مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 28/06/1996

تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

تقرأون جميعاً في كتاب الله سبحانه وتعالى تلك الآية التي ألزم الله عز وجل ذاته العليّة من خلالها، بأن يجعل الصفوة من عباده فوق هذه الأرض هم قادة الناس جميعاً وأئمة الأسرة الإنسانية. كلكم يقرأ في ذلك قول الله سبحانه وتعالى: "وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ". ولعلكم تقرأون تلك الآية الأخرى التي تدعم هذه الآية وتزيدها جلاءً وتأكيداً وهي قول الله سبحانه وتعالى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً" وقوله عز وجل: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً". هذا وعدٌ قاطعٌ من الله عز وجل ألزم به ذاته العليّة وكلكم يعلم أن القرآن كلام الله وأن وعد الله سبحانه وتعالى لا يلحقه خلفٌ قط.

ولكن لعل في الناس من يستشكل هذا الذي وعد الله عز وجل ذاته العليّة مع آية أخرى أوصى فيها الله سبحانه وتعالى هذه الصفوة من عباده بالابتعاد عن الولاية والابتعاد عن أسباب العلو في الأرض، وذلك عندما قال عز وجل: "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ"؛ ربما قال قائلٌ: كيف يُطمع الله عباده في أن يجعلهم أئمة مستخلفين في الأرض وقادة على غيرهم، ثم إنه يحذرهم من التوجه إلى العلو في الأرض؟

ينبغي أيها الإخوة أن نعلم وجه التناسق بين الآية التي ألزم الله عز وجل فيها ذاته بهذه العِدَة، وبين هذه الوصية الأخرى التي أوصى الله بها عباده: "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ" أي نجعلها للذين لا يستكبرون على الآخرين، نجعلها للذين لا يطمحون إلى التعالي على إخوانهم وإلى التباهي عليهم، لا يلهثون مع إخوانهم وزملائهم في سباق إلى كراسي الحكم من أجل العلو ومن أجل التسامي ذلك، لأن الإنسان الذي يطمع أو يطمح إلى مثل هذا ليس هو الذي وعده الله سبحانه وتعالى بهذه الإمامة ولا بهذه القيادة. ينبغي أن تعلموا هذه الحقيقة جيداً.

لكي تنالوا الإمامة في الأرض ولكي تصبحوا فعلاً أئمةً كما وعد الله عز وجل، ينبغي أن تتحققوا بهاتين الوصيتين أولاً، فلا تطمعوا في علوٍ في الأرض أبداً، ولا تسلكوا مسالك الفساد بين عباد الله عز وجل أبداً، فإذا تحققتم بهذين الوصفين فأنا أعدكم أن أعلو أنا بكم بعد أن زهدتم أنتم في العلو، أعدكم أن أعلو بكم إلى مستوى القيادة والإمامة التامة على الأسرة الإنسانية جمعاء. وكيف يتنزه المسلمون عن حب العلو في الأرض؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟

السبيل إلى ذلك أن يذوق الإنسان حقيقةً معنى عبوديته لله عز وجل، ثم أن يمارس هذه العبودية بسلوكه في هذه الحياة الدنيا، يعلم بيقينه العقلي ثم بمشاعره الوجدانية أنه عبد مملوك لله سبحانه وتعالى، يتحرك في قبضة الله عز وجل، وأن الناس من حوله جميعاً عبادٌ لله سبحانه وتعالى، فإذا عرفت هذه الحقيقة وتذوقتها فمن أين يمكن أن ينبثق في كياني حب التعالي في الأرض؟ وكيف يمكن أن أطمح إلى أن أعلو على إخواني في المكانة والرتبة ونحو ذلك؟ عبوديتي لله تمنعني من ذلك. وعبودية الآخرين لله أيضاً يجعلهم إخوةً متحابين متآلفين يؤثر الواحد منهم صاحبه على نفسه في التعالي والسمو.

عندما يجد الله عباده وقد تحققوا بهذا الوصف، وهذا يجرهم بالتالي إلى أن لا يكونوا مفسدين في الأرض بل يكونوا مصلحين دائماً، عندئذٍ يأتي دور الوعد الذي ألزم الله عز وجل به ذاته العليّة عندما قال: "وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ".

