مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 07/06/1996

سبب فساد المجتمعات الإسلامية

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إن سبب فساد المجتمعات الإسلامية محصورٌ في أمرين اثنين: إما أن يغيض في ذلك المجتمع واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا السبب الأول، وإما أن يشيع فيه واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكنه لا يصادف آذاناً مُصغية ولا نفوساً متقبلة، وإنما يُواجه بنفوسٍ متمردةٍ وآذانٍ تُصم نفسها عن سماع الحق. هذان هما السببان اللذان إليهما مردُ فساد المجتمعات الإسلامية، ولا أعتقد أن من وراء ذلك سبباً ثالثاً. وانظروا في هذا إلى قول الله عز وجل: "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" أي المجتمع الذي يشيع فيه هذا الواجب وتنتشر فيه هذه المسؤولية هو المجتمع الذي يتصف بالفلاح والرشد.

ومعنى ذلك .. أن هذا الواجب إذا غاض في المجتمع فلم تعد هنالك ألسن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فلا شك أن هذا المجتمع لابد أن ينحرف عن طريق الفلاح وأن ينحط في طريق الغواية والضلال، ثم انظروا في هذا إلى قول الله عز وجل: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ" أي إذا أُمر بالمعروف ونُهي عن المنكر "وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ".

أرأيتم إلى نص الكتاب المبين كيف يعلن صراحةً أن مردَّ فساد المجتمعات الإسلامية إلى أحد هذين المرضين: إما أن تختفي مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا سبب، وإما أن لا تختفي ولكن لا تصادف هذه المسؤولية آذاناً صاغية ولا نفوساً متقبلة، بل تجد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يصطدمان بنفوسٍ قد أخذتها العزة بالإثم، وأعتقد أن مجتمعاتنا الإسلامية اليوم تعاني من هذين المرضين معاً، فواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اختفى أو كاد يختفي وأصبحت الفئة التي تتذكر المعروف لتأمر به وترى المنكر لتنهى عنه فئةً قليلة جداً، ولكن مجتمعاتنا حتى عندما يوجد فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لماماً وفي الحالات النادرة، فالغالب أن يُصادف هذا الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر نفوساً يصدق عليها وصف الله سبحانه وتعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ".

ثم يقول الله عز وجل ونسأله العفو والعافية: "فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ". كم وكم تذكرتُ معروفاً ينبغي أن آمر به، وكم وكم رأيت منكراً ينبغي أن أُحذر منه. فقلت .. وذَكّرت .. أمرت .. ونهيت جُهد الاستطاعة وبالأسلوب الإنساني اللطيف، ولكني ما أذكر أني مرةً رأيت صدىً إيجابياً لهذه التذكرة قط إلا في الحالات النادرة جداً، الصدى الذي رأيته ولا أزال أراه هو ذاك الذي يُذكرني مع خوفٍ شديد بقول الله سبحانه وتعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ".

إذاً فمجتمعاتنا تعاني من هذين الداءين معاً، قلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جانب، ومواجهة هذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعزةٍ تتأبى على الانصياع لهذه التذكرة من جانبٍ آخر.

ولا أريد أن أضرب الأمثلة أيها الإخوة، ولا أريد أن أحدثكم عن الجوانب التي ذكرت فيها بمعروف أو نهيت من خلالها عن منكر فالأمثلة كثيرة، ولعلي ذكرت أكثر من مرة في ما مضى العبرة التي جنيتها من وراء ذلك لقد قلت أكثر من مرة جربت أن التفت إلى فئات من الناس قد ذهلوا عن واجب الله عز وجل فانحرفوا إلى بعض المحرمات أو تناسوا أو نسوا بعض الواجبات؛ لاحقت هؤلاء الفئات بالتذكرة اللطيفة الإنسانية المقبولة، فما رأيت نتيجةً لهذه التذكرة إلا التأفف وإلا الضجر وإلا ما قد قاله الله سبحانه وتعالى العزة التي قد حجبت آذان هؤلاء الناس عن تذكرة الحق.

وقد قلت لكم مرة: إنني جربت أن أطرق أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلها بالنسبة لسائر فئات الناس، فما رأيت أحداً يُصغي إلى معروفٍ أُذكر به أو يصغي إلى منكرٍ أنهاه عنه، ولذا فخير ما ينبغي أن أتسلى به هو أن اتجه إلى الحكام فآمرهم هم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، ولعل هؤلاء أقل الفئات تأففاً. وهذا ما قد رأيته ولعل هؤلاء أقل الفئات احتجاباً عن الحق بعزة النفس ربما لا يستجيبون ولكنهم في أسوأ الأحوال يلوذون بالصمت. أما تلك الفئات الأخرى من فئات هذا الشعب أو هذه الأمة التي تستشري بين جوانحها البغضاء وتأخذها العزة فعلاً بالإثم وتتأبى على التذكرة فتلك هي المصيبة التي لا دواء لها.

