مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 12/07/1996

عندما ينسى المسلمون فاعلية الله سبحانه وتعالى

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إن المسلم لا يستطيع أن يكون مؤمناً بالله حقاً إلا إذا سخر عقائد إيمانه وإسلامه لحياته السلوكية التي يقيمه الله سبحانه وتعالى عليها، فإذا كان الإنسان المسلم يخزن عقائده ويحبسها في عقله ثم إذا تعامل مع الحياة وتعامل وتقلب مع الدنيا وفي فجاجها نسي هذه العقائد أو انفصل عنها فما هو من المؤمنين بالله عز وجل حقاً.

ولعلّكم تعلمون أن من عقائد الإسلام التي ينبغي أن يؤمن بها الإنسان أيما إيمان، وأن لا يتسرب إلى يقينه شكٌ فيها أن الفعّال هو الله عز وجل في كل شيء، وأن القوة في الكون كله إنما هي قوة الله سبحانه وتعالى، وكم وكم يمر الإنسان على آيات في كتاب الله عز وجل تذكره بهذه الحقيقة إن كان ناسياً لها أو تعلمه إياها إن كان جاهلاً لها.

نحن نقرأ قول الله عز وجل: "اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" ولو وقفنا عند كلمة القيوم هذه لعرفنا أن معناها الذي ينبغي أن يعرفه كل إنسان أن الذي يقوم بأمر السموات والأرض وما بينهما خلقاً وإدارةً وتحريكاً إنما هو الله سبحانه وتعالى، وهذا هو معنى تلك الكلمة القدسية التي علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حول ولا قوة إلا بالله".

وكلنا يقرأ قول الله عز وجل: "إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ" ولو تأملنا قليلاً في معنى هذه الآية لعلمنا أنها تأكيدٌ للآية الأولى، وأن كلما تجده من حركةٍ في كون الله سبحانه وتعالى - أياً كان المتحرك - إنما تنبثق هذه الحركة فيه بقوة من الله سبحانه وتعالى.

وانظروا إلى قوله عز وجل في تلك السورة التي نكررها كثيراً وفي مناسبات شتى إذ يقول الله عز وجل: "وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ" كان ينبغي أن يقال بحسب الظاهر وفيما يفهمه حتى أكثر المسلمين اليوم كان ينبغي أن يقول: وآية لهم أن الفلك المشحون قد حملهم، ولكن الله عز وجل قال: "وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ" نعم لقد استقلوا الفلك، لكن من الذي حمل الفلك وحملهم؟ هو الله عز وجل.

هذه أوليةٌ من أوليات العقيدة الإسلامية ولكن العجيب أيها الإخوة أننا عندما ندرس العقائد نؤمن بهذه الحقيقة وندافع عنها ونحفظها جيداً في أدمغتنا وعقولنا، فإذا تحولنا إلى التعامل مع الحياة، واحتككنا بالناس، ونظرنا إلى حركات المكونات والأمم والجماعات نسينا هذه الحقيقة ونسبنا الأشياء إلى أسبابها الظاهرة، فأين هي هذه العقيدة التي ينبغي أن تكون المهيمنة على يقيننا وعلى سلوكنا وعلى علاقاتنا الاجتماعية مع الناس جميعاً؟

أقول هذا الكلام أيها الإخوة لأعزي كل مسلم أمام الأحداث التي يراها من حوله ناسياً هذا المعنى الذي قلته الآن، ناسياً هذا المبدأ الأساسي الكبير من مبادئ العقيدة الإسلامية. هؤلاء الكثرة من المسلمين الذين كادت الأحداث التي من حولهم تزجهم في ضرام اليأس، الأعداء الذين يحيطون بالإسلام والمسلمين قد أحدقوا بالمسلمين من كل صوب، والقوى المتربصة بهم قد تظافرت جهودها من عن يمينٍ وشمال، من كل الجهات المختلفة المتنوعة، والعدو الجاثم في أرضنا يُزبد ويرغي ويهدد ويتوعد، والقوى العالمية الكبرى ماضيةٌ في دعمها له، والمسلمون متناثرون متباعدون متخاصمون ... هذه هي الظاهرة باختصار.

فأما الواقع الذي ربما كان أشدّ سوءً من هذا الذي وصفته لكم، فهو واقع كثير من المسلمين الذين نسوا هذا المبدأ الأساسي في العقيدة واستسلموا للأسباب المادية وتخيلوا نتائجها وتوقفوا عندها ثم زجهم ذلك كله في ضرام اليأس. ما ينبغي للمسلم إن كان مسلماً أن يتعامل مع الكون أو مع المجتمعات على هذا الأساس أبداً، وإلا ففيما العقيدة الإسلامية؟ وما هي رسالتها إن لم يقم لها دور فعال في الحياة؟

أيها الإخوة كل ما ترون من هذه المظاهر التي قد تبث في نفوس بعض الناس اليأس، كل ذلك جنودٌ مجندة بيد الله عز وجل: "وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ". ينبغي أن نعلم هذه الحقيقة تماماً.

