصور أن تداعي الناس واجتماعهم من أجل تذكر سيرة رسول الله وتجديد محبته في الأفئدة؟ من هو هذا الذي يتصور أنها عبادة من العبادات تُمارس كما يمارس المسلمون صلاتهم وحجهم وزكاتهم؟ إطلاقاً هذا غير موجود .. والذين يمارسون عملاً من الأعمال هم أدرى الناس بما يعتقدونه. فأما الذي يقول: لا إنك تعتقد أنك تمارس من خلال هذا المولد عبادة فهو مفتئتٌ، متى دخلت قلبي؟ ومتى عرفت أنني أعتقد أن هذا التلاقي عبادة؟ أنا الذي أعلم أنني أقصد بها العبادة أم أقصد بها نشاطاً اجتماعياً يحقق خيراً دينياً.

الإنسان الذي يفرض علي حكمه، بل على قلبي حكمه، مفتئتٌ في حق الله سبحانه وتعالى وشرعه، لك أن تقول: إياك أن تعتقد أن هذا العمل عبادة من العبادات، لك هذا، بل اعلم أنه نشاطٌ إجتماعي كأنشطة اجتماعية كثيرة أخرى، ولكن يُبتغى من وراء ذلك خيرٌ دينيٌ في هذا الاجتماع، لك أن تقول هذا وهذا كلامٌ يوضع على العين والرأس. أما أن يأتي من يقوم ويقعد ويكرر ولا يزال يكرر بأن هذه الموالد بدع أو بدعة لأن الذين يجتمعون من أجلها إنما يقصدون أنهم يمارسون بها عبادة من العبادات، مفتئتون على الله عندما قرروا أن يدخلوا قلوب الناس ويفتئتوا على قلوبهم وقد أبعد الله سبحانه وتعالى البواطن، فلا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وصاحب هذا القصد وصاحب هذا القلب.

ثم إن الابتهاج بذكرى مولد رسول الله من حيث هو شعور بالابتهاج، لم يقل قائل: أنه أمرٌ مبتدع. الشعور بالابتهاج انفعالٌ أيها الإخوة وليس فعل طوعي. مرت مناسبة عزيزة علي ابتهجت بسببها، أي شعرت بسرور وفرح غامر، من الذي يستطيع أن يقول باسم الله وباسم شرعه: أن هذا الشعور بدعة، وهل أملك أن أصد هذا الشعور من الفؤاد؟

حسناً رسول الله ابتهج بالمناسبة التي مرت في حياته ألا وهي مناسبة ولادته. رُؤي المصطفى صلى الله عليه وسلم - كما ورد في الحديث الصحيح - الذي رواه الإمام أحمد وغيره بسندٍ صحيح، رُؤي في يوم الثاني عشر من شهر ربيعٍ الأول صائماً فسُئل عن سبب ذلك. قال: "ذلك يومٌ ولدت فيه".

انظروا إلى ابتهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المناسبة، بل انظروا كيف عبر رسول الله عن ابتهاجه بهذه المناسبة بصوم هذا اليوم. فمن هذا الذي يملك أن يصد أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الابتهاج بيوم ولادته! ثم من ذا الذي يملك أن يصد أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم عن التعبير عن هذا الابتهاج! وكيف يكون التعبير عن هذا الابتهاج يا ترى؟ كيف يكون؟

لا شك أن خير وسيلة للتعبير عن هذا الابتهاج أن نعود فنصغي إلى سيرة رسول الله، أن نعود فنصغي إلى شمائله وحياته، أن نعود فنُثني على رسول الله بما هو أهله أو نصغي على الثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو أهله. هكذا يكون الابتهاج بذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن على أن نعلم ونحن نعلم أن هذا الابتهاج ليس عبادةً كعبادات الصلاة والصوم والحج والنسك وغير ذلك ... ولكنه شعورٌ من الابتهاج غامر يدعونا إلى نشاطٍ اجتماعيٍ يبتغى من وراءه خيرٌ ديني.