كم من الناس من شردوا عن هذا المعنى العظيم، بل شردوا عن وجه التناسق بين هاتين الآيتين. قرأوا الآية التي ألزم الله عز وجل فيها ذاته بهذا الوعد، فظنوا أن هذا إذنٌ لهم بأن يفتحوا أمامهم السبيل إلى منافسة الآخرين، وإلى سباقهم، والتعالي عليهم، من أجل الذات ومن أجل المباهاة وإشباعاً لرغبة الكبرياء، ونسوا قول الله عز وجل: "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ". فإذا رأيتم اليوم أن المسلمين في جل أوطانهم وبلادهم بعيدون عن المعنى الذي وعدهم الله عز وجل به، محكومون دون أن يحكموا، مقودون دون أن يقودوا، ليسوا أئمةً كما وعد الله عز وجل، فذلك لأنهم لم يتحققوا بقوله عز وجل: "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً".

ولكي لا نبتغي في الأرض علواً ولا فساداً ينبغي أن نتحقق بمعنى العبودية لله عز وجل، لا شكلاً ولا تقليداً ولا بشعارات فارغة، وإنما بمعنىً من معاني الشعور والذوق بحيث يدفعنا هذا الشعور إلى السلوك، وبحيث تكون حياتنا تعبيراً عن عبوديتنا لله سبحانه وتعالى، عندئذٍ ينفذ الله سبحانه وتعالى لنا وعده الذي ألزم ذاته العلية به جل جلاله. وكيف يكون ذلك أيها الإخوة؟

إن الله عز وجل منذ أن شرّف عباده بهذا الدين الحق، ولقد قلت بالأمس وأقول وكررتها مراراً: إن الدين الحق في حياة الأسرة الإنسانية دينٌ واحد - كان ولايزال واحداً، وإن تلاعب به الناس عبر الأجيال والقرون فجعلوا منه أدياناً متهارجة متخالفة - منذ أن شرف الله عباده بهذا الدين، جعل من هذا الدين أقوى سلاح يدخل الرهبة والخوف في أفئدة أعداء الله سبحانه وتعالى. هذه الحقيقة كانت ولا تزال إلى اليوم مُطبّقة ومحققة. كيف؟ وقد ألزم الله عز وجل ذاته بهذا أيضاً وأنبأنا بهذه الحقيقة ألم تقرأوا قول الله عز وجل: "وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةُ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونُ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ" هذا كلام الله، بل هذه سنة الله ماضية إلى يوم القيامة حتى في هذا العصر الذي أصبح المسلمون فيه مزقاً متناثرة، وآلت حياة المسلمين إلى تبعيات لفئات لا تقيم لدين الله عز وجل وزنا، وأصبح لعابهم يسيل على الدنيا وحطامها، وتركوا ما أغراهم الله به ورائهم ظهرياً، على الرغم من هذا كله فإنك لتنظر فتجد أعداء الله سبحانه وتعالى يرهبون من هذا الدين الإسلامي أيّما رهبة إلى هذا اليوم.

وسبحان الإله العظيم الحكيم الذي جمع في حياة أولئك الأعداء اليوم أمرين اثنين: الخوف والهلع من دين الله في قلوبهم، والقوة وأسباب المنعة المادية في أيديهم. انظروا وتأملوا تدركون كيف جمع الله لهم بين هذا وذاك. تأملوا في مشاعرهم القلبية تجدوها مليئة لا بالخوف بل بالهلع من دين الله الحق الذي هو هذا الإسلام، ولكنك تنظر فتجد في الوقت ذاته أيديهم مليئة بالقوة المادية التي أمكنهم الله منها. هذا لماذا؟ مقابل ما نحن عليه، نتصف نحن أيضاً بصفتين اثنتين إسلامٍ نرتبط به انتماءً، ونتمسك به بشعاراتٍ جوفاء لا معنى لها ومن وراء ذلك القلب تبعيات ومحبة لاتباع هؤلاء وهؤلاء وأولئك، كما تعلمون وتلاحظون.

لما آل أمر المسلمين إلى هذه الحالة أقام الله من واقع أعداء المسلمين أقامهم على هذين الوصفين، هلعٌ من دين الله في كل لحظة يفري أفئدتهم ويأخذ بمجامع قلوبهم، وقوة ذات يد تتجمع لديهم.