فأمريكا التي ترعى العدوان المستشري ضد الإسلام، وتغذي الإرهاب العالمي الذي يتجه ضد إسلام المسلمين وضد حقوقهم، وما وراء ذلك مما يمكن أن ترون ومن لا أريد أن أطيل الحديث فيه ... كل ذلك إنما يتحرك بقدرة مباشرة من الله، كل ذلك مظهرٌ لقول الله سبحانه وتعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ" كل ذلك مظهرٌ لقول الله سبحانه وتعالى: "اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" أجل أيها الإخوة.

ينبغي أن تعلموا هذا .. فإذا علمتم ذلك أثمرت هذه المعرفة ثمرتين اثنتين كل منهما يقربنا إلى الله عز وجل:

أما الثمرة الأولى: فهي أننا سنتساءل ترى لماذا يسلط الله علينا جنده هؤلاء؟ جندٌ يسلطهم الله عز وجل علينا مهما كانت الصور والأشكال التي تبرز فيها هذه الجنود، لابد أننا أسأنا، ولابد أننا انحرفنا، ولابد أننا خرجنا عن خطة الرشد ولذلك سلط الله عز وجل علينا هذا الجند. هذه الثمرة الأولى التي تفيدنا عندما نعلم أن القوى المحيطة بنا إنما يحركها الله ولا تتحرك إلا بقوة من الله عز وجل، فإذا عرفنا ذلك وشممنا أكفنا رجعنا إلى ذنوبنا نتوب عنها، ورجعنا إلى اعوجاجنا نستبدله باستقامةٍ وسيرٍ على صراط الله سبحانه وتعالى.

والنتيجة أو الثمرة الثانية هي أننا لا يمكن أن نزج في ضرام اليأس أبداً، ذلك لأنا إن علمنا أن الله هو الفعال، وأن كل ما في الكون جنودٌ مقهورون بيد الله سبحانه وتعالى تذكرنا قول الله عز وجل: "يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ".

نتذكر التأكيدات التي أكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شرح هذه الآية ومعناها، من مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن الله زوى ليّ الأرض فأراني مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها". من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "سيبلغ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار" وعندئذٍ لا يمكن لهذه الأحداث أن تدخل أي ريبةٍ في قرار الله سبحانه وتعالى وبيانه.

وإذا أردتم أيها الإخوة ما يزيدكم طمأنينة على هذه الحقيقة، وما يعيدكم إلى حمى العقيدة الإسلامية التي ينبغي أن تُسخر في سلوكنا العملي وفي علاقاتنا مع الآخرين، فانظروا إلى أحداث التاريخ وتأملوا التاريخ الماضي كيف كان أهل تلك العصور يتوقعون حسب الأسباب المادية المرئية أمامهم، ثم كيف سار التاريخ مناقضاً لتلك التصورات التي كانوا يتصورونها. انظروا إلى التاريخ الماضي وسيروا معه إلى يومنا هذا، تجدون أنه ما من جيلٍ من الأجيال رسم خطةً بيده بناءً على رؤىً مادية إلا وكانت النتيجة مناقضة لهذا الذي تصوروه، كانت النتيجة خاضعة لخطة رب العالمين الخفية إلى يومنا هذا، ولا يتسع الوقت لضرب الأمثلة الكثيرة. ولكن فلنضرب مثلاً واحداً:

هذه الأمة المسلمة (تركية) التي شاء الله عز وجل لأسباب يطول الحديث عنها أن ينحسر الإسلام عنها في فترةٍ حالكةٍ من الزمن، شاء الله عز وجل أن ينحسر عنها الإسلام انحساراً كلياً تماماً كما يخلع الإنسان ثوبه ويلقيه بعيداً شكلاً وموضوعاً، ابتعدت تلك الأمة عن الإسلام فلا اللسان العربي يسمح به أن يتداول، ولا كتاب الله عز وجل يمكن الإقبال عليه بدراسةٍ وعلم أو تعلم، ولا الأذان باللغة العربية يمكن أن ترتفع به الأصوات وهكذا ...