عندما يشيع في المجتمع انحراف، أو يتكاثر سعيٌ إلى مُحرّم أو ارتكاب منكر، فالدواء واضح والدواء ماثلٌ وقريب وهو: أن يوجد من يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر، الدواء أن يوجد من يقول لهؤلاء الناس أيها الإخوة هذا منكرٌ فاعرضوا عنه وهذا واجبٌ أو معروف فتشبثوا به، ولكن ما الداء؟ عندما يوجد بالأمر بالمعروف ويوجد النهي عن المنكر ومع ذلك تبقى هذه الفئة التي تلبست بمنكرٍ أو نسيت معروفاً تبقى محجوبة عن هذه التذكرة، وتأخذها العزة بالإثم، وتتأبى وتتأفف، وتعلن الضجر كل الضجر عن هذا المعروف الذي ذُكرَت به، في هذه الحالة ما العلاج أيها الإخوة؟ الأمر بالمعروف نُفِّذ والنهي عن المنكر نُفّذ ولكن عندما تكون النتيجة هكذا ما هو العلاج؟

الملاذ هو الله، والمفر إلى الله سبحانه وتعالى، ونحن من أي الفئات كنا سواءٌ كنا ممن يُذكِّر أو ممن يُذكَّر ينبغي أن يكون الحكم الفصل فيما بيننا ميزان شرع الله، ميزان هدي الله، الانصياع لحكم الله سبحانه وتعالى، فإذا ذُكرت بمعروف فلأرجع لهذا التشريع، هذا التشريع سيوضح لي ما إذا كان هذا الذي يذكرني مفتئتاً علي أو متطرفاً أو مبالغاً أو كان عادلاً في حكمه وتذكرته. فلماذا لا نجعل من شريعة الله الحكم؟ لماذا لا نجعل من ميزان هذا الدين الجامع لشمل هاتين الفئتين التي تُذكر والتي تُذكَّر.

ألم يقل الله سبحانه وتعالى: "فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا".؟! فإذا تأففنا من حكم الله ومن شرعه وهديه الذي نلوذ به كلما أمرنا بمعروف، ونلوذ به كلما نهينا عن منكر، إذا تأففنا من شرع الله عز وجل فمعنى ذلك أننا قطعنا ما بيننا وبين سبل الصلاح آخر خط من الخطوط، وأنهينا سبيل العلاج لإصلاحنا بشكلٍ كلي.

أيها الإخوة كما قلت لكم: الأمثلة كثيرة في ذهني وأنا لا أريد أن أضرب المُثل لأن المسألة ليست متعلقة بجزئية من الجزئيات، المشكلة تتمثل في كليةٍ خطيرة جداً، أننا نتأبى على التذكرة بالخير وعلى النهي عن المنكر؛ أياً كان نوع هذا الخير الذي نأمر به وأياً كان نوع هذا المنكر الذي نحذر منه وننهى عنه.

تلك هي المصيبة .. دعوا الجزئيات، ولكن كثرة هذه الجزئيات تنبهنا إلى كلي هذا المرض العضال الذي نعاني منه، وأنا عندما أقول هذا الكلام، لابد أستثني قلة التي يرحمها الله عز وجل دائماً، ولكن ينبغي أن نعلم أن القلة لا تفيد عندما يستشري السوء ويزداد في المجتمع كله لا تفيد، ما معنى أن أقول: هنالك قلة، وأنا لا أستطيع أن أعتمد عليها في رحمةٍ يكرمنا الله بها، ألم يقل الله عز وجل: "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً".

هذا هو داؤنا وهذا يدعوني إلى أن أقول لكم: عندما نعافى من هذا الداء فيشيع في مجتمعنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقدرٍ كافٍ وافٍ يغطي حاجات مجتمعنا، وإذا كان الذين يُذكَّرون بهذا المعروف وينهون عن المنكر يتمتعون بآذان صاغية ونفوسٍ راضية تقبل الخير الذي تُأمر به وتقبل أن تُقلع عن الشر الذي تُنهى عنه، فاعلموا أن مجتمعنا عندئذٍ سينتشل من ضلاله وضياعه وأنه سيرقى إلى مستوى الصلاح والأمن والطمأنينة والقوة. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم .

تحميل



تشغيل

صوتي