انظروا أيها الإخوة .. ما من مظهرٍ من مظاهر الإسلام يعلن عن نفسه في مكانٍ ما، إلا وتجدون الرقاب قد اشرأبت والعيون قد جحظت بل دارت كما يقول الله سبحانه وتعالى خوفاً، وجاء رسلهم يبحثون ويتسائلون ويكتبون ويقررون ماذا حدث؟ ماذا وراء ذاك؟ ما الذي سيحدث وراء عودة المسلمين إلى إسلامهم؟

ألا تعتزون بهذا الذي أعزكم الله به! ألا تشعرون وأنتم تعانون من الضعف إلى أقصى درجاته، ومن مرض الذل إلى أحط دركاته! ألا تجدون أن الله قد وضع أمامكم الترياق الشافي! فلماذا لا تستعملون هذا الترياق؟ بل ليت شعري لماذا لا يستعمل الحُكام المسلمون هذا الترياق؟ الذين يشعرون بألم التشرذم وبأسى الذل الذي هيمن على كياناتهم؟ وكلٌ منهم يعلم أكثر مما أعلم أن أعداء الله عز وجل على الرغم من القوى المتجمعة لديهم تفيض قلوبهم خوفاً إلى درجة الهلع من دين الله سبحانه وتعالى الذي شرف الله سبحانه وتعالى به عباده.

هذا على الرغم من أن المسلمين بعيدون عن دينهم، هذا على الرغم من أن الإسلام آل حاله إلى مظاهر براقة وإلى إنتماءات وشعارات مذوقة، فكيف لو كان المسلمون مسلمين حقاً؟ وكيف لو كان الإسلام تفاعلاً بين قادة هذه الأمة وشعوبها كيف؟ وعندما نقول: الإسلام. فمعاذ الله أن نعني بالإسلام إلا هذا الذي جمعه الله ولخصه في هذين الوصفين: "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً" الفساد في الأرض نقيض الإسلام، لأن الإسلام جعل للإصلاح وللصلاح، وكل من عاث فساداً في الأرض فلتعلموا أنه يمارس عدواناً معلناً أو غير معلن لدين الله سبحانه وتعالى.

هذه حقيقة نعرفها، ومن ثم فإن كل من يعلن أنه يقف في وجه الإسلام ويحاول أن يخنق التوجهات الإسلامية، فلتعلموا أنه يعلن في الوقت ذاته أنه يسير ضد الصلاح والإصلاح في كل مكان، ويحاول أن يزرع الأرض فساداً وبأسباب الفساد أجمع.

دين الله عز وجل هو الحصن الوحيد للأمن والطمأنينة والسلام والصلاح. ولكن من ذا الذي يجهل أن الحصن الذي يحقق هذا كله لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان هذا الحصن مجموعة عيون ساهرة ضد الظلم والظالمين؟ ضد المغتصبين والاغتصاب؟ ضد المتربصين بحقوق وحياة الأبرياء؟ لا يمكن للصلاح أن يتم إلا إذا حُصِّن حقل هذا الصلاح بحماية له.

هذا المعنى ينبغي أن نعلمه جيداً، وبين هذين الأمرين تفاعلٌ يعرفه كل من درس شريعة الله سبحانه وتعالى، وانظروا لتعتزوا بهذا المعنى الذي أقوله لكم إلى ما يقوله جل جلاله في محكم تبيانه: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهاد".

وأقول: إن الذين يحرصون حقاً وصدقاً على السلام والأمن والطمأنينة عليهم أن يحرصوا قبل ذلك على العدالة، أما الذي يحاول بيدٍ واحدة أن يقتل الأبرياء وأن يستلب الحقوق وأن يجتث النبات اللدن الذي يُغرس بيد السلام والإسلام في الأرض، وبيدٍ أخرى يحاول أن يردع من يسميهم بالإرهابيين، فليعلم أن الناس كلهم سيكتشفون دجله، لا يمكن لطفلٍ صغير أن يجهل دجل هذا الإنسان الذي يستعمل يده الواحدة للإفساد وسفك الدماء بكل الوسائل والأسباب، ثم يستعمل يده الأخرى فيما يزعم بحماية حق السلام وبحماية الأمن والطمأنينة.

لا .. لم يصبح الناس مجانين بعد، ودين الله سبحانه وتعالى علم الذين لا يعلمون وتوج عقولهم بالمعارف التي ترفعهم عن مستوى الإنخداع بهذه الظاهرة . أقول قولي وأستغفر الله العظيم

تحميل



تشغيل

صوتي