وقامت معاهدةٌ معروفة قبل ما لا يقل عن سبعين عاماً بين تلك القوى التي جحدت بدين الله عز وجل وبين بريطانيا في معاهدةٍ اسمها معاهدة لوزان، أن تبتعد هذه الأمة ابتعاداً كلياً عن الدين خلال ما لا يزيد على ثلاثين عاماً بهذا الشرط، وتعهدت القوة العلمانية في تركيا بذلك وأطبقت دول البغي كله تعين على تطبيق هذه المعاهدة، كل الوسائل المادية سارت على هذا المنوال، وكل القوى البشرية دعمت هذا النهج. ولكن فما الذي انتصر بعد ذلك؟ الأسباب المادية الظاهرة كلها تسير هكذا نحو العلمانية، ونحو مزيدٍ من الابتعاد عن دين الله عز وجل. وكم وكم من مسلمين أُخذوا بهذه الأسباب المادية ونسوا العقيدة الإيمانية التي افتتحت بها كلمتي الآن. هكذا كانت تسير الأسباب المادية، ولكن هذه الأمة كيف سارت فعلاً؟ كانت تسير سيراً مناقضاً لما تقتضيه هذه الخطة والأسباب، بأي قوة؟ لا أحد يرى. بأي فعالية؟ ليست هنالك عينٌ تبصر، ذلك لأنها قوة الله، ولأنها خطة رب العالمين سبحانه وتعالى.

ويعيش المسلمون اليوم ليروا هذه الحقيقة التي أقولها لكم، ليروا الخزي الذي أحاط بمعاهدة لوزان، بل ليروا الخزي الذي أحاط بجنود البغي إن في تركيا وإن في العالم المحيط بالإسلام والمسلمين الذي عاهد الشياطين الإنس والجن على الكيد لدين الله عز وجل.

ها هي ذي تلك الأمة تتنفس الصعداء، وها هي ذي تمارس دينها شكلاً ومضموناً، وها هو ذا الآذان يجلجل فوق أرفع المآذن في تلك البلاد، وها هو ذا كتاب الله عز وجل يُتلى صباح مساء، وها هي ذي الأذهان تحفظ كتاب الله عز وجل عن ظهر غيب، وها هي ذي اللغة العربية تغزو ذلك المجتمع، لا بل تُشرف ذلك المجتمع الذي حالت أو أرادت قوى الشر أن تحول بينه وبين الإسلام. ثم إنكم لتجدون نتيجة النتائج بعد هذا، إنكم لتجدون كيف أن الإسلام عاد ليحكم، بدأ فعاد ليحكم، تجدون هذا كله.

هذا المثل أضربه لكم أيها الإخوة لكي تربطوا العقيدة الإسلامية التي لا يتم إسلام المؤمن إلا بها بالواقع بالحياة، وإلا فلا معنى لعقيدةٍ إسلامية نحبسها في عقولنا ثم نتعامل مع الحياة على أساسٍ من نقيض هذه العقيدة، ولسوف يكون المستقبل حاملاً لمزيدٍ من الأدلة على هذا الذي أقوله لكم.

لكن لا تنسوا الثمرة الأولى: هؤلاء الجنود الذين يسلطهم الله علينا يسلطهم تأديباً لنا، ولو أن المسلمين كانوا على مستوى التأديب الرباني، تابوا إلى الله، عادوا إلى الله التجأوا إلى حظيرة القدس، عادوا يعلنون عن رجوعهم إلى صراط الله عز وجل، إذاً لحول الله هؤلاء الجنود إلى جنودٍ ينتصرون لدين الله سبحانه وتعالى.

احفظوا هاتين الثمرتين ثم اذكروا أن العقيدة الإيمانية التي تتمثل في التوحيد، هذا هو معنى التوحيد أيها الإخوة، هذا التوحيد ينبغي أن نمارسه سلوكاً في حياتنا، وينبغي أن لا ننسى عندما نجد أنفسنا نغرق في أمواج من الأسباب المادية المختلفة المتنوعة. ما الأسباب المادية؟ إنها من جنود الله سبحانه وتعالى.

والعجب كل العجب أيها الإخوة من أناسٍ يجادلون مجادلة بيزنطية متكلفة ممجوجة في معنى التوحيد، ويقارعون بل يتقارعون، ويخاصمون بل يتخاصمون ضمن مجالس نظرية لا تنتج إلا الأحقاد وإلا الضغائن حول التوحيد وكيف يكون التوحيد وكيف يكون التنزه عن التوحيد.

أمّا ربط التوحيد لله عز وجل بالحياة، أمّا أن نعلم أن هذا التقلب الذي يجري في الكون إنما يجري بيد من الله عز وجل، إنما يديره قيّوم السموات والأرض، وأن الأسباب تذوب وتذوب إلى أن تنمحي في ضرام قول الله عز وجل، "إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا"، أمّا أن يربط هؤلاء الناس توحيد الله بهذا الواقع، فهم عن هذا غافلون، وهم عن هذا تائهون، بل إني لأُراهم عندما يتعاملون مع الحياة وهم الذين يرفعون لواء التوحيد ويحذرون من الشرك يغرقون في شبر من الأسباب المادية المتنوعة، وينسون فاعلية الله سبحانه وتعالى. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .

تحميل



تشغيل

صوتي