ولقد قلت لكم فيما أذكر: أنني دعيت مرة من قبل من ينكر علينا هذه الموالد ومن يعدها بدعاً دُعيت من قبلهم إلى مؤتمر يُعقد بمناسبة مرور كذا عام على ولادة محمد بن عبد الوهاب، ولقد أُنفق على هذا المؤتمر ملايين التي لا أحصيها ولا أعلمها، أرسلت إلى الداعين أقول لهم: إن هذا العمل بدعة فيما تقولون، ومن مقتضى ذلك أن لا أستجيب لدعوتكم، ولكن يا عجباً كيف يكون هذا العمل بدعةً عندما تكون لصالح محمد رسول الله ثم يكون عملاً مبروراً عندما يكون لصالح محمد بن عبد الوهاب!؟ كيف هذا؟

كيف يكون الاحتفال بذكرى محمدٍ رسول الله بدعة، ثم يكون الاحتفال بذكرى مرور كذا عامٍ على ولادة محمد بن عبد الوهاب عملاً مبروراً مشكوراً ومأجوراً؟! وما هي القاعدة العلمية التي قررت أن هذا بدعة وهذا ليس ببدعة؟! أمرٌ واضح، ونحن لا ننكر عليهم ما فعلوا، لأننا نعلم أن هذا المؤتمر كأمثاله من المؤتمرات ليس عبادةً، وإنما هو نشاط اجتماعي يُبتغى من ورائه خيرٌ ديني إن شاء الله، فنحن لا ننكر عليهم، ولكن لماذا يُنكرون علينا عندما نعلن عن ابتهاجنا بمولد رسول الله كما ابتهج رسول الله في يوم ولادته؟ لماذا؟

نعم. يُشترط لكل احتفال بمؤتمر أو ندوة أو لقاء لأي كان أو مولد، أن يكون المجلس خالياً عن المنكرات وأن يكون المجلس خالياً من المحرمات، هذا شرط لابد منه، ذلك لأن كل عادة من العادات إنما تُعد نافذةً مسموحاً بها شرعاً إذا لم تختلط بهذه العادة أعمالٌ محرمة، فأما تلك الموالد التي تُقام في بعض البلاد العربية الأخرى وتشيع فيها سفاهات ومنكرات محرمة فلسنا منها في شيء، وما هي بالموالد التي نتحدث عنها أبداً، ونحن أول من يُنكرها بل ننزه مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها.

فإذا ما كان المجلس نقياً صافياً عن الشوائب وكان سدى ولحمة هذا المجلس الإصغاء إلى مشاهد من سيرة رسول الله، مشاهد من شمائل سيدنا رسول الله، الإصغاء إلى مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريقة الشرعية التي أذن بها الله سبحانه وتعالى فبخٍ بخٍ بهذا العمل. وما أحسن هذه العادة التي تُثمر خيراً دينياً كبيراً، وكم رأينا ونرى من منحرفين اصطلحوا مع الله في مناسبات كهذه المناسبات في مناسبات موالد، وما أكثر ما رأينا أناساً جددوا عهدهم مع الله عز وجل أن يلتزموا بأوامره بعد شرود، وأن يسيروا على صراطه بعد انحراف، كل ذلك بفضل اللقاءات التي هي عادة، ولكنها عادةٌ مباركة تُحقق خيراً دينياً.

فإن قال قائل: إن تخصيص يوم الثاني عشر من ربيعٍ الأول لهذا العمل هو البدعة. قلنا لهم: ومن قال لكم أننا ننسى رسول الله خلال العام كله فلا نذكره إلا في يوم الثاني عشر، من قال هذا؟ من قال لكم: إننا لا نهرع إلى الاحتفال بذكرى مولد رسول الله في كل مناسبة في عقودنا في زفافاتنا في أفراحنا في أتراحنا في كل مناسبة من قال هذا؟ على أن لهذا الشهر خصوصية لا تنكر، فإن الله عز وجل قد فاوت بين الأزمنة كما فاوت بين الأمكنة، وإذا كان هنالك فضلٌ لمكانٍ لسر أودعه الله فيه كعرفة، وفضلٌ لمكان أودع الله فيه سراً عظيماً كالمكان الذي يثوي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفلا يودع الله عز وجل سراً في الزمان الذي يذكرنا بيوم ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

ما الفرق أيها الإخوة بين المكان الذي يحتضن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قبره، والزمان الذي يحتضن ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو اليوم الثاني عشر من ربيع، قل لي ما الفرق حتى تحترم المكان ولا تحترم الزمان. ولكن لعلهم يقولون ومن قال لكم: إننا نحترم المكان، إننا لا نحترم لا مكاناً ولا زماناً.

هذا القدر من الرد على هذا الجدل كافٍ أيها الإخوة، نحن رواد علم ولا نجادل إلا بعلم، تلك هي البدعة كما قد عرفتم معناها، وهذا الاحتفال أبعد ما يكون عن البدعة لأنها عادة وليست عبادة، فمن أبى إلا أن يحكم على ضمائرنا كما يحكم الله عز وجل بأننا نريد بذلك عبادةً فهم مفتئتون كاذبون.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي